شكّلت التصريحات التي أدلى بها الرئيس التركي خلال ندوة نُظِّمت في إسطنبول إيذانا بتغير كبير في سياسة تركيا اتجاه الوضع بالعراق، بالأخص ما يتعلق بمدينة الموصل العراقية. حيث صرّح بما نصه: “نفكر أن نطلق عملية مماثلة لدرع الفرات في العراق، ونطلب من كافة القوى الفاعلة في المنطقة تقديم الدعم لفكرتنا”. ولهذا التصريح الخطير تداعيات كبيرة إذا كان أردوغان جادا به.
استند أردوغان لتبرير تدخل تركيا في الموصل لمعاهدة قديمة كانت قد أُبرمت بين تركيا وبريطانيا سنة 1926، والتي نظمت العلاقة بين تركيا والحكومة العراقية (المدعومة من بريطانيا حينها)، حيث نصّت تلك المعاهدة على حق تركيا بالدفاع عن الأقلية التركمانية التي تسكن الموصل في حال تعرضها لأي اعتداء، بالإضافة الى حق تركيا بالاستفادة من 10% من إنتاج نفط كركوك ولمدة 25 سنة، ذلك لأن كركوك كانت تابعة للموصل إداريا.
يذكر أن نزاعات كبيرة كانت بين الجانب التركي والبريطاني حول الموصل بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، فقد قال أتاتورك لمؤسسات الميثاق الوطني سنة 1920: (حدود أمتنا، من جنوب خليج الإسكندرونة، من أنطاكية، وجنوب جسر جرابلس ومحطة السكة الحديد وجنوب حلب ثم تسير جنوباً مع نهر الفرات حتى تضم دير الزور ثم تتجه شرقا لتضم الموصل، وكركوك والسليمانية.)، ذلك الميثاق الذي أعلنه البرلمان العثماني سبب انزعاجا للحلفاء الذين كانوا يحتلون تركيا، مما أدى إلى احتلال مدينة إسطنبول من قِبل قوات بريطانية، وفرنسية وإيطالية في 16 مارس 1920.
علما بأن معاهدة وقف إطلاق النار التي سُميت بهدنة موندروس، وُقّعت في 30 أكتوبر 1918 بين بريطانيا والدولة العثمانية، لم تكن حينها القوات البريطانية قد دخلت مدينة الموصل، إلا إنَّها دخلتها بعد توقيع المعاهدة بعدة أيام، الأمر الذي اعتبرته الدولة العثمانية خرقا للهدنة الموقعة بينهما. لكن حكومة تركيا حينها وبسبب الضغوط الهائلة التي كانت مسلّطة عليها نتيجة خسائرها بمعارك الحرب العالمية الأولى، لم تكن مهتمة بتلك المنطقة، ولم تلقي بالا لموضوع الموصل وكان اهتمامها منصبا على المناطق الأخرى التي كانت الدول المنتصرة تريد انتزاعها من تركيا. وفي عام 1926 تبنّت عصبة الأمم أزمة الموصل، ورفعت مشكلتها التي لم تجد حلاً لها، إلى محكمة العدل الدولية، ولم يتم الوصول إلى نتائج إيجابية أيضا.
وأخيرا توصل الإنجليز إلى اتفاق مع الأتراك بعد المحادثات التي جرت في أنقرة. من خلال إبرام معاهدة أنقرة في 5 يونيو 1926 والتي نصّت صراحة على تبعية ولاية الموصل للعراق. ويكون خط بروكسل هو الخط الفاصل بين العراق وتركيا، ويعطي العراق بموجبها 10% من عائدات نفط الموصل لتركيا ولمدة 25 سنة.
ومن الجدير بالذكر أن ولاية الموصل وحسب اتفاقية سايكس – بيكو لعام 1916، تقع بأكملها ضمن مجال النفوذ الفرنسي. وعلى هذا الأساس صدرت من الحكومة البريطانية حينها تعليمات بضرورة عدم شمول الموصل بنظام الحكومة المركزية المعمول به في ولاية بغداد. تم التفاهم بعد ذلك مع الجانب الفرنسي على تعديل اتفاقية سايكس – بيكو، بما يتعلق بولاية الموصل، وتم دمج الإدارة المدنية فيها بإدارة القسم الجنوبي من الأراضي العراقية.
