إن كنت من هواة زيارة المتاحف والمكتبات حول العالم، أو كنت من المهتمين بالمخطوطات القديمة التي مرّ عليها قرون من الزمان ولا زلت محفوظة على رفوف المكتبات الأثرية، إليك مكتبة القرويين، التي يتم إعدة افتتاحها من جديد بعد مرور 1157 عامًا على وجودها في مدينة فاس شمال المغرب، والتي تُعد الآن، أقدم مكتبة في العالم تحتوي على مخطوطات وكتب تاريخية يعود تاريخها إلى 4000 سنة ماضية.
لا يمكن اعتبار التغيّرات المعمارية التي مرَت بها المكتبة بشكل جدي على مرّ التاريخ، سوى عملية إعادة إعمارها على يد المعمارية “عزيزة شاوني” كندية الجنسية مغربية الأصل في عام 2012، لتضع عزيزة اللمسات الأخيرة على المكتبة، لتسمح السلطات المغربية بإعادة فتحها للزيارة العامة عما قريب، بعد أن كانت الزيارة مقتصرة على العلماء والشيوخ وأساتذة الجامعات فحسب.
تصف عزيزة شاوني عملها في إعادة ترميم المكتبة في تقرير خاص بصحيفة الغارديان بأنه كان يشبه تضميد الجراح، حيث حاولت عزيزة تصميم العديد من الأنظمة التي تساعد على حماية المكتبة وما تحويه من مقتنيات ومخطوطات أثرية ثمينة، مثل نظام صرف صحي حديث، بالإضافة إلى قناة خاصة تمر من أسفل المكتبة تخفف من رطوبتها التي من الممكن أن تدمر ما تحويه من مخطوطات وكتب تاريخية قديمة، ذلك بالإضافة إلى مختبر متطور يقوم بعلاج المخطوطات المهترئة، كما تحتوي المكتبة الآن على أحدث الوسائل المتطورة في رتق الثقوب الموجودة على الورق القديم، كما تعمل بتقنية المساحات الضوئية الحديثة التي تكشف الثقوب الصغيرة جدًا في اللفافات الورقية، كما تعمل على علاجها بسائل خاص يمنعها من التشقق.
تعد أكثر الكتب قيمة في المكتبة هي نسخة من القرآن الكريم من القرن التاسع، مكتوبة بالخط الكوفي على جلد الجمل، تم وضع تلك النسخة في إحدى الغرف الخاصة في المكتبة، والتي تتميز بإجراءات أمنية مشددة، بالإضافة إلى نظام رطوبة خاص بها يعتمد على التكنولوجيا الخاصة بحماية الكتب التاريخية من الاهتراء أو من حدوث تشققات أو ثقوب في الورق.
“يمكنك أن تؤذي حراس الكتب، لكن لا تجرؤ على إيذاء الكتب نفسها”
هكذا يحرس حراس الكتب في المكتبة، فهم يحرسونها بكل غيرة عليها حرصًا على الحفاظ الكامل عليها، فهي بالنسبة إليهم إنجاز ضخم يحققه المغرب في ظل هذا الوقت العصيب الذي تداهم فيه الحركات الإرهابية الإرث التاريخي الخاص بالعديد من الدول، فبعد الأفاعيل الشنيعة التي ارتكبها تنظيم الدولة ضد الإرث الثقافي في كل من سوريا والعراق، يجد المغرب أن الحفاظ على مكتبة القرويين أو كما يصفونها بـ”خزانة القرويين” واجبًا عليه، بعد تدمير مكتبة الموصل في العراق، ونهب آلاف من المخطوطات الهامة مثلما حدث في تاريخ العراق وسوريا من تجريف وتدمير للمدن الآشورية القديمة مثل “نمرود”، بالإضافة إلى تدمير مدينة “تدمر” في سوريا، وتدمير العديد من المتاحف الهامة بآثارها كاملة، وكذلك تدمير بعض من الأضرحة الشيعية وكذلك المسيحية.
أعربت عزيزة شاوني عن سعادتها البالغة في التقرير، حين كُلفت بأمر ملكي بإعادة تعمير المكتبة، وهو المجال الذي يقتصر على الرجال في الثقافة العربية في أغلب بلادها، حيث بدأت العمل بالتعاون مع وزراة الثقافة في المغرب بترميم المكتبة، وهو الأمر الذي يعيد لعزيزة شاوني الفخر بذكريات تأسيس المكتبة نفسها، والتي تم تأسيسها كذلك على يد امرأة، وهي فاطمة بنت محمد الفهرية، قامت بافتتاح المكتبة في عام 859 ميلاديًا لأول مرة، وذلك بعد تأسيسها لجامعة القرويين، أقدم معهد تعليمي في العالم آنذاك، ليتخرج منها أعظم مفكري العالم في ذلك الوقت مثل ابن خدلون مؤسس علم الاجتماع والفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون ودبلوماسي الأندلس ليون الإفريقي أو “الحسن بن محمد الوزان”.
تقول عزيزة شاوني في مقابلة لها مع الغارديان بأن ترميم المكتبة يعيد إليها ذكريات جدها الأكبر في رحلته اليومية على الحصان من أجل الدراسة في جامعة القرويين، فكانت تصف المكتبة بأنها منزله في ذلك الوقت، وهي تتمنى أن يتخذ الناس عمومًا والمغاربة بشكل خاص المكتبة بيتًا آخر لهم، وأن يحسنوا استغلال ذلك الكنز الثمين الموجود على أرض بلادهم، فهي لن تحب أن يتم استخدام المكتبة كمزار سياحي فحسب، بل ستحب أن يستفيد المغاربة منها كما كانوا يفعلوا في الماضي، وذلك لأن المكتبة لا بد لها أن تعيش خالدة على مرّ التاريخ على حد قولها.
الصورة من على سطح المكتبة
لم تكن تلك المحاولة الأولى لإعادة ترميم المكتبة، فقد بدأت في ذلك فرنسا عام 1940، بتوظيفها لمهندسين معماريين يعملون على تحديد السلامة الهيكيلة للمكتبة في ذلك الوقت، كان الهدف من مشروع الترميم الفرنسي أن يتم فتح المكتبة لغير المسلمين للدراسة والاستفادة بما تحويه من إرث تاريخي وثقافي مهيب، فكانت النقوش المعقدة على الأعمدة والسقوف الخشبية العالية من صنع فرنسي، والتي مازلت موجودة حتى الآن بعد إعادة الترميم الأخير.
سيتم تنظيم الحفلات الموسيقية والحفلات الصوفية داخل المكتبة وقت افتتاحها، هذا ما تعد به وزراة الثقافة المغربية كل من يترقب افتتاح المكتبة للعامة، بالإضافة إلى المعارض المؤقتة التي سيتم عرضها في المكتبة بين الحين والآخر.
لن تقوم المكتبة بجذب عدد كبير من السائحين أو طالبي العلم إلى المغرب فحسب، بل ستعيد مكانة مدينة فاس المغربية في كونها عاصمة ثقافية من جديد بعد أن احتلت تلك المكانة لعدة قرون متواصلة من قبل في الماضي، قبل أن تتحول تلك المكانة إلى الرباط في كونها مركزًا للاهتمام السياسي وقت الحماية الفرنسية على المغرب آنذاك.