نظرة سريعة على قائمة أفضل 400 جامعة في العالم- وهي من أهم المأشرات على تقدم الدول علمياً- تظهر لك مدى تخلفنا العلمي بالمقارنة بغيرنا من الأمم، حيث لن تجد سوى جامعة الملك عبدالعزيز في هذه القائمة متربعة على أواخرها في المرتبة ما بين 301-350! (حسب تصنيف التيمس للتعليم العالي 2012-2013). في نفس القائمة نجد أكثر من 167 جامعة أمريكية في أعلى القائمة منها 15 جامعة تتصدر المراتب العشرين الأولى. ورغم وجود جامعات في دول إسلامية في متوسط القائمة مثل جامعة بلكنت في أنقرة، وجامعة كتش في إستنبول إلا أنها لا تكاد تذكر في بحر من الجامعات الراقية في أوروبا وأمريكا ونيوزيلاندا وأستراليا وجنوب إفريقيا وإسرائيل. فلماذا هذا التدني في مستوى تعليمنا العالي وما أثره على البحث العلمي والتقدم الحضاري في نطقتنا؟
<خارطة تظهر البلدان التي تنتمي اليها أفضل 400 جامعة في العالم>
عربياً نجد أن السعودية ولبنان والإمارات ومصر تتصدر جامعاتها قائمة أفضل الجامعات العربية، ولكن ماذا قدمت هذه الجامعات للمواطن العربي من بحوث وإختراعات؟ هل الهدف من التعليم هو تحصيل ورقة الشهادة العلمية وبروزتها و وضعها على الحائط كزينة من ديكور المكتب أو المنزل؟
لن أتعب نفسي بذكر عظمة تاريخنا وإنتاجنا العلمي منذ القرن الأول من ظهور الإسلام حتى القرن الحادي عشر الهجري في مجالات الرياضيات والفلك والطب وغيره، ولكن ما يهم هو فهم لماذا وكيف تقهقرنا من قادة للعالم إلى غثاء كغثاء السيل؟ لو عدنا إلى التاريخ قليلاً لوجدناه يحدثنا عن إنجازات ومألفات لعلماء لا يسعنا حصرهم، أبدعوا في كل الفنون العلمية لأنهم أدركوا أهمية العلم للنهوض بأمتهم، فأين هذه النظر المستقبلية اليوم؟
<خارطة تظهر الإبداع العالمي>
وقفة سريعة أخرى مع الأرقام تظهر مدى تعاسة الحال؛ فمعدل الإنفاق القومي على البحث العلمي في الدول العربية قاطبة لا يتجاوز 0.2% أما في إسرائيل فهو أكثر من 4.7% وفي أمريكا 2.68% وفي فيلندا 3.51%. تنفق الدول العربية مليارات الدولارات على التسلح وتقوم بإستيراد 90% من حاجياتها ومعظمها منتجات يمكن تصنيعها محلياً، فلماذا؟ البحث العلمي يعتبر أقوى مصادر الوجود للدول، كلما كان هذا المجال قوياً كلما كانت الدولة أقدر على التعامل مع المتغيرات السياسية والإجتماعية والطبيعية، فأين الخلل وما الحلول التي قد تساعد في تجاوز هذه الأزمة؟
الأمية:
معدل الأمية في العالم العربي يبلغ حوالي 27% من البالغين، 60% منهم إناث. بينما يتحول مفهوم الأمية خارج عالمنا العربي إلى الجهل بطرق إستخدام الحاسوب مازلنا نحن نعاني من مشكلة القراءة والكتابة!
<خريطة توضح نسبة المحصلين لكل بلد في العالم لسنتي 2007/2008 (تقرير التنمية البشرية)>
إحصائية أجريت منذ سنوات لحساب معدل قراءة الفرد تفيد أن العربي يقراء ربع صفحة سنوياً، بينما في إسرائيل يبلغ هذا الرقم 40 كتاباً سنوياً، وفي أمريكا 11 كتاباً وفي أوروبا 35 كتاباً للفرد الواحد سنوياً. هذا يدل وبكل وضوح على أن المشكلة أعمق من أن يقول أحدنا إن السبب هو ظلم الحكام! فهل يا ترى منعت الحكومات شعوبها من فتح الكتب وتثقيف النفس أم أن المشكلة تكمن في عدم معرفة الفرد العربي لقيمة العلم كوسيلة لتغيير ظروف حياته الصعبة؟
إضافة إلى مشاكل الجامعات والأمية هناك العديد من المشاكل الأخرى، فمثلاً إجمالي مراكز البحث العلمي في العالم العربي لا تتجاوز 600 مركز لخدمة أمة عربية يتعدى عدد سكانها حاجز ال422 مليون نسمة. أي أن كل مركز من هذه المراكز يخدم اكثر من 700 ألف نسمة. لو قارنا هذا بفرنسا نجد أنها تمتلك أكثر من 1500 مركز بحوث علمية.
