استثارت محاولة الانقلاب الفاشلة التي تمت في تركيا في الخامس عشر من تموز حفيظة الأتراك بصورة كبيرة، وبقدر استفزازها للفرد البسيط في الشارع التركي، فإنها فتحت الباب على مصراعيه أمام القيادة السياسية التركية لتفكر من جديد في كل ما هي عليه من سياسات ومواقف وتحالفات وتوجهات.
لقد أدارت أوروبا ظهرها رسميًا لتركيا، وبات وقوف القوتين الكبيرتين في النادي الأوروبي (ألمانيا وفرنسا) ضد انضمام تركيا للاتحاد معلومًا لكل ذي لب، وكذلك الحال في موقف الناتو الخجول في حادثة أزمة الطائرة الروسية، والموقف الأمريكي المتآمر فعليًا في مسائل الدولة الكردية، والطائرة الروسية، والأزمة السورية وطلبات تركيا بالمنطقة الآمنة، وحرب تركيا ضد حزب العمال الكردستاني.
على الساحة الإقليمية، بات النفوذ الإيراني الذي يتم بمباركة غربية واضحة في العراق وسوريا واليمن ولبنان والبحرين وغيرها واضحًا جدًا، وهو ما زاد من الضعف والتشرذم العربي الحاصل، وهو ما يعني بالنسبة لتركيا، حالة من الانشغال العربي بالملفات الإقليمية الفرعية، وتضاؤل الإمكانية بتحركات تركية عربية مشتركة وفاعلة في ملفات المنطقة.
من هنا، كانت تركيا أمام تحديات عدة، الانقلاب الفاشل وحجم المشاركين والمتآمرين فيه، الصراع المستمر مع حزب العمال الكردستاني، دول عربية مشتتة في توجهاتها، بعضها متآمر، وبعضها صامت، وبعضها مؤيد خجول، ونفوذ إيراني متزايد في العالم العربي وأفغانستان والجمهوريات الروسية القديمة المحاذية لتركيا، واتحاد أوروبي رافض لوجود تركيا مسلمة قوية ومؤثرة، وقوة أمريكية عظمى باتت مشاركة في الاستهداف للدولة والحكومة والشعب التركي بصورة لا تقبل التأويل، وقوة روسية عظمى تعمل بفكر المافيا ومبدأ المصالح، وهي جزء من مكونات المشهد العسكري والسياسي في المنطقة برمتها.
أمام هذا الواقع، كانت تركيا ملزمة باتخاذ الإجراءات التي تحمي من خلالها نفسها، وتمثلت بعدة توجهات جديدة، أهمها: الانفتاح على العالم العربي والمزيد من الانفتاح عليه برغم سوء الواقع المعلوم فيه وانتشار الاستبداد والحروب والضعف الاقتصادي ونحوها، والبدء بالتعامل مع الاتحاد الأوروبي بمبدأ الند لا الدولة الراغبة بالعضوية، والتوجه نحو روسيا كقوة عظمى لبناء سياسات مشتركة تقلم أظافر النفوذ الأمريكي الضاغط، مع الاعتماد على الذات في حماية الداخل التركي وبناء شراكات سياسية حقيقية مع التيارات الموجودة، وتعزيز الاقتصاد الداخلي والتسليح الذاتي ونحوها.
ناهيك عن سياسة التوازن السياسي من خلال الحفاظ على الحد الأدنى من العلاقة الإيجابية مع أمريكا دون القطيعة معها فعليًا، والانفتاح التدريجي على الشرق، كالصين واليابان والهند كدول مؤثرة وتشكل البديل الفعلي لأوروبا وأمريكا في سلسلة التحالفات التي تتشكل في المشرق مجددًا.
برأيي، هذا النمط من التوجهات ستكون له تداعيات على الاستقرار الداخلي في تركيا، وستشهد هذه الدولة محاولات عدة من جهات دولية متعددة، محاولات لزعزعة استقرارها وإضعاف اقتصادها وإعاقة تحالفاتها الخارجية، ولكن تركيا اليوم ملزمة بهذا التوجه ولا تلجأ إليه طوعًا.
التحدي الأبرز هنا هو مدى الانعكاس الذي سيحدث نتيجة هذه التحولات، ومدى التفاعل العربي معه بعيدًا عن سياسة الانتظار المعهودة، وإمكانية تركيا في فرض توجهاتها الجديدة بقوة السياسة والتفاوض والقبضة الصلبة في مواجهة عالم المصالح الروتينية المتحكم في المشرق منذ عقود على مستوى الدول الغربية، والتعويل الحقيقي هنا على عمق التخطيط في رسم خارطة التحالفات وتمتينها فعليًا لتنشأ بعيدًا عن التلاعب المصلحي بها من أطراف خارجية.
قد يقرر البعض الانتظار، ولكن النتيجة الحتمية في عالم المصالح أن المبادرين وأصحاب المبادرات النشطة والممكنة يمكن لهم أن يفرضوا أجندتهم على الواقع في ظل حركتهم الواعية في زمن الضباب السائد.