يبدو أن مصاعب مصر لن تنتهي قريبًا، ومصائبها لا تأتي فرادى، فبعد كارثة تحويل مياه نهر النيل، وبناء سد النهضة الإثيوبي، ظهرت الآن مشكلة أخطر وهي المسارات البديلة للسفن عن قناة السويس، والتي برزت خلال العقود الماضية بعشرات التصريحات، أو الإشارات عن نوايا استبدال قناة السويس المصرية، أو على الأقل محاولة خلق طريق بديل؛ لمشاركتها حصتها من التجارة العالمية العابرة في هذه المنطقة المهمة من الناحية الاستراتيجية والجيوسياسية عالميًا، ويختصر زمن الطريق الذي تتحكم فيه القناة، وهي مشروعات أو أفكار لم تر النور حتى الآن، إما بسبب تكاليفها شديدة الضخامة، أو لأسباب تقنية أخرى تعوق التنفيذ.
مفاجأة بالتيكا
لكن نجاح ناقلة الغاز الروسية “بالتيكا” بتنفيذ أول مرحلة من مهمتها لنقل الغاز المكثف من مورمانسك الروسية إلى شنغهاي الصينية، عبر الطريق المحاذية لسواحل البلاد الشمالية من المحيط المتجمد الشمالي، والتي ستعوضها عن استخدام الطريق الجنوبية عبر قناة السويس، يضع علامات استفهام كبيرة حول إمكانية تحقق تلك المشروعات أو إحداها على الأقل، وهو ما قد يشكل وبالًا على الاقتصاد المصري، الذي يشرف على الانهيار حاليًا، لاسيما وأنه في حال تكرار نجاح تجربة “بالتيكا” سيفتح مستقبلًا آفاق جديدة لنقل مصادر الطاقة الروسية شرقًا وغربًا، خاصة وأن هذا الممر الجديد بإمكانه أن يستوعب نصف البضائع والمواد التي تمر الآن عبر قناة السويس من أوروبا وأمريكا إلى الصين واليابان.
كلفة ووقت قليلان
رحلة “بالتيكا” تمت بوقت وكلفة قليلين بالنسبة لقناة السويس، حيث قطعت في رحلتها 2500 ميل بحري خلال 11 يومًا، حتى المحطة الأولى في ميناء “بيفيك تشوكوتكا”، عبر مياه المحيط المتجمد الشمالي، وعلى متنها 70 ألف طن من مكثفات الغاز، ورافقتها في الرحلة كاسحة الجليد الذرية “50 عامًا على النصر”، حيث انطلقت من مدينة مورمانسك الروسية في 14 أغسطس الماضي، متوجهة إلى الصين في أول رحلة تجريبية بهذا الطريق الجديد، الذي يختصر رحلة قناة السويس من 20 ألفًا و500 كيلومتر، إلى 1200 كيلومتر فقط عبر بحر الشمال، ما سيوفر على كل باخرة 10 أيام من الوقت، و300 ألف دولار من الإنفاق .
محاولات جديدة
لم تعد المسألة اقتصادية فقط، وباتت مساعي الدول لخلق القنوات البحرية والطرق البرية البديلة عن قناة السويس، من أهم عناصر التنافس الإقليمي والدولي، حيث تسعى الدول إلى تشكيل ممرات وطرق خاصة تتحكم فيها وتؤمنها سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، بالمقارنة بقناة السويس التي تسيطر حاليًا على حوالي 70% من حركة التجارة العالمية، نظرًا لموقعها الجغرافي المتميز؛ مما أكسبها على مدار العقود الطويلة الماضية أهمية استراتيجية واقتصادية كانت كافية لإشعال الحروب الكبرى للسيطرة عليها.
