كان مصطلح “التحكم” بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس في المشهد السياسي المغربي، وخلقت جلبة داخل الأوساط السياسية والإعلامية بحر الأسبوع الجاري، حين صرح الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية نبيل بن عبد الله لصحيفة أسبوعية مغربية، متحدثًا بما يفيد: “مشكلتنا ليست مع الأصالة والمعاصرة كحزب، بل مشكلتنا مع من يوجد وراءه ومع من أسسه، وهو بالضبط من يجسد التحكم”، وهي إشارة إلى مستشار ملكي، والذي سبق وأن أسس حزب “البام” سنة 2008 امتدادًا لـ “حركة لكل الديمقراطيين”، قبل أن يكتسح نفس الحزب الساحة السياسية المغربية بعد سنة من تأسيسه، ليصنفه كثير من السياسيين والمتتبعين الذين لم يستسيغوا ظرفية وظروف ميلاده، ضمن الأحزاب الإدارية الجديدة بالمغرب.
الأسبوعية نفسها التي نشرت الحوار، سارعت عبر موقعها الإلكتروني إلى نشر اعتذار وتصويب ينطبق عليه المثل العربي “سبق السيف العذل”، شارحة أن ما وقع، مرده عدم التدقيق في نقل جواب وزير السكنى وسياسة المدينة نبيل بن عبد الله، الأمين العام لحزب “التقدم والاشتراكية”، خلال الحوار عند حديثه عن تأسيس حزب “الأصالة والمعاصرة”، مضيفة أنه ورد خطأ غير مقصود في الترجمة الحرفية، غير أن الصحيح أن الأمر يتعلق بفكرة التأسيس والمؤسسين، وليس عبارة “المؤسس” كما أوردت الجريدة.
وبالرجوع إلى مصطلح “التحكم” هذا، نجده قد سبق تداوله من لدن مجموعة من القيادات الحزبية، وخاصة داخل حزب العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة الحالية، وتم توظيفه غير ما مرة من طرف عبد الإله بن كيران رئيس الحكومة الحالي، والذي سبق وأن استعار له مصطلحات مماثلة من قبيل الدولة العميقة، والعفاريت والتماسيح، لكنها لم تحظ بأهمية ترقى إلى مستوى تلقي رد مباشر ببلاغ صادر عن الديوان الملكي، اللهم ما صار يطلق عليه بالغضبة الملكية والتي جسدها خطاب العرش الأخير، والذي أوضح عدم قبول إقحام المؤسسة الملكية في صراعات وحسابات سياسية، كما سبق وأن عبر ملك المغرب كذلك في خطاب سابق عن انتمائه الحزبي وهو المغرب.
وفي مقابل عبارة “التحكم” على لسان نبيل بن عبد الله، جاءت عبارة “التضليل السياسي” كمصطلح يماهي سابقه واختاره القصر للتعبير عن امتعاضه من تصريحات الأمين العام لحزب الكتاب المغربي، بلغة البلاغ التوضيحي الذي أصدره يومه الثلاثاء 13 شتنبر 2016، والذي لم يعد يقبل حسب منطوقه تصريحات قيادات الأحزاب وخاصة ممن يتحملوا مسؤوليات داخل دواليب الحكومة، في فترة وصفها بالانتخابية والتي تقتضي الإحجام عن إطلاق تصريحات لا أساس لها من الصحة، واستعمال مفاهيم تسيء لسمعة الوطن، وتمس بحرمة ومصداقية المؤسسات، في محاولة لكسب أصوات وتعاطف الناخبين، وتتنافى مع مقتضيات الدستور والقوانين، التي تؤطر العلاقة بين المؤسسة الملكية، وجميع المؤسسات والهيئات الوطنية، بما فيها الأحزاب السياسية.
كما حمل بلاغ الديوان الملكي رسائل مشفرة أخرى بكون الترويج لخطابات تتسم بالعمومية والتجريد وتفتقد للدليل المادي، وتستثمر الغمز واللمز لم تعد مقبولة مستقبلاً، ولن تمر مرور الكرام دون حسم أو رد، وهي رسالة لا محالة ستلتقطها باقي القيادات الحزبية وباقي رجالات الدولة في ترويجهم لأي خطاب للمظلومية، مضيفًا أن تلك التصريحات لا تخص سوى صاحبها وحده، وهي رسالة واضحة لا تحتاج لأكثر من تأويل، في حين يشيد ذات البلاغ بأداء حزب التقدم والاشتراكية، ومساره التاريخي في بناء صرح الدولة الديمقراطية بالمغرب.