تدني الإنفاق العلمي في الدول العربية:
مجال الإنفاق العسكري في الدول العربية يفوق ال94 مليار دولار بينما البحث العلمي لا ينال إلا ملياري دولار عربياً. أي ما نسبته 0.3% من إجمالي الناتج القومي الإجمالي. قارن هذا بما تنفقه إسرائيل على بحوثها العلمية الغير عسكرية والبالغ أكثر من 9 مليارات دولار، وهذا الرقم يمثل ثلث إنفاقها على التعليم بشكل عام.
يؤكد تقرير اليونسكو للعام 2010 على أنه رغم الثروة التي تتمتع بها الدول العربية، إلا أن هذه البلدان تفتقر إلى قاعدة متينة في مجال العلوم والتكنولوجيا، كما أن كفاءة نظمها التعليمية وخاصة التعليم العالي لا يزال ضعيفاً بالمقارنة بغيرها، الأمر الذي يضعف قدرتها على إنتاج عقول نابغة قادرة على الإبتكار.
إعتماد دول الخليج الغنية على النفط إعتماداً كلياً كمصدر وحيد للطاقة يجعلها عرضة لتقلبات السوق العالمية ويترك إنطباعات سلبية على صورتها المستقبلية، فماذا ستفعل هذه الدول في غضون عقود من الآن من دون عائداتها النفطية. شجع تقرير اليونسكو هذه الدول على الاهتمام بالبحث العلمي وبناء مجال تقني متقدم إذ أن حلول مشاكلها الحالية والمستقبلية تكمن فيه.
وأشار التقرير إلى أهمية دور الجامعات في هذا المجال، فعلى الرغم من وجود جامعات مرموقة في المنطقة العربية إلا أن الدول العربية تنتج ما لا يزيد على 136 عالماً لكل مليون نسمة (حوالي 57,392 عالماً ومعظمهم يهاجر إلى الغرب) وهؤلاء العلماء لا يقدمون للعالم إلا ما قدره 0.3% من إجمالي المنشورات العلمية العالمية، علماً بأن المتوسط العالمي يبلغ 1081 باحثاً لكل مليون نسمة. وفي دراسة سابقة نشرت عام 2006 أكدت اليونسكو على أنه في إسرائيل هناك 1395 باحث لكل مليون نسمة (أي حوالي العشرة آلاف عالم وباحث) وفي الاتحاد الأوروبي بلغت هذه النسبة 2439 وفي أمريكا 4374 باحثاً لكل مليون نسمة.
وعلية فإننا نحتاج إلى إعداد ما بين 1081 إلى 4374 عالم لكل مليون نسمة في وطننا العربي، أي ما بين نصف مليون إلى 1.5 مليون عالم عربي والمحافظة عليهم لتكون لنا فرصة كافية لمنافسة الأمم الأخرى في العلوم والتكنلوجيا.
هجرة العقول:
نضيف إلى ما ذكرناه سابقاً مشكلة أخرى تحُد من قدرة العرب على المنافسة عالمياً في هذا المجال وهي مشكلة هجرة العقول، حيث أن الهجرة أو التهجير القسري تخسر هذه الدول ملايين الدولارات سنوياً، فلو قلنا أن الدولة تنفق على تعليم الفرد العربي من مرحلة الحضانة إلى الجامعة ما يقرب من 10 إلى 50 ألف دولار، ولو إعتمدنا التقارير التي تشير إلى أن هناك أكثر من مليون خبير وإختصاصي عربي من حملة الشهادات العليا أو الفنين المهرة الذين هاجرون بلدانهم ويعملون حاليا في الدول المتقدمة، فإنك أمام رقم هائل يوضح مدى الخسارة الإقتصادية التي تعاني منها دولنا بسبب طردهم المتعمد أو الغير متعمد لعقولها النابغة، رقم يقدره البعض بأكثر من 200 مليار دولار.
لا يخفى على أحد أن أهم أسبب هجرة العقول العربية هي الفساد السياسي الذي صنع مناخاً طارداً للكفاءات، كما أن الفساد الإقتصادي حرم هؤلاء العلماء من مناخ إقتصادي متكافئ، إضافة إلى إنعدام الدعم الحكومي لهم، حيث لا يوجد إهتمام يذكر بتطوير البحث العلمي وتحديث مناهج التعليم الأساسية. وتركيز هذه المناهج على العلوم النظرية بدلاً من التطبيقية، ثم ضيق الحريات وانخفاض مستويات الدخل، بالإضافة إلى جاذبية الوسط العلمي في الغرب وتوفر معامل البحث العلمي والتسهيلات الحكومية هناك في البلدان المتقدمة. فعالَما العربي ينفق ما بين 1 إلى 5 دولار لكل مواطن على البحث العلمي، بينما تنفق الولايات المتحدة 700 دولار لكل مواطن، والدول الأوربية 600 دولار. فما الذي يحفز هؤلاء العلماء على البقاء في أوطان لا تعرف قيمة العلم وأهله أساساً؟
كشفت دراسة صادرة عن مركز “الخليج للدراسات الإستراتيجية” أن حوالي 70 ألف من خريجي الجامعات العرب يهاجرون سنوياً للبحث عن فرص عمل في الخارج، وأن نسبة 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج (ومعظمهم يدرسون على نفقة الدولة) لا يعودون إلى أوطانهم بعد انتهاء سنوات دراستهم. بينما في الصين نجد أن 95% من المبتعثين يعودون إلى وطنهم بعد إنتهاء الدراسة. ووفقاً للإحصاءات فإن الوطن العربي يسهم بـ 31% من هجرة الكفاءات من الدول النامية، حيث يهاجر 50% من الأطباء و23 من المهندسين و15% من العلماء من مجموع الكفاءات العربية متوجهين إلى أوروبا والولايات المتحدة وكندا بوجه خاص.