ممر الصين
مؤخرًا برزت مشاريع لطرق جديدة وإعادة إحياء لطرق قديمة، سواء بحرية أو برية؛ الأمر الذي شكل منافسة وتهديدًا للقناة المصرية أهمها الممر الشمالي الشرقي، الذي كشفت عنه بداية العام الحالي الحكومة الصينية، والذي يمر عبر المحيط المتجمد الشمالي، الذي فتح بفضل الاحتباس الحراري الذي ذوب الجليد في القطب الشمالي؛ لتقليل الزمن وتفاديًا لتكاليف المرور عبر قناة السويس وقناة بنما.
في حال نجاح المشروع، ستجبر القناتان في إطار سعيهما للاحتفاظ بجاذبية المرور عبرهما، على تقليل رسوم المرور عبرهما بنسبة 30% تقريبًا لقناة بنما، و50% لقناة السويس، وهو ما سيشكل كارثة اقتصادية كبرى خصوصًا على الجانب المصري، باعتبار أن هذا الممر سيقلل الرحلة من شنغهاي بالصين إلى هامبورغ بألمانيا، عبر الممر الشمالي الجديد بحوالي 2800 ميل بحري عن الطريق المار عبر قناة السويس، موفرة بذلك الوقت والوقود.
“مقارنة بين طول الطريق المارعبر قناة السويس (باللون الأحمر) بطول الممر الشمالي الشرقي (باللون الأسود)”
خلال 4 سنوات من 2009 إلى 2013 ارتفع عدد السفن التى استخدمت هذا الطريق من نحو 5 سفن عام 2009 إلى 71 سفينة عام 2013، ورغم أن ذلك لا يقارن بحوالي 17 ألف سفينة شحن تعبر قناة السويس سنويًّا، لكن تضاعف السفن التي تستخدم هذا الممر يعكس الاهتمام الدولي به.
تهديد صيني
بمجرد ذياع صيت هذا الطريق بادرت الصين بالتهديد باستخدامه كبديل للقناة المصرية؛ للضغط من أجل تخفيض رسوم العبور، حيث تبلغ حصة بكين من إجمالي الحاويات المحملة العابرة لقناة السويس حوالي 23%، وبلغ حجم تجارة الصين من البضائع العامة العابرة لقناة السويس حوالي 10.7% من إجمالي البضائع العامة العابرة للقناة، وبلغ عدد سفن الحاويات التابعة لشركة الحاويات الصينية 452 سفينة، فيما بلغت أعداد الناقلات التي تحمل البترول الخام أو منتجاته والغاز المسال أو الكيماويات 118 سفينة، في المقابل قابلت مصر هذه التهديدات بالتجاهل، معتمدة على صعوبة بل استحالة استخدام هذا الطريق في فصل الشتاء، بالإضافة لمساهمة مشروع القناة الجديدة في تقليل ساعات الانتظار واختصار ساعات الرحلة عما كان عليه الوضع من قبل.
طريق الحرير
الخطر الثاني المهدد لقناة السويس المصرية، هو طريق الحرير الجديد، والذي افتتحته الصين أيضًا في نهايات 2014، ويعد أطول خط سكك حديد عابر للقارات بالعالم، ويمتد من مدن الساحل الشرقي للصين حتى العاصمة الإسبانية “مدريد”، وتبلغ هذه المسافة 13 ألف كم تقريبًا، في رحلة ستستغرق 17 يومًا، بدلًا من 6 أسابيع بالبحر.
أهمية هذا الطريق البديل ليس في كونه مجرد سكك حديد تصل الصين ودول آسيا بأوروبا، بل لأنه مشروع استثماري عملاق، ضخت خلاله بكين إجمالي استثمارات في 64 دولة ومنطقة تقع على طول طريق الحرير، والحزام الاقتصادي المحيط به بمبلغ 161.2 مليار دولار حتى نهاية مايو 2015، بالإضافة إلى تأسيس بنك آسيوي للبنية التحتية، بمشاركة أكثر من 50 دولة؛ ليخدم المشاريع التي ستقام على هامش الطريق الجديد.