ووفق هذا السرد التاريخي الموجز للمعاهدات التي تمّت بين تركيا وبريطانيا وفرنسا والحكومة العراقية، فإن تلك المعاهدات لا توفر أي مسوغ قانوني بأحقية تركيا بالسيادة على الموصل كما يتوهم البعض، كما وأن الحق الذي أعطته معاهدة أنقرة لتركيا بحماية المكون التركماني بالموصل، قد فقد مبرره القانوني هو الآخر، بسبب أن التركمان في غالبيتهم يعيشون في كركوك والتي تم فصلها إداريا بالوقت الحالي عن الموصل، ولم يبق من التركمان في الموصل إلا بضعة آلاف يعيشون في منطقة “تلعفر” وهم من التركمان الشيعة والذين لا يرحبون بالتواجد التركي السني بمناطقهم.
إمكانية التدخل عسكريا
هناك عوامل كثيرة تقلّل من إمكانية تدخل تركيا بالموصل وتجعلها مغامرة عسكرية كبيرة وفق المعطيات الحالية، فمن المتوقع أن يكون هناك رفض حكومي عراقي لهذا التدخل العسكري، حيث أن هذا التدخل سيكون ضد الإرادة الإيرانية (حسب المواقف المعلنة حاليا على الأقل) وسيكون هناك رفض من قوات الحشد الشيعي الذي يستميت للمشاركة بمعارك تحرير الموصل من داعش. إضافة إلى أن حماسة الجانب الكردي سوف لن تكون كبيرة بهذا التدخل، على الرغم من قوة العلاقة الحالية التي تربط البارزاني بتركيا، بسبب تخوّف الأكراد من أن يكون التدخل التركي لصالح العرب السنة، للدرجة التي تحد من طموحاتهم بالتوسع على حساب الأراضي العربية السنية في الموصل، لتشكيل دولتهم المرتقبة. وقد صرح البارزاني خلال زيارة نائب وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، معلقا على تصريحات أردوغان: “إن أردوغان لا يقصد التدخل العسكري في الموصل بريا، وإنما تقديم المساعدة اللوجستية فقط للقوات العراقية لتحرير الموصل”، وهي رسالة لتركيا تفيد برفض الجانب الكردي لتدخلها العسكري بالموصل.
من هم حلفاء تركيا على الأرض
لا نجد لتركيا حلفاء على الأراضي العراقية سوى المسلحين التابعين لأثيل النجيفي والذين يسمون بالحشد الوطني (والمؤلفين من عناصر الشرطة المحلية التي كانت تعمل بالموصل بالسابق وبعض المتطوعين) ولا تتلقى هذه القوات أي دعم من الحكومة المركزية وغير معترف بها من قبلها، إنما تتلقى الدعم من تركيا التي تقوم بتدريبها من خلال القوة التركية المتمركزة في مدينة بعشيقة العراقية.
العنصر الآخر الذي يمكن اعتباره حليفا للقوات التركية، هو البيشمركة الكردية التي أيضا تتلقي تدريباتها على يد القوات التركية، يذكر أن هناك تناغما بين تركيا والبارزاني منذ وقت طويل، إلا أن تصريحات البارزاني الأخيرة، تدلل على تغير بمواقف البارزاني اتجاه تركيا، ذلك لأن الأكراد لا يغامرون بالإساءة لعلاقاتهم مع الأمريكان لصالح تركيا، لا سيما بعد الدعم المالي والعسكري الذي يتلقاه الأكراد من أمريكا.
عدا تلك القوتين فإننا لا نرى داعما آخر للجيش التركي على الأرض إذا ما أراد التحرك باتجاه الموصل، إلا إذا استثنينا الترحيب الجماهيري المتوقع لأهل الموصل بالقوات التركية بسبب خوفهم من دخول المليشيات الشيعية والبيشمركة الكردية للموصل.
الرافضون لهذا التدخل
في مقدمة الرافضين لهذا التدخل، الحكومة العراقية وميلشياتها، بسبب حرص القيادة الإيرانية على مسك الموصل من قبل الحكومة العراقية والمليشيات الشيعية الموالية لها، كما أن العلاقات الجيدة الحالية بين تركيا والأكراد العراقيين من الممكن أن تنهار بسبب مخاوف الأكراد من أن القوات التركية ستكون حائلا بينها وبين تطبيق حلمها بتشكيل دولتها المستقلة. أما بخصوص التواجد الأمريكي في العراق، فوفقا للتصريحات المعلنة والتغيرات الكبيرة على العلاقة بين تركيا وأمريكا وبالذات بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا، فإن العلاقة بين البلدين بأسوأ حالاتها، وقد صرح نائب وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن مؤكدا على أن تواجد قوات بلده في العراق كان بإذن الحكومة العراقية، مما يمثل رسالة لتركيا بعدم إمكانية دخولكم إلى العراق والمشاركة بتحرير الموصل رغما عن إرادة الجانب العراقي.
