عاد مفيد لبيته وهو ممزق القميص، بسبب شجار حصل داخل الباص! فالمسكين مفيد كان في حديث هادئ عن السياسة والأحزاب والتنافس، ثم تطور الحديث إلى أسباب الفساد وضياع أموال العراق وتشخيص بعض الساسة، وهنا تطور الأمر إلى شتائم وسباب بحسب الولاءات! ثم ضربات ورفسات بين المتناقشين داخل الباص، عندها تحول الباص لحلبة مصارعة بدل أن يكون واسطة للنقل.
قصة تحصل أحيانًا كانعكاس لما يعيشه المواطن العراقي من محنة، فيحصل في الباص صراعات من الجدل إلى الملاكمة، بسبب غياب القانون الذي ينظم السلوك ويحفظ الحقوق، وأهم المشاكل التي تحصل في الباص، هي قضية إزعاج الركاب عبر تدخين البعض في الباص، وثانيًا قضية إجبار الركاب على سماع أغاني وبرامج إذاعية معينة حسب ذوق السائق، وثالثًا الأحاديث والنقاشات داخل الباص والتي تحصل بشكل مستمر، ورابعًا قضية التحرش الجنسي بالنساء، أربعة أمور تحصل بكثرة داخل الباص، ويعاني منها الركاب.
صداع يومي سببه أحاديث الباص
حدثني عجوز مسن ذات مرة، أنه صعد الباص للذهاب إلى مكان عمله، وما إن تحرك الباص حتى تحول إلى مكان لحديث طويل عن الانتخابات القادمة، وعن الفشل الحكومي، وتشارك الجالسين بالشتم والسباب للمفسدين الذين أضاعوا أموال العراق، ثم تحول الكلام نحو مباراة برشلونة الأخيرة، يقول العجوز: “الحقيقة أصابني الصداع قبل أن أصل إلى عملي، فأنا دفعت الأجرة فقط لأصل لمكان، وليس للاستماع لحديث السياسة والرياضة! أتمنى أن نصبح مثل باقي الدول المتحضرة، التي تهتم بالجزئيات وتضع قوانين كفيلة بتحقيق العدالة”.
أكثر ما يزعج ركاب الباص هي الأحاديث، فما إن يتحرك الباص حتى تبدأ أحاديث عن مشاكل عائلية بين الإخوة، وحديث عن النهوة ومشاكل أبناء العم، وحديث آخر عن العبادة ودورها بالحياة، وحديث عن كرة القدم وحظوظ منتخبنا في الصعود لكأس العالم، فلا أعلم هل نحن في مقهى أو مجلس للحديث! فيصر البعض على الكلام في السياسة وتبادل الآراء، والكلام بصوت عال مع أن هذا الفعل مناف للسلوك السليم، وتجاوز على حق الآخرين الذين دفعوا الأجرة للوصول للمكان المطلوب، وليس للجلوس واستماع حديث البعض، اعتقد يجب أن ننظم حياتنا، فهي اليوم مجرد فوضى كبيرة لا تنتهي، والتنظيم يتم عبر تشريع قوانين تفرض نوعًا من السلوك الحميد.
راديو السائق محنة حقيقية
العالم من حولنا تطور كثيرًا، في مجال حقوق المواطن وتحقيق العدل، حتى في جزئيات الحياة ومنها الباص، فهو وسيلة يشترك بها الكل وليست ملكًا لأحد، حتى صاحب الباص، فالراكب يصعد بأجرته التي يعطيها، وهو يشتري خدمة ويجب أن تكون بحسب ما يرضاه الذوق العام، وأقصد هنا قضية الراديو، حيث يفرض علينا السائق الاستماع إلى محطات معينة، ويشغل الراديو بصوت عال جدًا، فإن اعترض أحد، فإنه يرفض ويظهر الاستياء، أو تحدث مشاجرة كلامية وتراشق بالكلمات، إن طالبه المواطن بحقه في الهدوء داخل الباص! أتمنى أن تفرض غرامات على سائقي الباصات الذين يشغلون الراديو، ويزعجون الركاب مثلما تفعل باقي الدول.
يقول صديقي محسن الساعدي وهو إعلامي: “في أحد الأيام كنت في الباص المنطلق من الباب المعظم نحو الأعظمية، وقام سائق الباص بتشغيل أغنية هابطة مزعجة وبصوت عال، ورفض الاستماع لطلباتنا بغلق الراديو، لحظتها كم حسدت أحد الشباب الجالسين في الباص، حيث كان يضع سماعة يستمع بها للموسيقى، في بلدان العالم تفرض غرامات على من يزعج الركاب، فثقافة الغرامة هي التي تقوم سلوك المجتمعات، وهي اليوم ما نحتاجه كي يسود القانون ونرتاح من فوضى اليوم”.
