كُتب الكثير من المقالات والتقارير في الآونة الأخيرة في عدد من الصحف والمواقع العربية حول الصراع بين الحكومة التركية التي يرأسها رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان وبين جماعة رجل الدين غير التقليدي فتح الله غولن والتي تعرف أيضاً باسم «الخدمة».
لكن جولة على أهم هذه المقالات تؤكد لنا أن غالبيتها الساحقة تأتي نتيجة انطباعات مسبقة ومعلّبة بما يتناسب مع أهواء صاحبها، أو نتيجة لمواقف أيديولوجية. على أية حال، الصراع بين الطرفين اندلع في شكله الأخير عندما قرر رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان إغلاق مدارس التقوية الممهدة للجامعة والتي تسيطر على الغالبية العظمى منها جماعة فتح الله غولن التي اعتبرت القرار بمثابة إعلان حرب عليها، ببساطة لأن هذه المدارس هي جوهر فكرة «الخدمة» التي قامت عليها منذ البداية والتي تحولت فيما بعد إلى مصدر حياة للجماعة من ناحية كسب المزيد من الموارد البشرية والدخل المالي والنفوذ الاجتماعي والسياسي.
تكتيكيا، لدى الجماعة من النفوذ والموارد ما يمكّنها من الاستمرار ولو إلى حين. استراتيجيا، فإن إغلاق هذه المدارس يعني توجيه ضربة قاضية لها. أما لماذا اتخذ رئيس الحكومة هذا القرار الآن، فلا أحد يعرف بالتحديد هذا الجواب بما في ذلك عدد من الفاعلين المهمين داخل حزب العدالة والتنمية والحكومة نفسها، وهي إشكالية أخرى ترتبط بآلية صنع القرارات داخل الحكومة والحزب لاسيَّما الحساسة منها. فكل ما قيل في هذا السياق في عدد من التقارير إنما يستحضر أسبابا حصلت خلال سنوات ماضية كموضوع أسطول الحرية وموضوع رئيس جهاز الاستخبارات التركية هاكان فيدان والموقف من إسرائيل وغيرها من المواضيع التي لا تجيب على سؤال التوقيت ولا على ظروف اتخاذ مثل هذا القرار الآن ولماذا؟ وهل هي خطوة محسوبة من أردوغان أم هي خطأ في الحسابات؟
والحقيقة أن التفسير المنطقي الذي يربط عامل التوقيت بالقضية هو أن أردوغان أراد على ما يبدو أن يتخلص من عامل الابتزاز السياسي الذي يفرضه نفوذ الجماعة على الطرف الفائز في الانتخابات سيما وأن الحزب ينظر إلى الاستحقاقات الانتخابية القادمة على أنها مرحلة مفصلية في تاريخ تركيا الحديث، فإما أن يربح ويكمل مشواره الذي رسمه حتى 2023، وإما أن يتعثر وتتعثر معه تركيا كلها.
ولطالما اشتكى عدد من أعضاء الحزب أن الجماعة تريد أن تمارس نفوذاً سياسياً في تركيا دون أن تكون مضطرة للتحول إلى حزب سياسي وهو الأمر الذي يعني أنها تشاطر السياسي المكاسب حين يربح، ولكنها لا تتحمل معه التكاليف حين يخسر لعدم وجود صفة سياسية لها، كما أنها تبتز اللاعب السياسي من دون صفة شرعية تخولها فعل ذلك أو سلطة تمنحها هذه الميزة، علما أنها تستخدم غطاء «المؤسسات الأهلية» كوسيلة لتنفيذ ذلك.
وفقا لتصورات البعض في الحزب، فإن الاستمرار في هذا النهج سيؤدي في النهاية إلى ولادة دولة عميقة من نوع آخر تكون هي الحاكم الحقيقي فيها وليس من هو موجود في الصورة. وهذه هي المشكلة الأساسية المرتبطة بدور الخدمة في تركيا.
لقد نجحت «الخدمة» مؤخراً في تسديد ضربات قوية لأردوغان ولحزب العدالة والتنمية تجلت في سحب بعض أعضائها الموجودين كنواب عن الحزب، كما في كشف ملفات فساد لعدد من الوزراء وأقاربهم وذلك عبر استخدام نفوذها القوي في بعض أجهزة الدولة كالشرطة والأمن الداخلي والقضاء وهو الأمر الذي يسمح لها بأن تمسك بملفات شديدة الحساسية والخطورة في البلاد، والذي خولها سابقاً لعب دور كما ينقل في تفكيك شبكة أرجيناكون التي كانت تخطط للانقلاب على حكومة حزب العدالة والتنمية.
على أية حال، فإن الإبقاء على ملفات تتعلق بفساد بعض الوزراء وأقربائهم طي الكتمان وإخراجها إلى العلن فور وقوع الصراع بين الطرفين، بالإضافة إلى طريقة إدارة الصراع حالياً عبر بعض أذرع أجهزة الأمن والقضاء إنما يؤكد وجود نظرية الابتزاز التي تحدثنا عنها سابقاً لدى «الخدمة» تجاه «الحكومة التركية».
أما المشكلة المرتبطة بالحكومة، فجزء منها يعود إلى طبيعة اتخاذ القرارات مؤخرا كما سبق وذكرنا، وجزء آخر يرتبط باتجاهها صوب السياسة «الشعبوية» التي غالبا ما تتضمن مبالغات في الأقوال والأفعال، وجزء ثالث يرتبط بدائرة المنتفعين من الحكومة وحزب العدالة والتنمية والذين يقومون -في سياق رد التهم عن الحكومة- بإيقاعها في مشاكل أكبر عبر تنزيهها كليا عن الخطأ، وتبرير سياساتها الخاطئة، واللجوء إلى البروباجندا بدلا من الشفافية وغيرها من الوسائل التي غالباً ما تؤدي في النهاية إلى تراجع المصداقية وبالتالي خسارة المزيد من القواعد الأصيلة والمركز السياسي.
ونتيجةً لذلك، فإن الحكومة تواجه الآن «تحالف الناقمين». صحيح أن المعارضة السياسية المتمثلة بالأحزاب المعارضة في البلاد وعلى رأسها الحزب الجمهوري لا تملك منفردة على ما يبدو تغيير المسار نظراً لإفلاسها السياسي وافتقارها إلى الرؤية والبرنامج، وصحيح أن جماعة الخدمة لا تمتلك الشعبية الكبرى التي تطغى على شعبية حزب العدالة والتنمية، لكن الأولى جيدة في توظيف المشاكل والانقسامات الداخلية الاستقطابات الإسلامية-العلمانية والمحافظة-الليبرالية، والثانية تمتلك نفوذا قويا اجتماعيا وماليا وسياسيا وهي موجودة في أجهزة مختلفة في الدولة وفي المجتمع المدني وتمتلك آلة إعلامية متطورة وفعالة ولها تأثير يتعدى تركيا إلى خارجها إقليمياً ودولياً كما نفوذها المالي. إن اتجاه هذا التحالف إلى نوع من التكامل فإنه سيشكل تهديداً خطيراً لحزب العدالة والتنمية في الاستحقاقات الانتخابية القادمة، علماً أن طبيعة امتصاص الحزب لهذه الضربات المتتالية التي يتلقاها الآن ستعتمد على القرارات والأدوار التي سيلعبها بخلاف أردوغان عدد من اللاعبين الجدد المحتملين خلال المرحلة القادمة لما بعد الانتخابات وأبرزهم عبدالله غول.
في موضوع آخر، فإن مقت