العنصر الأخير من رافضي التدخل التركي للموصل، والذي هو سبب الدخول (على الأقل ظاهرا) هو قوات داعش في الموصل والتي نشك أنها ستكون قادرة على الصمود أمام الجيش التركي.
مواقف الدول الكبرى
الدول الفاعلة في الشأن العراقي هي أمريكا وبشكل أقل الدول الكبرى الأخرى، وبالتالي فإن التدخل التركي يجب أن يأتي بالتنسيق مع الجانب الأمريكي بالدرجة الأساس، ومع الجانب الروسي وباقي الدول الغربية الأخرى بدرجة أقل. وكما نعلم إن العلاقة بين تركيا وأمريكا في تدهور مستمر منذ مدة طويلة، لذلك فإننا نجد من الصعوبة أن تسمح أمريكا بأن يكون لتركيا دور فاعل في العراق، ولكن الذي يجعلنا نعيد التفكير بهذا الموضوع هو التدخل التركي في سوريا والذي حظي بغض نظر أمريكي بل وبمساندة أمريكية وضغط أمريكي على الأكراد في سوريا، بالإضافة إلى عدم ممانعة الجانب الروسي لذلك التدخل، مما يجعلنا نتكهن بإمكانية وجود تنسيق تركي أمريكي في موضوع الموصل، مع رضا روسي على العملية. لكن ما هو الثمن الذي ستدفعه تركيا نظير سماح أمريكا وروسيا لها بالتدخل بالشأن السوري وبالشأن العراقي؟
يتوقع أن تقدّم تركيا تنازلات في الموضوع السوري من خلال موافقتها على بقاء بشار الأسد في حكم جزء من سوريا وبنفس الوقت إقامة دويلة خاصة بالسنة بالجزء المتبقي من سوريا، وهذا ما يتوافق أيضا مع الرغبة الإيرانية، أما ما يخص العراق، نتوقع أن يكون هناك اتفاق تركي أمريكي إيراني للسماح لتركيا بإقامة إقليم سني مقابل مساندتها بالضغط على سنة العراق لإقامة دولة مشكلة من ثلاثة أقاليم في العراق.
موقف إيران والحكومة العراقية
منذ أن أعلن أردوغان عن رغبته بالتدخل في الموصل قبل أيام ولحد الآن، لم يصدر موقف من إيران ولا من الحكومة العراقية بالقبول أو بالرفض لتلك التصريحات، مما يدلل على أن هناك ربما اتفاقا جرى بينهما سرا لتقاسم مناطق النفوذ بالعراق، ويعني هذا إمكانية تغير موقف إيران من هذا التدخل بشكل مفاجئ، حيث أن تصريحات أردوغان جاءت بعد زيارة وزير الخارجية الإيراني لأنقرة، ولتفسير ذلك نعتقد أن القيادة الإيرانية قد وصلت إلى قناعة، بأن جهود الحكومة العراقية ومن خلفها كل المليشيات الشيعية المدعومة من قبلها، لم تستطيع تحقيق إنجازات على داعش إلا بشق الأنفس وفي مدن صغيرة نسبيا، فكيف سيكون الأمر مع مدينة كبرى مثل الموصل والتي يقطنها أكثر من مليون ونصف إنسان؟
بالتالي فإذا ما فكروا بعقلية براغماتية، فإن احتمال فشل الحملة العسكرية على الموصل وارد وبقوة، هذا من جانب، أما الجانب الآخر، هو خوف إيران والحكومة العراقية من توسع النفوذ الكردي على حساب الموصل استعدادا لانفصال كردستان بدولة قومية خاصة بهم، مما سيرفع معنويات الأكراد الإيرانيين للعمل على تقليد النموذج الكردي العراقي، لإقامة دويلة كردية في إيران، والتي هي ذات المخاوف التركية. ستكون هذه المخاوف الإيرانية والتركية نقطة التقاء بين الدولتين، ليتم بينهم اتفاق تتخلى بموجبه إيران عن الموصل لصالح النفوذ التركي، كبديل لخسارة الموصل لصالح النفوذ الكردي، أو إقامة دويلة سنية غير موالية لإيران كما صرح بذلك أسامة النجيفي لقناة الجزيرة حول تشكيل “إقليم الموصل الجغرافي”. بينما إذا أصبحت الموصل تحت الوصاية التركية فمن السهل التفاوض مع الجانب التركي عوضا على التفاوض مع الجانب السني العراقي أو الكردي. والدليل على ذلك هو قوة العلاقة الاقتصادية التركية الإيرانية بالرغم من الاختلاف العميق في سياساتهم بقضايا الشرق الأوسط الأخرى.
