كمال قلجدار أوغلي (إلى اليسار) رئيس حزب الشعب الجمهوري مع أعضاء من الكونجرس أثناء زيارته للولايات المتحدة في ديسمبر الماضي
التيار العلماني
يظن الكثيرون أن الخلاف الجاري في تركيا الآن بين حزب العدالة والتنمية وحركة كولن فقط، وهذا غير صحيح، فهُم الآن القطبان الكبيران، إلا أن الطرف العلماني ما زال مؤثرًا. لماذا لا نسمع لها صوتًا كأردوغان وكولن إذن؟
منذ تولي حزب العدالة والتنمية دفة الحُكم عام 2002، كانت إحدى مهماته القضاء على هيمنة العلمانيين الإقصائية، ليس في مؤسسات الدولة وحسب، بل في المجال العام، وخصوصًا في الاقتصاد. وكان هذا هدفًا مشتركًا مع حركة كولن التي أرادت أن تتوسع هي الأخرى في المجال العام، وكانت قد تعرّضت لتضييق شديد إثر الانقلاب الناعم عام 1997. بعد أكثر من عقد، نجحت بصورة كبيرة سياسة الحزب في القضاء على تلك “الهيمنة الإقصائية”، فلم يعد العلمانيون يهيمنون، ولم يعد في إمكانهم إقصاء أحد، ولكنهم لا يزالون موجودين ومؤثرين كطرف في منظومة سياسية متعددة الأقطاب إن جاز القول، بعد أن كانوا هم القطب الأوحد.
الجناح السياسي التقليدي للعلمانيين هو حزب الشعب الجمهوري (CHP)، وهو الحزب الذي أسسه أتاتُرك وحكم تركيا عبره خلال سنوات الحزب الواحد. تولى رئاسة الحزب عصمت إينونو رفيق أتاتُرك بعد وفاة الأخير، والذي شهد سقوط الحزب في أول انتخابات ديمقراطية، ليعود إلى السلطة بعد انقلاب 1960، ثم تبعه بولنت أجاويد، والذي وضع الحزب على طريق الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية ليقترب به إلى اليسار قليلًا في ظل مناخ سياسي جعل اليمين دومًا مناهضًا للحزب، خصوصًا وأن العلويين، وهم أحد الكتل الهامة للحزب، اتجهوا لليسار بطبيعة الحال إذ كانت الثقافة الإسلامية السُنية أحد أعمدة الأحزاب المحافظة. توجهات الحزب ستة، كما تشي بذلك الأسهم السِت التي جعلها أتاتُرك شعارًا للحزب، هي العلمانية والقومية والشعبوية والجمهورية والتمركز حول الدولة والثورية، ورُغم أن القومية والعلمانية كانتا الفكرتين الأهم في تاريخ الحزب الذي شهد حكمه أشد أنواع القمع ضد الأكراد والطرق الصوفية وكافة أشكال الوجود الديني في الحياة العامة، إلا أنه يبدو أجاويد، منذ أن كان عضوًا بارزًا تحت قيادة إينونو، رأى أن أفكار مثل “التمركز حول الدولة” و”الشعبوية” و”الثورية” يمكن أن يكونا حلقة وصل مع اليسار، وإن ظل هناك تواجدًا مستقلًا لليسار والشيوعيين وثل لأوجه في السبعينيات.
بدأ عهد جديد مع دنيز بايكال، والتي تُعد فترته هي الأسوأ في تاريخ الحزب، فبايكال ربما هو أول من قنع بموقع المعارض الذي حرر الحزب من أي مسؤوليات سياسية حقيقية مع إعطائه قوة كافية لممارسة السياسة كممثل لـ20%، تنقُص أو تزيد، وهو ما اعتبره كافيًا في مرحلة كانت فكرة اليسار الديمقراطي فيها تتراجع، محليًا أمام نجاح سياسات أوزال في خلق طبقة وسطى جديدة، ودوليًا بسقوط الاتحاد السوفيتي. بفوز كمال قلجدار أوغلي برئاسة الحزب عام 2010 انتهت حقبة بايكال، وتحسّن أداء الحزب كثيرًا وكسب ثقة الكثير من شباب الطبقة الوسطى العلمانية الذين اتجهوا إما لحزب الحركة القومية، أو لأحزاب يسارية، إلا أن هذا التحسن لم يعدو كونه تواجدًا أقوى في البرلمان، تقديم استجوابات، الإدلاء بتصريحات ناقدة للحكومة، قيادة مسيرات في ذكرى الجمهورية تمسكًا بالـ”الإرث” الأتاتُركي ومبادئ الجمهورية، وهي مبادئ الجمهورية العلمانية الرافضة للدين، والقومية الرافضة لوجود أي قوميات أخرى، لا مبادئ الجمهورية الديمقراطية المدنية، والتي أصبح يجسدها حزب العدالة والتنمية في صعوده على مدار العقد الماضي، وكسب بها أصوات الكثير من الليبراليين الناقمين على الأتاتُركية التقليدية، والناظرين لأوربا الجديدة، أوربا السوق الحر واللامركزية وحقوق الأقليات، لا أوربا الكلاسيكية التي نظر لها أتاتُرك مستلهمًا منها قوميته وعلمانيته.
