“قمة العشرين” تشكلت بعد الأزمة المالية التي ضربت العولمة والاقتصاد المعولم في عام 2008. وكان الهدف منها معالجة الاقتصاد العالمي ومحاولة التوافق بين الدول العشرين المنتقاة كأقوى دول من الناحية الاقتصادية في العالم.
الذين يعتبرون أن الاقتصاد هو المؤثر الأول في الوضع العالمي، لا بد لهم من إعطاء أهمية استثنائية للقمم “العشرينية” في معالجة الأوضاع السياسية والأزمات الكبرى، والحروب في العالم.
ولكن هناك من يخالف هذا الرأي بالنسبة إلى العلاقة بين الاقتصاد والسياسات العليا (الاستراتيجية) للدول. ومن ثم يعطون أهمية أكبر لاستراتيجيات الدول وسياساتها على الاقتصاد.
ومن ثم لا يعطون القمم “العشرينية” الاهتمام ذاته الذي يُعطيه لها الذين يضعون الاقتصاد في المرتبة الأولى ومن ثم لا يعتبرون الاقتصاد هو الذي يحدّد سياسات الدول واستراتيجياتها. طبعا بالرغم من أهميته.
من يتابع قمة العشرين التي عقدت في مدينة هانغتشو الصينية في 4 و5 أيلول/ سبتمبر 2016، يلحظ أن الخلافات السياسية ما بين دولها طغت على كل اللقاءات الثنائية التي تمت بين الرؤساء، وهي أهم من الاجتماعات ذاتها التي تشهدها الجلسات الجماعية الرسمية.
فكانت سوريا وأوكرانيا الموضوع الرئيس بين أوباما وبوتين، كما بين لافروف وكيري. وكذلك علاقات تركيا بكلٍ من الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا بعد فشل الانقلاب العسكري في تركيا، كما العلاقات مع سورية في لقاءات أردوغان مع كل من بوتين وأوباما، فضلا عن انعكاسات انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أو العلاقات البريطانية- الروسية.
فقمة العشرين في الصين، أعطت صورة تعكس حالة الوضع الدولي ولا سيما من الناحية السياسية أو من جهة العلاقات ما بين بلدان القمة (العلاقة بين كل بلدين)، فهي كانت أقرب لتكون مناسبة لعقد قمم ثنائية منها لعقد قمة جماعية تبحث شؤون الاقتصاد العالمي.
فقد قدّمت صورة على نقاط الاختلاف والاتفاق ما بين روسيا وأمريكا، أو بين أمريكا والصين (هنا يبدو التناقض هو الأشدّ ولكن تحت الطاولة)، أو بين أمريكا وكل من مصر والسعودية حيث لم يقابِل أوباما الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي (بالرغم من تهافت الأخير لمصافحته)، ولا ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، فيما تبدّت العلاقات الروسية- السعودية من خلال لقاء بوتين- محمد بن سلمان، ذاهبة إلى تفاهم استراتيجي. وذلك ليس بالنسبة إلى توافقهما حول قضية النفط فحسب، وإنما أيضاً على مستوى أشمل حيث صرّح بوتين قائلاً: “لا يمكن حلّ أيّ قضية جديّة في المنطقة من دون المملكة”.
وعلى هذه الصورة قِسْ كل ما كشفته العلاقات الثنائية داخل القمة وخارجها في ما بين مجموعة دولها. ما يعطي فكرة عامة، وإن لم تكن عميقة أو غاية في الدقة، حول سمات العلاقات الدولية في هذه المرحلة. هذا ولولا افتقارها لوجود إيران فيها لكانت الصورة أكثر تعبيرا عن حالة الوضع الدولي.
وأن من يتابع حركة الرؤساء داخل قمة العشرين ومن حولها خلال اليومين المذكورين يلحظ أن روسيا بوتين كانت الأكثر تحركا ومحورية. بما يعكس دورا لروسيا لم يسبق له مثيل من حيث تأثيره وعلاقاته ونشاطه ومحاولته امتلاك زمام المبادرة. فيما يلحظ في المقابل خمول الدور الأمريكي، وافتقاده إلى المبادرة، أو محاولة التأثير في مجريات القمة على الضدّ مما كان عليه في مراحل سابقة.
هذا ويمكن أن تقدّم الملاحظة نفسها على ضعف الدور الفرنسي والألماني أيضا، لولا محاولات رئيسة الوزراء تيريزا ماي إثبات وجودها، وهي تشارك لأول مرّة، رئيسة لوزراء بريطانيا في أول قمة عالمية على هذا المستوى، كما كانت بحاجة إلى إعطاء إجابات حول الدور البريطاني بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي.
