في واحدةٍ من أعظم صراعات التاريخ الحديث، يعيش الشرق الأوسط اليوم صراع المذهبية والطائفية والتي تتركز ما بين السنة والشيعة، حتى إنها أصبحت تتصدر الشاشات والمواقع والحوارات وحتى أحاديث طاولت القهوة ومكاتب العمل، جميعها امتلأت بحقدٍ متبادلٍ ما بين الشيعي والسنّي، كلاهما يقتل الآخر ويجد مبررًا دينيًا عقائديًا يمد هذه الحرب بالمزيد من النار والدماء التي لم تقف عند حدود الدول التي أشعلت فيها هذه الفتنة، بل وبدأت تزحف شيئًا فشيء إلى اللاعبين الكبار في الوسط الإقليمي.
تلك الحقيقة المزيفة التي عملت أطرافٌ عدة من أجل إقناعنا بها لسنوات عديدة لتحقيق أغراضٍ ومصالح عدة، سقطت في اختبار بسيط قام به شبان عراقيون حين أجروا تجربةً اجتماعية لشاب سنّي يصلي في شوارع كربلاء ومحاولة تحريض الناس هناك على طرده، لكن المفاجأة كانت أن دافع الشيعة عن السنّي الذي يصلي في عقر دارهم، حدث ذلك في العراق صاحب الفسيفساء الطائفي الكبير الذي كان تحفةً اجتماعيةً وحضارية قبل أن يتحول إلى أبشع الصراعات الأهلية الداخلية.
كان المشهد مثيرًا جدًا وكشف عن الوجه الآخر للحقيقة التي حاول الكثيرون خداعنا بها لسنواتٍ وسنوات، واستعانوا للتدليل عليها بالمتطرفين والراديكاليين من الطائفتين، قنوات وتنظيمات ومشايخ برزوا بقدرةٍ قادر على حين غرّة واستفاقوا في القرن الواحد والعشرين على وجوب محاربة الطائفة الأخرى قبل قتال العدو الكافر، وألف عجبٍ لهذا!
لست في مقام توصيف الحالة التي وصلنا إليها من الحقد الطائفي المتبادل، ولا من تسبب فيها وكيف، بل أردت من مقالتي هذه تسليط الضوء على جوانب أخرى في ذلك المشهد، حيث نقف أمام حقيقة أن الشباب هم معول البناء حينما يفكرون ويحكّمِون عقولهم، ولكنهم يصبحون أداة هدم ونزيف دماء ونارًا توقَد عليها المؤامرات التي تسعى لتقسيم الأمة أولًا ثم تدمير نفسها بنفسها، كما حدث في أوروبا خلال “حرب الثلاثين عامًا” بين الطائفتين الكاثوليكية والأرثوذوكسية المسيحيتين، والتي جعلت أوروبا بلدًا للظلام والجهل ومسحتها من خارطة التقدم والحضارة.
الأمر الآخر هو الكمّ الهائل من الأموال التي تنفق في إنتاجٍ إعلامي ودعائي يثير الحميّة ويذكي الطائفية ويحمس الصدور ويدفع بالأمة نحو الشقاق والحِراب والقتال وإشعال فتيل الدم الذي لن ينطفئ بسهولة، حتى أصبح الإنتاج الدعائي الطائفي في الشرق الأوسط ينافس الإنتاج العالمي في هوليوود وغيرها، في بشاعة المشاهد من ناحية وجودة إنتاجها فنيًا وتقنيًا من ناحيةٍ أخرى، انظروا كيف أصبح تسويق الطائفية متقنًا ومروجًا إلينا كسلعةٍ فكرية تشعل شهوة القتل والتعطش إلى المزيد والمزيد من الدماء، وهذا الأمر متبادلٌ لا يسقط من طرفٍ إلى طرف.
وفي غمرة حرب إنتاج الطائفية الفكرية المتعطشة التي تتسلل إلى ذواتنا وعقولنا الواعية واللاواعية، يقاوم بعض الشبان بإمكانياتٍ بسيطة ووجود متواضع على الساحة الدعائية والإعلامية، لكنهم ينجون حيثما أراد لهم الآخرون الفشل.
وما بين الدعاية الطائفية المحرِضة على القتال والدماء من جهة والدعاية الوحدوية والتوافقية من جهةٍ أخرى بون شاسع جدًا، يصيبك بالبؤس من علو صوت الفُرقة أمام صوت الوحدة، وانحلال القيم الفكرية في مجتمعاتنا وشعوبنا بدرجة أصبح سهلًا من خلالها السيطرة على عقول الناس وتحويلهم إلى ربوتات تقاتل دون وعي بحقيقة الأهداف السياسية وصراعات السيطرة التي تدور رحاها بين إمبراطوريات القرن الواحد والعشرين.
يومًا ما قرأت أن أوروبا توحدت بعد حروبٍ راح ضحيتها 50 مليون إنسان، وتساءلت حينها هل يجب أن نصل إلى هذا الرقم من الأرواح – في زمن سقط فيه سمو الروح البشرية وأصبحت مجرد رقم – كي نعي لهذا المرض الخبيث ونلفظ أصحابه وتستعيد الأمة وحدتها وقوتها وتماسكها!!
واليوم أكرر ذات السؤال وأترك الإجابة برسم القارئ الكريم.