بصعود حزب العدالة ممثلا للإسلام المهمَّش في المحافظات، والطبقة الوسطى الجديدة التي صعدت مع موصياد وتوسكُن، ورغبة حركة كولن في التوسُّع في العمل الاجتماعي بحرية، وشريحة الليبراليين الجدد من الشباب، تضاءلت أرصدة الحزب لدى الشعب، وأصبحت لا تتجاوز الـ20-25% التي تجسد الحزب بأعضائه وقدرته على الحشد، مع حلفائه الاقتصاديين وقدرة منابرهم الإعلامية على التأثير، مع معاقل العلمانيين التقليدية في المدن الغربية والتي يحقق فيها أفضل نتائجه دومًا. بحتمية صعود الإسلاميين وتوسع الثقافة الإسلامية نسبيًا في المجال العام، أصبحت مسألة العلمانية الصِرف عاملًا يحد من قدرة الحزب على توسيع قاعدته الشعبية، ولذلك بدأ مؤخرًا في الانفتاح النسبي، إذ صرّحت إحدي قياداته أنها لا تمانع في دخول محجبات إلى حزبه، كما قامت قيادة أخرى بزيارة مدرسة لتحفيظ القرآن. رغم ذلك، تظل هناك بعض الأسس غير قابلة للتفاوض، مثل تدريس القرآن والسنة في المدارس الحكومية، وهي الخطوة التي دشنها حزب العدالة والتنمية وعارضها حزب الشعب الجمهوري.
حزب الشعب الجمهوري لا يمثل إلا الذراع السياسي الشكلي والمعبر عن تلك القطاعات العريضة اجتماعيًا، والمصالح المتشابكة اقتصاديًا، وهو ما يجعل التمثيل السياسي للقوة العلمانية في المجتمع التركي ضعيف نسبيًا، وهو ربما السبب في خفوت صوتها في المعركة.
إذا جُلنا بنظرنا في قائمة أغنى مائة تركي، سنجد أن الأسماء التي تتربع على القمة أعضاء في توصياد، تجمع رجال الأعمال والصناعيين الأتراك الذي نشأ في أوائل السبعينيات جراء الفشل المستمر للاقتصاد المخطط من قبل الدولة، والذي دشنته الشركات الصناعية الكبرى في تركيا في تلك الفترة وأنشأت له فروعًا في أوربا والولايات المتحدة، ويمثل اليوم حوالي 50% من الناتج القومي التركي، وهو “نادي الكبار”، الذي يضم أسماء مرموقة مثل العائلات الثلاثة الكُبرى “كوتش” و”صابانجي” و”أجزاجي باشي”، ومجموعات إعلامية كُبرى مثل دوغان صاحب جريدة حرّية، ثاني أكبر صحيفة في تركيا، وعشرات من المنابر الإعلامية المؤثرة في الرأي العام التُركي. إلا أن هذه “الفيلة”، باعتمادها المستمر على النخبة القديمة في الدولة التركية حتى مطلع هذا القرن، لم تستطع مجاراة “النمور” الأناضولية التي تهيمن على الساحة اليوم لا بحجمها، ولكن بمرونتها وابتعادها عن التقيد بسياسات الدولة. فشل توصياد في مجاراة هؤلاء وتراجعت هيمنته، ورُغم حجمه إلا أنه محدود جغرافيًا بتمركزه في المدن الصناعية الكبرى التركية، بعيدًا عن مساحات الأناضول والشرق الواسعة التي يهيمن فيها النمور، ومحدود جغرافيًا أيضًا بأعماله في الخارج المنصبة على أوربا وأمريكا، على العكس من موصياد مثلًا الذي يملك أعمالًا في آسيا الوسطى والعالم العربي والإسلامي والبلقان بالإضافة إلى أوربا وأمريكا. أحد أبرز أسباب قنوع توصياد بموقعه وعدم مساندته المفتوحة لأي حروب شنها القضاء أو العسكر خلال العقد الماضي ضد حزب العدالة والتنمية، هو نجاح الحزب في إدارة الاقتصاد، وهو ما ساعد على نمو أعمال توصياد كجزء من نمو تركيا، وهو أمر طبيعي لكتلة اقتصادية بالأساس قبل أن تكون صاحبة رؤية سياسية.