يبدو أن الأمور تتجه لأحدِ السيناريوهات التالية والتي تتقارب احتمالية وقوعها، بسبب قلة المعلومات التي تجلّي الصورة لنا بشكل دقيق.
السيناريو الأول: يمكن اعتبار تصريحات أردوغان، كبالون اختبار تم إطلاقه لمعرفة ردود أفعال الأطراف المختلفة حول إمكانية التدخل التركي بالشأن العراقي من بوابة تحرير الموصل، وأن لا جدية لتركيا حاليا بالتدخل فعلا بالموصل، لا سيما وأن تركيا الآن في حالة حرب مع حزب ( PKK) جنوب شرقي تركيا ومع حزب (PYD) في سوريا، إضافة لحربهم مع داعش. فمن المستبعد أن تفتح جبهة عسكرية جديدة في العراق لأن هذا يرهقها عسكريا واقتصاديا. كذلك ليس لتركيا مصلحة في العراق تساوي درجة مصلحتها في سوريا، حيث أن تركيا تشعر أنها تورطت بأحداث سوريا، ويجب عليها إنهاء تلك الورطة بالتدخل المباشر. ناهيك عن أن تركيا ليست لديها أطراف موالية بالعراق بشكل حقيقي، كما هو الحال مع الجيش الحر في سوريا.
السيناريو الثاني: من المحتمل أن تقوم تركيا بالدخول في مغامرة عسكرية في الموصل مستندة على قواتها العسكرية وبمساعدة محلية من القوات التي يقودها النجيفي وكذلك قوات البيشمركة، وذلك بعد أخذ الضوء الأخضر من أمريكا وإيران، وستتحمل القوات التركية عبء إخراج داعش من الموصل، وإذا ما نجح هذا الأمر، ستكون هناك احتمالية لمطالبة الحكومة العراقية وبدفع إيراني، لمطالبة تركيا بالخروج من الموصل، بحجة انتهاء عملية التحرير وعدم وجود مبرر لبقاء تلك القوات في الموصل والأراضي العراقية. وبالتالي سوف تستفاد إيران وأمريكا من المكتسبات التي تحققت بفضل القوات التركية، وستكون تركيا أكبر الخاسرين في هذه العملية.
السيناريو الثالث: ويقضي هذا السيناريو بإمكانية التدخل التركي بالموصل وفق ما جاء في السيناريو الثاني، لكن بعد أن تكون تركيا قد أعدت جيدا لمرحلة ما بعد التحرير، وذلك بإيجاد عوامل ضغط قوية لها على الأرض وموالية لها، تستطيع من خلالها استثمار المكتسبات الجديدة التي حصلت عليها من وراء تدخلها العسكري في الموصل، كما وإنها سوف تستخدم أية وسيلة قانونية وغير قانونية لغرض إبقاء نفوذها قويا في تلك المنطقة. ومن أهم تلك الوسائل هو استخدام معاهدة أنقرة 1926 والتي تتيح لتركيا حق حماية المكون التركماني في ولاية الموصل التاريخية (والتي من ضمنها مدينة كركوك).
ولكن هذا الأمر يصطدم مع طموحات الأكراد، وتركيا ليس لديها الاستعداد للدخول بصراع مع أكراد العراق حاليا، فليس من الحكمة أن تواجه تركيا لأكراد في الدول الثلاث تركيا وسوريا والعراق بوقت واحد، لذلك فمن المرجح أن تقدم بعض التنازلات لأكراد العراق، مثلا الاعتراف بموضوع حق تقرير المصير على الأراضي التي يسيطر عليها البارزاني (أربيل ودهوك) وتكون هذه الدويلة الكردية الصغيرة تحت النفوذ التركي المباشر، كون تركيا هي الرئة الوحيدة التي سوف تتنفس منها تلك الدويلة الكردية الجديدة. أما النصف الثاني من كردستان العراق فسوف يكون تحت الإشراف الإيراني وهذا ما هو قائم حاليا بشكل واقعي.
المصدر: تركيا بوست