إن أحد أهم وظائف وسائل الاعلام والتي تسعى اليها هو إعادة تشكيل الرأي العام وتكوين الأراء والإتجاهات للأفراد والشعوب والجماعات .
توجيه الرأي العام للشارع يفترض أن يُقام على أكتاف أخلاقيات الإعلام من مصداقية وموضوعية وحياد وشمولية ودقة والبعد كل البعد عن خدمة السلطة الحاكمة .
لكن يبقى هذا الكلام نظري تحتفظ به كتب الإعلام الأكاديمي ولا يرى النور الا نادرا ، اما ما يظهر على السطح وبقوة هي وجهة نظر الإعلام الرسمي او شبه الرسمي او الإعلام “المشترى” من قبل السلطة الحاكمة .
وبالتالي نتجه نحو تضليل إعلامي يؤثر على عقول الشعوب ويحاول ان “يلجم عقولها” ، التضليل الذي يُعرّف بأنه التأثير في شخص او هيئة او جماعة بطريقة تنطوي على التمويه والتلاعب.
هذا التضليل هو عتبة عالية في سلم السلطة ولا يحسنه الا الأذكياء والمحترفون لحكم الشعوب ، وبالتالي فإن الكثير من حكامنا لا يحسنون سياسة التضليل الاعلامي وإن حاولوا ذلك في بعض الاحيان .
حكامنا لا يتقنون سياسة التضليل
يتبع حكامنا إسلوب قديم إستُخدم على مر التاريخ وأدى في الغالب لنفس النتائج لكن يبدو أنهم لا يقرأون التاريخ .
يعرضون الشعوب للقهر والكبت والظلم والقهر ، يسيطرون على الإنسان ، يحاربون وجوده فتنتفي بالنتيجة الحاجة لمحاربة رأيه او تضليله ، واذا عبر احدهم عن رأيه يكون مصيره المطاردة والتقتيل والتهجير .
المشكلة لا تقف عند هذا الحد ، بل إن حكامنا وصلوا الى حد مطاردة وإعتقال وتعذيب وقتل كل من يظنون أن افكاره تتناقض مع افكارهم.
الناس في العراق مثلا تقتل وهي لم تفعل جرما بل ولم تعبر حتى عن رأيها ، ولكن تقتل لانها ربما (وحسب رأي حكامنا) تؤيد الطرف الثاني في المعادلة.
وجود طرف ثاني يعني وجود رأي .. لا لا إطلاقا ، وجود طرف ثاني في نظر حكامنا يعني وجود قتلة ومجرمين وإرهابيين وقاعدة لا بد ان يتم تصفيتهم ولا بد أن يُخمد صوتهم ، وهذا ليس رأيا او وجهة نظر ، وانما واقع تمارسه هذه الحكومة او تلك في رابعة المصرية او الحويجة العراقية.
في الاولى قتل المئات وفي الثانية لم يختلف عدد القتلى عن الاولى .
وما حدثت الثانية الا بعد حدوث الاولى وكأنه الحاكم في مصر قدم درسا للحاكم في العراق بأن هؤلاء “شرذمة قليلون” لا يمكن ان نسمح لهم ان يرفعوا أصواتهم وأن يضللوا من وراءهم او من يسمعهم . ولا بد من قتلهم وان كلف هذا ثمن يراه الأخرون باهظا ، الا إنه في نفوس وعقول الحكام لا يعدوا كونه إنتصارا على أفكار الإرهاب والتطرف والاصولية.
وليس هذا مقتصر على الدولتين مصر والعراق ، بل هي سياسة الإذلال والتركيع والتخويف والضغط والتعذيب والتهجير والنفي والقتل التي مورست على مر العصور والأزمنة.
يعبر عن هذا المعنى المفكر فرير: “لا ضرورة لتضليل المضطهدين عندما يكونون غارقين لآذانهم في بؤس الواقع”
التضليل نعمة
عندما نقارن سياسة التضليل المعتمدة لدى الكثير من صناع القرار ومدراء وسائل الاعلام في العالم المتقدم على الأكثر ، فهذا يعني وصول السياسيين وصناع القرار الى درجة عالية من الوعي والنضج.
لانهم بذلك يوفرون الحد الأدنى وربما الأعلى للإنسان في حاجاته وأساسياته ومعيشته بل وحتى درجة جيد من الحرية والفكر والرأي ، لكنهم يضبطون ذلك بأحادية تلقي المعلومات واحادية توجيه المعلومة لشعوبهم وبالتالي السيطرة على هذا الفكر والرأي والحرية ضمن الحدود المسموح بها عندهم.
وبهذا من الطبيعي تجد ان “الاسرائيلي” يعتبر العربي عدوه الأول لانه تربى على التضليل من بداية تلقي معلوماته وتشكيل عقله ، وهذا توجيه المعلومة بالطريقة التي يراها المضللون تخدم مصالحهم على المستوى البعيد.
ومن الطبيعي ان تجد شابا امريكيا أنهى دراسته الجامعية ولا يعرف اين يقع الشرق الاوسط وماذا يحدث في أقصى الارض بالنسبه له .
التدفق الأحادي للمعلومة او التضليل بعد كل هذا يعد نعمة لمن لا يأمن على أولاده اذا ذهبوا للمدرسة او لا يأمن على حياته حتى وان كان في بروج مشيدة.
امريكا بين شقين
وان التضليل والخداع الاعلامي والتدفق الاحادي للمعلومة ما هو الا سلوك واجراء يعد مستخدموه فاقدين للقيم المجتمعية والإنسانية.
والمتأمل يجد ان هذا التضليل لا يختلف جرما عن جرم حكامنا الذين لم يصلوا لهذه المرحلة بعد. والسبب في ذلك في ان كلا الشقين (القتل والتضليل) هما بالاساس اشقاء من نفس الاب ، وإن اختلفت أمهم .
فامريكا الشمالية التي تدعي أنها راعية حقوق الانسان ما هي سوى منتزعة ومغتصبة لأرض من سكانها الاصليين ومن غير رجعة وبالقوة المسلحة وبالخداع والحيلة.
وما هي الا ممارسة لكل انواع الجرائم خارج أراضيها ، وافغانستان والعراق مازالا شاهدين عليها ، بل وما دام الخطر مبتعدا عن ربيبتها اسرائيل فليس هناك من داعي لان تحل او تساهم في حل المشكلة السورية.
فامريكا اذا قامت ابتداءا على الشق الاول من المعركة (ومازالت تمارسه) وانتهت بالشق الثاني الاكثر تطورا والاقل همجيا وربما الاكثر تأثيرا وهو التضليل ولكن داخل حدودها .
نموذج تضليلي عربي
ومثال التضليل الإعلامي ليس بعيدا عن تجربتنا العربية رغم ان الكثير يعتقدون ان وراءه محركات دولية او اقليمية.
هذا التضليل “الفج” الذي إعتمد تشويه وشيطنه الحكومة المصرية المنتخبة (سواء إتفقنا أو إختلفنا معها) وعلى مدى عام كامل إستطاع ان يغير الكثير من قناعات جمهور عريض جدا من الشعب المصري.
ثم توج هذا التضليل بتكميم أي صوت معارض من خلال قطع لسانه الفضائي وإعتقال من يعملون ضده بل وأوقف برنامجا كان يعده أحد اهم أدواته في التضليل لانه ربما يوجه له نقدا متفقا عليه مسبقا.
وبالتالي عاد مجرمونا الى اسلوبهم الاولى وشقهم الاجرامي بدل ان يرتقوا للشق التضليلي فقط.