الشرائح الاجتماعية التي يمثلها العلمانيون بكافة أحزابهم وشبكاتهم الاقتصادية لا تتجاوز خُمس الشعب التُركي، ولكنها متمركزة في مراكز التأثير جغرافيًا مثل إسطنبول وأنقرة وإزمير (وتمثل المدن الثلاثة أكثر من 40% من اقتصاد ترُكيا)، وهو ما يُعَد كافيًا ليظل تأثيرها مستمرًا عبر ما تملكه من شبكات اجتماعية لا تزال موجودة. العلمانية في تُركيا، على عكس العالم العربي، ليست أقلية قليلة محصورة في جيتو في علاقة طفيلية مع الدولة، الرافد الاجتماعي العلماني في تركيا هو نتاج لسنوات من “الهندسة الاجتماعية” التي تجاوزت الدولة وترسخت في تلك المدن الثلاثة الكُبرى على أقل تقدير، وهي تملك مدارسها ومؤسساتها الكبرى التي ستحفظ لها بقاءها على مدار عقود. كل ما هنالك أن صعود الروافد الإسلامية التي هُمِّشت في الأناضول وحتمية وصولها للسلطة في مجتمع ديمقراطي وصراعها الشرس مع مراكز القوة العلمانية في الدولة دفع بها اليوم إلى حماية مكتسباتها الاجتماعية، والتراجع سياسيًا أمام حزب العدالة والتنمية، بغياب أي رؤية وقدرة على تقديم بديل، ناهيك عن أنها استفادت كغيرها من النمو الاقتصادي الذي حققه الحزب واتجاهه نحو أوربا.
بالتباطؤ الحادث نحو الانضمام للاتحاد الأوربي، والافتراق مع الولايات المتحدة في ملفات عدة، والتغير في سياسات حزب العدالة والتنمية خلال العامين الماضيين، والخلاف الحادث مع حركة كولن، انفتحت مجددًا أبواب للنفاذ السياسي في الساحة التُركية، وهو ما شجع حزب الشعب الجمهوري على محاولة التواصل مع المُفترقين مع أردوغان في الداخل والخارج، وعلى رأسهم الولايات المتحدة وإسرائيل وحركة كولن. فالأولى زارها وفد الحزب برئاسة قلجدار أوغلي قبيل الأحداث الجارية في مطلع ديسمبر وافتتح فيها مكتبًا لحزبه هناك لأول مرة، والثانية التقى لوبياتها المتعددة في زيارته لواشنطن، والثالثة التقى قيادات منها في واشنطن أيضًا وتظهر بين الحين والآخر شائعات عن دعمها إياه في الانتخابات كما جرى مع أجاويد في أواخر القرن الماضي، وبالتحديد دعمها لمرشح الحزب صاري كول لمنصب عمدة إسطنبول شديد الأهمية.
العلمانيون موجودون إذن، بواجهة سياسية تحاول التشبيك مع أكبر عدد من القوى لرفع مكتسباتها السياسية رُغم أنها لا تزال واجهة هشة أمام الرأي العام، وبنفوذ متراجع في الدولة التي شكلوا فيها يومًا الدولة العميقة التي اتصلت بشبكات خارج نطاق الدولة وساهمت مرارًا في تمرير الانقلابات. بتحييد الجيش التركي في العملية السياسية وصعوبة تدخله، وبتقاسم الكعكة الاقتصادية بين نمور الأناضول والعمالقة القدامى، لم يعد التغيير ممكنًا لصالح العلمانيين على الطريقة القديمة. الباب الوحيد للعودة إلى السلطة سيعتمد إذن على التواصل مع الدولة العميقة، والتي نفذت فيها بشكل كبير حركة كولن، ودعم من الخارج، والاعتماد على تراجع حزب العدالة والتنمية دون الـ50% من البرلمان في الانتخابات القادمة، والتي قد تتيح ائتلافًا بين حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية.
السؤالان المطروحان الآن، واللذان سنجيب عنهما في المقالات القادمة، هما: ماذا تغيّر منذ 2011 في سياسة حزب العدالة والتنمية داخليًا وخارجيًا وأدى إلى افتراقه مع حركة كولن؟ وكيف يعد الحزب لمواجهة سيناريو كهذا، أن يُحرَم من أصوات حركة كولن ويفشل في الهيمنة على البرلمان كما اعتاد في السابق؟