كان الشيخ أبو الحسن الندوي – رحمه الله – عالمًا متبحرًا في الثقافة والعلم والفكر، وقد زار البلاد الإسلامية وعرف أوجاعها وأمراضها، كما عرف خصائصها وميزاتها.
ولم يكن الشيخ أبو الحسن من أولئك المصلحين الذين انشغلوا بالنقد والتجريح عن العمل والسعي، بل كان يملك نظرة إصلاحية تقوم على أسس محددة، لا تغفل قوة المجتمع الإسلامي وميزاته، ولا تسعى إلى هدمه وبنائه وفق تصور نظري مسبق، بل كان مصلحًا يسعى لتفعيل فضائل المجتمع، ويفتخر بالتاريخ الإسلامي، ويبذل جهده لتنشئة النشء على معرفة تاريخهم والاعتزاز به، وعدم الانخداع بالمادية الغربية الفجة.
لقد عرف أبو الحسن مكامن القوة في الإسلام، وفهم هذا الدين فهمًا صحيحًا واضحًا واسعًا، ولم يتأثر، رغم معرفته بواقع الأمة ومشكلاتها، بتصورات انفعالية حماسية، فكانت رؤيته للإصلاح رؤية هادئة توعوية، تسعى إلى إصلاح العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتقدم الأمثلة والقدوة العاملة أمام العيون.
وقد انتقد بعضهم رؤيته للإصلاح التي كانت تقوم على نصح الحاكم الذي هو رأس الأمة، وعلى نشر الوعي بحقيقة الدين وسماحته، واعتبروا أن هذه الرؤية هي رؤية مثالية لا تتناسب مع واقع الأنظمة الاستبدادية الفاسدة، ولا مع واقع المجتمع الغارق في انحطاطه وبعده عن الدين.
لقد انتقد الشيخ الندوي تلك الأفكار التي نشأت تحت تأثير الظروف الزمانية والمكانية، والتي أرادت الإصلاح وتغيير المجتمع، لكنها راحت تسم المجتمع بالجاهلية، وتدعو إلى “إقامة الدين” بإطلاق يُظهر مدى ضيق النظرة والفهم الصحيح لمعنى “إقامة الدين” وغاياته ووسائله، وفي كتابة التفسير السياسي للإسلام درس الندوي آراء الأستاذ أبو الأعلى المودوي التي قدمها في رسالته “المصطلحات الأربعة في القرآن” والتي نشرها عام 1941م، وحدد فيها معنى كلمات: “الإله” و”الرب” و”الدين” و”العبادة”، فكانت رسالته هذه موضحة موقف الجماعة الإسلامية، التي أسسها المودودي في نفس سنة تأليف رسالته، من الأحزاب والتنظيمات والجماعات الأخرى في البلاد، لأنها بينت بجلاء الأفكار التي تدعو إليها الجماعة الإسلامية، والتي تميزها عن غيرها من تلك الجماعات.
وكان المفكرون قد استقبلوا آراء المودودي بالترحيب الكبير، وكان على رأسهم سيد قطب، الذي اقتبس كثيرًا من أفكار المودودي وتأثر به تأثرًا كبيرًا، حتى صاغ فكرة جاهلية المجتمع، التي كان الشيخ أبو الحسن الندوي يرى أنها فكرة خاطئة فيها تجني كبير على الأمة، التي لم تخل في عصر من العصور من مصلحين مجددين، والتي كان تاريخها الإسلامي تاريخًا مجيدًا من الظلم وسمه بالانحطاط بإطلاق.
التفسير السياسي للإسلام للندوي
وقد بين الشيخ الندوي في كتابه التفسير السياسي للإسلام وجه انتقاده لأفكار المودودي في رسالته “المصطلحات الأربعة” ووجه انتقاده لأفكار تلميذ المودودي سيد قطب حول فكرة جاهلية المجتمع وانحطاط الأمة، وبين المقصود “بإقامة الدين” و”حكم الشريعة” وأوضح كيف أن علاقة العبد بربه لا تنحصر فقط بعلاقة سيد وعبد أو حاكم ومحكوم، أو آمر ومأمور، بل هي علاقة أرحب وأوسع وأشمل.
إن الحس السليم الذي تمتع به الشيخ الندوي في نقده لهذه الأفكار، التي أوقعت المسلمين في مشاكل كثيرة، لأنها شجعت على التطرف، وشجعت على إصدار أحكام ظالمة بحق الأمة والمجتمعات الإسلامية، لهو حس نحن بحاجة لإيقاظه اليوم بضرورة كبيرة بين الشباب والمفكرين، وخصوصًا في ظل الأوضاع التي تمر بها الأمة الإسلامية، والثورات العربية التي امتدت في أماكن كثيرة من عالمنا العربي والإسلامي، مطالبة بإقامة الديمقراطية وحكم الشعب.
هذا الشعب المسلم الذي اختار الأحزاب الإسلامية لتحكمه في تونس ومصر وليبيا وفلسطين والمغرب والجزائر، ولكنه لا يريد أحزابًا إسلامية شكلية، بل يريد حكمًا ينشر سلوكيات الإسلام وفضائله، حكمًا يحارب الفساد والسرقة، حكمًا يؤصل للحرية وكرامة الإنسان، ويصلح العلاقة بين الحاكم والمحكوم، لتنطلق شعلة النهضة المرجوة في جميع البلاد الإسلامية إن شاء الله.
هي دعوة لمراجعة هذا الكتاب من جديد، وسأختم بما كتبه الندوي في إهدائه لكتابه حين قال: “أهدي هذا الكتاب إلى من يكون على استعداد دائم للانتقال من نافع إلى أنفع، ومن صالح إلى أصلح، ولقبول الحق إذا اتضح، والدليل إذا قام “فإن الحق قديم” كما يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في منشوره للقضاء، فالرجوع إليه لا غضاضة فيه ولا بدعة، أهدي هذا الكتاب إلى من يرى أن حق الملاحظة والنقد، حق مشاع، لا يحرمه ذو علم وصاحب فكر، وأن عملية النقد وإبداء الملاحظات، لا يطبق عليها قانون اتجاه واحد”.