الإزعاج الأكبر: التدخين
أكثر ما يزعج المواطن هو المدخنون، الذين يجعلون من الباص عبارة عن غرفة مملؤة بالدخان، ويرفضون إطفاء سجائرهم إن طلبنا منهم، كل دول العالم فرضت غرامات على التدخين في الباصات، وحتى دول الجوار تطبق هذا الأمر إلا في بلدنا لازالت القوانين حبرًا على ورق، لا تقوم السلطة التنفيذية بتطبيقها، إننا نعاني بسبب تخلي الدولة عن مسؤولياتها في فرض القانون، كم أتمنى أن نعيش تحت مظلة القانون الذي يتكفل بتحصيل الحقوق.
في أحد الأيام وجدت الأستاذ مهند الموسوي يلعن ويشتم، فسألته عن السبب، فقال: إنها مشكلة ركوب الباص التي لا تنتهي، بسبب المدخنين الذين لا يهتمون بباقي الركاب، فما إن يصعد ويجلس المدخن فإذا به يشعل سيجارته ويملأ الباص دخانًا، فإن اعترض أحد على مدخن تراه تعجب واندهش لأن الناس ترفض المدخنين! نفتقد للقانون الفعال.
نعم تم تشريع قانون يغرم بمبلغ عشرة آلاف دينار من يدخن في الأماكن العامة، لكن بقي حبرًا على ورق، فالسلطة التنفيذية لا تنفذ القانون، كل عللنا فيمن يمسك بالقرار مما تسبب بفوضى كبيرة في حياتنا، ننتظر أن نعيش في ظل القانون الفعال وليس النائم الذي يحمي حقوق المواطن.
التحرش بالنساء محنة
ظاهرة التحرش بالنساء في الباص، من الظواهر التي لا يمكن إنكارها، والتي لم تختف أبدًا، والسبب عدم خلق آليات ونظام ينظم طرق الجلوس، أو السعي لتطوير وسائل النقل بما يسهل الرقابة فيها، مثل حال بقية دول الجوار التي تطورت كثيرًا في مضمار النقل، اليوم مشاكل الباص كثيرة وكلها تعود لغياب تطبيق القانون وعدم السعي للتطوير، وهذه نقاط ضد الحكومة باعتبارها السلطة التنفيذية التي تجعل للقانون روحًا وحياةً، لذا نتمنى من الحكومة أن تفعل القوانين التي تحمي حقوق الناس.
في أحد الصباحات وجدت زميلة تبكي، للتو وصلت وتبكي، فسألتها عن السبب فقالت: “كثيرًا ما نتعرض لتحرشات داخل الباص من قبل المراهقين وحتى الكبار، والحقيقة عندما نرد بحزم ينسحب المتحرش، لكن أغلب النساء خجولات لا يقومن بأي ردة فعل، فيتمادى المتحرش بفعلته، أتمنى أن يتم تطوير وسائل النقل، بحيث تضمن عدم تعرض النساء للتحرش، لتحفظ كرامتنا”.
وتقول المواطنة هناء. ق: “حصل معي ذات مرة أن تحرش بي شاب كان جالسًا بجانبي فقمت بصفعه فنزل من الباص، نعم كانت ردة فعلي غير محسوبة فكان من الممكن أن يرد علي! لكن هي مشكلة نعاني منها في الباص، ومن دون حلول حقيقية بسبب طبيعة وسائل النقل، اعتقد نحتاج الى تطوير وسائل النقل بدل تخلفها الحالي.
مطالب عاجلة
مشاكل الباص كثيرة، وكلها تعود لغياب القانون واختفاء الوعي الإنساني، فعدم إدراك حقوق الآخرين يتسبب بكم من التجاوزات، وهذه الأمور تتسبب المزيد من المشاكل الاجتماعية، اليوم نحن بأمس الحاجة لنشر ثقافة الحقوق والواجبات، كي لا يحدث تجاوز من البعض على البعض الآخر.
وعملية التثقيف تعتمد على منهجية شاملة تقوم بها الحكومة وكل الجهات المسؤولة وصاحبة القرار في البلد، بالإضافة إلى أهمية تفعيل قانون العقوبات، الذي لو فعل لتغيرت حياتنا، وتحسنت السلوكيات الإنسانية مثلما فعلت بلدان العالم، وقومت السلوك عبر قوانين العقوبات والغرامات، مما تدفعهم جبرًا للسلوك الحميد.