ووفقاً لإحصائيات أخرى صدرت عن جامعة الدول العربية ومنظمة العمل الدولية واليونيسكو ومؤسسات عربية ودولية الأخرى، فإن حوالي 100ألف عالم وطبيب ومهندس يغادرون لبنان وسوريا والعراق والأردن ومصر وتونس والمغرب والجزائر سنوياً، 70% منهم لا يعودون إلى بلدانهم الأم.
وبحسب دراسة صادرة عن إدارة السياسات السكانية والهجرة في الجامعة العربية فإن وقف الهجرة الواسعة النطاق للعلماء وحملة الشهادات العليا سيوفر على الدول العربية المصدرة لهذه الكفاءات حوالي الملياري دولار سنوياً. ولكن هذا لن يتم إن لم تعالج أسباب هذه الهجرة وتنتبه الدول العربية لأهمية البحث العلمي كوسيلة للبقاء وحل المشكلات التي تعاني منها كمشاكل المياة، الطاقة، العجز الإقتصادي والزراعي، التخطيط العمراني، البنية الحتية، والصحة.
حلول للنهوض بالبحث العلمي :
أهم ما يمكن إقتراحه للنهوض بالبحث العلمي في الوطن العربي هو:
– ضرورة تحفيز العلماء والكفاءات العربية ومعالجة أسباب هجرتها.
– بناء مجتمع مستقر أمنياً وسياسياً وإقتصادياً، يحب العلم وأهله ولا يقوم بقمع الحريات الأفكار والقدرات، بالإضافة إلى سن قوانين تحمي الحقوق الفكرية وتحافظ على الملكية الإبداعية.
– التركيز على العلوم التطبيقية والصناعية ومحاولة تكوين جيل واعي للمشاكل التي يعاني منها عالمنا العربي ليجدوا حلول له، مثل مشاكل البيئة والمخاطر الطبيعية، نقص المياه، الزراعة، التصحر. بالإضافة إلى المشاكل الإجتماعية والسياسية وتقديم هذه المشاكل تدريجياً في المناهج الدراسية المتقدمة. وتحفيز العلماء على إيجاد حلول تهدف لخدمة الوطن ليستمر ويزدهر للأجيال القادمة.
– وجود ميزانيات عالية للبحث العلمي ما بين 6 إلى 9 ملياراد دولار بدلاً من المليارين الذي تنفقه الدول العربية على بحوثها.
– تحفيز القطاع الخاص على الإستثمار في البحث العلمي والإكتفاء بالعلماء العرب بدلاً من الغرب.
– محو الأمية والتشجيع على القراءة وحب العلم، وإعداد مناهج تعليمية ناجحة تعالج المشاكل الحالية لمنطقتنا والتركيز على العلوم التطبيقية والمخبرية منها بدلاً من الحصص المملة وحفظ المواد بون فهم لها.
ـ تطوير الجامعات العربية لتنافس العالم علمياً عبر إعداد علماء وباحثين بمستوى عالمي من الكفاءة. وبناء شراكات مع جامعات عالمية لتنمية التعليم العربي.
– تشجيع الكتابة والتركيز على اللغة العربية والإنجليزية، وإنماء المكتبة العربية بترجمة ملايين الكتب العالمية إلى العربية ونشر هذه الكتب إلكترونياً عبر الإنترنت لتكون في متناول الطلاب والباحثين في العالم العربي.
وختاماً، فرغم أننا سنحتاج إلى عقود للنهوض بمجالنا العلمي إلا أن الأمر مهم للغاية حيث أن هناك حلولاً علمية لكل مشاكلنا، ولا بد من إيجاد هذه الحلول تطبيقها وإلا فإن بقائنا مهدد بالخطر.
المصادر:
– الجزيرة
– اليونسكو
– الجامعة العربية
– الخليج للدراسات الإستراتيجية
– تصنيف التيمس للتعليم العالي
– المفكرة الإسلامية
– البحث العلمي في مصر والوطن العربي للكاتب محمد مسعد ياقوت