في المقابل حزب التقدم والاشتراكية تلقى بلاغ الديوان الملكي بمنطق المثل الشعبي “الضربة لي ما تقسم الظهر تقويه” واستثمر وقته الكافي قبل انعقاد اجتماع مكتبه السياسي الأسبوعي للتداول في نص البلاغ الملكي، وليلة نفس اليوم أي الأربعاء 14 سبتمبر 2016 جاءت الصياغة اللغوية لبلاغ الديوان السياسي، تحمل بين طياتها الكثير من “الحرفة والصنعة” حيث سوق حزب “علي يعته” عبارات الحزب المنسجم والمتماسك والملتف حول قيادته، واعتبر تصريحات أمينه العام بصفته ناطقًا رسميًا، عادية في المجتمعات الديمقراطية، وتندرج في سياق التنافس الحزبي الطبيعي، والصراع الفكري والتعبير عن الآراء والمواقف، حيث حاول حصر ما وقع في مجرد نزاعات حزبية محضة لم يكن أبدًا في نية حزب التقدم والاشتراكية وأمينه العام إقحام المؤسسة الملكية فيها بأي شكل من الأشكال بأسلوب لا يخلو من الغزل السياسي.
كما أن أعضاءه امتنعوا عن إعطاء أي تصريحات قبلية قد يتم استغلالها إعلاميًا، وهو الأمر الذي انطبق على نبيل بن عبد الله حتى بعد صدور البلاغ الحزبي، حينما أراد تقديم محصلة حقيبته الوزارية بعد محاصرته من طرف صحفيين من أجل الإدلاء بدلوه في نازلة “التحكم”، حيث امتنع عن التصريح في الأمر مطبقًا المثل الشعبي “لي عظوا الحنش يخاف من الحبل”.
عبد الإله بن كيران مع الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية نبيل بن عبد الله
وبين الرسائل الواضحة والمشفرة لمضامين البلاغين مساحات شاسعة للـتأويل والاجتهاد، تراوحت بين خبر الإقالة أو الاستقالة والانقسام، وبداية نهاية الحاج الشيوعي الذي عقد قرانه الكاثوليكي أو زواج المتعة مع إخوان المغرب، لكن الحقيقة التي لا يمكن حجبها بالغربال هو أننا بتنا نعيش حوارًا حقيقيًا للمؤسسات داخل المغرب، كل منها تعبر عن رأيها بكل حرية ووضوح، بعيدًا عن منطق الخنوع والصمت المريب، كما أن الرأي العام المغربي تفاعل مع الحدث أولاً بأول، وتتبعت القوى الحية سيناريو نازلة بن عبد الله والقصر، حيث إن البعض اعتبر أن بلاغ حزب التقدم والاشتراكية أسس لمرحلة جديدة في التعامل الحزبي مع البلاغات التي يصدرها الديوان الملكي، فقد جرت العادة والتقاليد السياسية أنه في أسوأ الحالات كانت الطبقة السياسية تفضل لغة الصمت المطبق، للتعبير عن مواقفها السياسية تجاه المنطوق الملكي، وهو الشيء الذي لم يحصل عكس ما توقعه آخرون، حيث لم يترك بلاغ حزب الشيوعيين بالمغرب بياضًا يحمل الكثير من التأويل، بعيدًا عن التحليل الواقعي والعقلاني لراهنية المشهد السياسي المغربي المعاصر، والذي يفيد بأن حمى برلمانيات المغرب اشتد حماسها، حتى قبل أن تنطلق، حيث إن هنالك تاريخ غير بعيد وهو السابع من أكتوبر المقبل وهو محطة الانتخابات البرلمانية، حينها:
سَتُبْدِي لَكَ الأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلا * وَيَأْتِيكَ بِالأَخْبَارِ مَــــــنْ لَمْ تُزَوِّدِ
ويأتيكَ بالأنباءِ من لم تَبعْ لــــه * بَتاتاً ولم تَضْربْ له وقتَ مَوْعدِ