(مش عايز الفجر يطلع يا عالم/ مش عايزُه يطلع يا عالم/ أنا أنا البني آدم/ بيضربوني في أبويا/ وبيضربوني في أمي/ مطرح ما باسني أبويا/ ومطرح ما باستني أمي/ والضرب زي الشتيمة/ على حشاك الأليمة/ بيندهولي بنمرة/ مكتوبة فوق البطانية/ كان ليه يا أمي بنقرا/ كان ليه أروح المدارس وأتعلم الأبجدية …؟/ كان ليه يا أمي أمارس/ مبدأ من الإنسانية/ قولي لأبويا اللي غارس/ أكتر من العلم فيّا/ عبد اللطيف رشدي* وارث/ ابنك في جملة عبيده/ عبد اللطيف رشدي سيده/ عبد اللطيف رشدي راكب حصان الحكومة/ راسم على وشه بومة!) – فؤاد حداد.
بكلمات بسيطة وبلغة مؤثرة كتب فؤاد حداد قبل ما يزيد عن 50 سنة، على لسان الشهيد “شُهدي عطية” ما تعرض من بطش وتنكيل وتعذيب في السجون المصرية، أدى إلى مقتله على يد جلاديه في سجن أبي زعبل في 15 يونيو 1960، ليؤرخ بهذه القصيدة ما يتعرض له المعتقلون السياسيون في سجون مصر.
وبالرغم من أن الروايات المصنفة تحت قائمة “أدب السجون والمعتقلات” والتي ترصد ما يتعرض له سجين الرأي أو المعتقل السياسي من بطش وانتهاك، كثيرة، إلا أن الأديب المصري صنع الله إبراهيم، اختار أن يكتب في روايته “شرف” التي صدرت طبعتها الأولى عام 1997، – وتم اختيارها من قِبل “اتحاد كُتّاب العرب” عام 2000 كواحدة من ضمن أفضل 100 رواية عربية على مر العصور -، عما يتعرض له السجناء الجنائيون داخل السجون.
أسطورة “السجن تهذيب وإصلاح”
بطل الرواية، أشرف سليمان أو “شرف” كما اعتادت الأم أن تنادي “حبة عينها”، شاب فقير تضطره الظروف لارتكاب جريمة قتل بدافع الدفاع عن الشرف ضد “جون” الأجنبي الذي حاول الاعتداء عليه جنسيًا، ليدخل “شرف” إلى السجن ويكتشف هناك هذا العالم الموبوء الذي يجب عليه فيه أن يتخلّى عن “شرفه” من أجل المحافظة على حياته.
رواية شرف
فتقديم الخدمات هو العملة الوحيدة السارية في السجن، من أجل أن تحظى بحماية “المعلمين” وتجار المخدرات والقتلة، ولكي تحصل أيضًا على سجائرك وحصتك من الطعام وتجد مكانًا تنام فيه بعيدًا عن “دلو” قضاء الحاجة، خاصة إن كنت من أبناء الطبقة الفقيرة التي تضيع تحت الأقدام لأنها لا تملك قرشًا وليس لها “ظهر”
التعذيب المقبول
في عام 1984، وبعد تصديق 20 دولة عضو في الأمم المتحدة، تم اعتماد نص اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة لحقوق الإنسان، ودخلت الاتفاقية حيز النفاذ في 26 يونيو 1987، ليتم اعتباره اليوم الدولي لمساندة ضحايا التعذيب، دون التمييز بين كون المُعذّب معتقلاً سياسيًا أو سجينًا جنائيًا.
وبالرغم من أن اتفاقية الأمم المتحدة، والأعراف الدولية التي تعتبر التعذيب جريمة لا تسقط بالتقادم، لم تحدد معايير أخلاقية أو مستوى اجتماعي أو مرحلة تعليمية للتعاطف مع الشخص الذي تعرض للتعذيب، إلا أن الاستقصاءات تُبيّن أن الكثيرين لا يرون غضاضة في تعذيب السجناء الجنائيين والمسجلين خطر واللصوص والقتلة، وربما من أجل ذلك اختار صنع الله أن يكتب عن “شرف”، لا عن أحد المناضلين اليساريين أو المعارضين السياسيين لنهج الحكومة، الذين ضجّت بهم سجون النظام سابقًا وحاليًا.
“عرفني بنفسه قائلاً إنه موظف في وزارة التربية والتعليم وإنه احتجز على سبيل الخطأ بسبب التشابه بين اسمه واسم أحد المتطرفين الهاربين، كشف عن باطن ذراعيه أسفل الإبط وباطن ساقيه أسفل الركبة فرأيت كدمات زقاء كبيرة وآثار تقيحات على حوافها.
قال: ما صدقونيش إلا بعد ما أكلت الطريحة.
سألت بصوت مرتجف: هما بيعذبوا كل واحد؟
قال: اللي ما يعترفش ياخد نصيبه، واللي يعترف كمان، أمال يتأكدوا إزاي إنه بيقول الحقيقة؟”.
الرواية التقريرية السوداوية
كعادة صنع الله إبراهيم التي تبرز في معظم أعماله، أتت هذه الرواية مفعمة بالمعلومات الاقتصادية الموثقة والإحصاءات، وكأنها دراسة ميدانية مستفيضة مليئة بالتفاصيل الدقيقة المذهلة.
صنع الله إبراهيم مؤلف (شرف)
تلك التفاصيل التي ستتركك في حالة اكتئاب وبؤس، فبالتوازي مع ما يحدث لـ “شرف” ويفضح المسكوت عنه في عالم السجون وما وراء القضبان، حيث كل الممنوعات متاحة وكل صور الشذوذ والفساد الأخلاقي والإداري ظاهرة بفجاجة، وكل الانحرافات ملموسة ومعلن عنها، يكشف لنا دكتور رمزي بطرس وجه الرأسمالية البشع، حيث المخبوء في عالم شركات الأدوية ومصانع المضافات الغذائية من ألوان صناعية ومكسبات طعم ورائحة، هذا العالم الآخر المشبّع بالفساد، حيث الألاعيب والحيل.
فيفضح صنع الله شركات ومؤسسات ضخمة تعمل على الإتجار بأرواح ملايين البشر في دول العالم الثالث، دون رقيب أو حسيب، بل وبمساعدة الحكومات، لتُصدّر هذه الشركات الأوهام والأمل الزائف للدول النامية ومواطنيها البسطاء من أجل تحقيق أعلى عوائد من الربح المادي.
أن تشتري حياتك بالسجائر
برغم كم السواد الذي اعترى أحداث هذه الرواية الواقعية، إلا أن النهاية جاءت قاتمة بصورة يصعب على القارئ تخيلها، ليبدو لنا أن صنع الله قرر أن يسخر من القارئ الغافل حتى النهاية، فما يحدث في السجون المنقسمة لـ “ميري” و”ملكي”، يصعب تخيله أو استيعابه على من هم خارجه، فما بالك بالقدرة على احتماله.
لذلك نجد أن تخلّي “شرف” عن شرفه، كي يبقى على قيد الحياة ويحظى بسجائره، أمر قد يبدو عاديًا لمن هم وراء هذه الأسوار، لكنه صعب على التصديق لمن يجلس في صفوفنا.