ولعل الرئيس النركي رجب طيِّب أردوغان جاء بالمرتبة الثانية بعد الرئيس الروسي بوتين، من حيث حركته داخل القمة. ولا سيما في معالجة ما تفاقم من تناقضات بين تركيا وكل من أمريكا وألمانيا حيث راح الشرخ يتوسّع إلى حدّ بعيد بسبب الموقف من الانقلاب وبعده، وهو شرخ سيكون له ما بعده إذا لم يُصَر إلى تداركه.
وخلاصة، يُلاحَظ من النظرة العامة إلى العلاقات بين الدول في “قمة العشرين” في هانغتشو، بأنها تعكس وضعاً عالميا مفككا ومتناقضاً لم يسبق له مثيل منذ الحرب العالمية الأولى، فمن كانوا بالأمس، وما زالوا، “حلفاء” أصبحت العلاقات في ما بينهم باردة أو فقدت حرارتها السابقة، ومن كانوا إلى أمس القريب، وما زالوا، في حالة من التناقض العدائي، أو شبه العدائي، أصبحت العلاقات في ما بينهم مفتوحة على الحوار والتفاهمات الجزئية.
فبوتين يسعى إلى التفاهم مع أمريكا، وهو يحاول أن يفرض عليها روسيا باعتبارها دولة كبرى موازية ومبادِرة. فضلاً عما بينهما من شبه حرب في أوكرانيا. أما الصين وأمريكا فقد أصبحتا في حالة مواجهة في بحر الصين والمحيط الهادئ. ولكنهما ما زالتا تبحثان عن نقاط لقاء وتعاون. بل إن روسيا والسعودية عمليا في حالة حرب، أو ما يشبه حالة الحرب في سوريا. ولكنهما في الآن ذاته راحتا تطورّان علاقات استراتيجية على أعلى مستوى.
ما تقدّم مجرد أمثلة سريعة مختصرة، يمكن أن يُضاف إليها الكثير من الأمثلة التي تعزز فكرة الوضع العالمي المفكك والمتناقض حتى العداء. ولكنه الباحث في الآن نفسه عن مخرج توافقي ما، أو في الأقل عن سقف يجمع العداء مع اللاعداء. هذا إذا لم يحقق تفاهماً قوياً في نقاط أخرى غير نقاط مواضع العداء.
على أن اللافت حين تأتي إلى الموضوع الاقتصادي، أي الموضوع الذي جمع الرؤساء في هذه القمة، وقد اتفقوا على ضرورة إعطاء زخم للتنمية واعتبار أن التجارة تلعب دورا مهما في تشجيع الاستثمار والتنمية. ولكن اللافت ما عبّر عنه بيانها الختامي من دعوة إلى التصدي لما تتعرّض له العولمة من “هجمات شعبوية” وذلك من خلال “التعهّد بمكافحة الحمائية”.
حقاً ثمة ما يدهش عند متابعة الموقف الصيني واندفاعه في المطالبة بحريّة التجارة وفتح الأسواق أمام التجارة، ومكافحة الحمائية. مما يذكر بالموقف الأمريكي- الأوروبي في أثناء الترويج للعولمة في أوائل التسعينيات.
وذلك حين كان يُطالَب بفتح الأسواق وحريّة التجارة وإزالة الحواجز الجمركية وإلغاء الحمائيات وصولاً إلى الحديث عن سوق عالمي واحد. بل وكف يد الدولة عن التدخل في الاقتصاد والتنمية وترك السوق يعدّل نفسه بنفسه. وهذا كله كان من أجل الانتقال إلى نظام العولمة. سبحان مبدّل الأحوال ومغيّر الأقوال.
ولكن في المقابل كان المدهش أكثر انقلاب الموقف الأمريكي حيث طالب أوباما بـ”التجارة العادلة” وليس بحريّة التجارة المطلقة، ودعا إلى التوازن في عملية تشجيع حريّة التجارة”. وبهذا تكون الصين وأمريكا تبادلا مواقف كلٍ منهما في الماضي والحاضر. فبعد أن كان معارضو العولمة، والشعوب عامة، يطالبون بالتجارة العادلة، وليس بالتجارة الحرّة من أيّة قيود، من أجل مواجهة العولمة، أصبحت أمريكا وأوروبا أقرب إليه لمواجهة الصين ونهوض عدد من دول آسيا.
أما استنكار بيان مؤتمر قمة العشرين لـ”الهجمات الشعبوية” على العولمة، من خلال الدعوة إلى الحمائية فإنه ضرب من التكاذب والنفاق لدى الدول الكبرى كلها تمارس الحمائية بشكل أو بآخر.
وأخيرا، وللأسف من جهة أخرى، لم يلتفت أحد إلى النهب العالمي الذي تتعرض له الشعوب، أو إلى الاحتكار العالمي من خلال الأثمان الخيالية للأدوية ومنتجات الثقافة المحمية والمدعومة من قِبَل “حقوق الملكية الفكرية” أو “حقوق البراءات”.
فها هنا يموت الملايين حين يمنع إنتاج الدواء البديل أو يمنع احتكار مالكي المخترعات من الشركات المتعددة الجنسية.