وفي حال الاعتماد على هذا الطريق، من المتوقع أن تكون له تأثيرات سلبية حقيقية على قناة السويس، متعلقة بتمرير صادرات الصين إلى أوروبا مباشرة بعيدًا عن القناة، لكن في المقابل تجارة الصين التي ستخرج إلى الدول العربية والإفريقية ستمر عن طريق قناة السويس مرة أخرى، وهو ما قد يفيدها أكثر من الضرر الذي قد يوقعه بها.
فوائد روسية
هذا المشروع سيمنح فوائد جمة لروسيا وإيران، فمن ناحية تنظر إليه طهران على أنه بديل مهم للدخل النفطي، ومن ناحية أخرى فإنه يمنح روسيا مدخلًا استراتيجيًا هامًا وسهلًا لمياه المحيط الهندي وبالتالي المحيطي الهادئ والأطلسي، وروسيا تمتلك بالفعل وصولًا إلى مياهي المحيطين، إلا أنه وصول عن طريق المياه الباردة، أما هنا فإنه سيكون أول طريق مياه دافئة يتوفر لموسكو.
الهند في الصورة
لا تقتصر أهمية المشروع الاستراتيجية على الاستفادة الروسية والإيرانية فقط، وإنما يمثل مفتاحًا شديد الأهمية للنفوذ الهندي، كونه سيسمح للهند بتجاوز باكستان أخيرًا، كمتحكم رئيس في وصول تجارة نيودلهي إلى آسيا الوسطى، ومن ثم إلى روسيا وأوروبا، وسيعطي الهند بديلًا فعالًا اسمه “إيران”، بالإضافة إلى الأفغان، ولذلك أعطت الهند موافقتها على استثمار نصف مليار دولار، بشكل مباشر، في تحديث ميناء “جابهار” على ساحل بحر عمان، الميناء الأساسي الثاني مع “بندر عباس”.
قناة نيكاراغوا
المشروعات والمحاولات الصينية لم تتوقف، وسعت مؤخرًا إلى حفر قناة جديدة بين المحيطين الهادي والأطلسي عبر أراضي نيكاراغوا، تربط هي الأخرى المحيط الأطلسي بالهادي، لمنافسة قناة بنما، وتمتد إلى 278 كلم طولًا وبعرض يتراوح بين 230- 520 م وعمق 27.6م، بتكلفة تقدر بـ 50 مليار دولار، وتستطيع حمل ما يصل إلى 25 ألف حاوية، ويعتبر هذا المشروع ذا أهمية استراتيجية، لأن التمويل والتنفيذ سيكون صينيًّا، وبدعم روسيا وبعض دول أمريكا اللاتينية؛ الأمر الذي سيجعل بكين تتحكم في معبر مائي دولي على مشارف الولايات المتحدة، لكن القناة المزعومة لن تضر قناة السويس؛ لأنها تخدم مناطق بعيدة عن تلك التي تخدمها القناة.
طهران تناور
طهران هي الأخرى دخلت على خط الدول المهددة لمصر، ففي أبريل من العام الحالي 2016 ، أعلن الدكتور مهدي سنائي، السفير الإيراني في روسيا، خلال لقاء مع طلاب من جامعة سان بطرسبرغ، أن مشروع قناة طهران الملاحية يتم دراسته بدقة من قبل طهران وموسكو، في تعاون مشترك، لبحث السبيل الأمثل لتنفيذه.
المشروع الإيراني تعود جذوره للقرن التاسع عشر لكن الصعوبات الجمة التي واجهته جعلته مجرد حبر على الورق، بسبب العلاقات المتوترة التي سادت مناخ التواصل بين الإمبراطورية الروسية وجارتها الجنوبية “طهران”، ثم استمرار ذلك التوتر في القرن العشرين بينها وبين الاتحاد السوفيتي أيضًا.
وفي بداية التسعينات من القرن الماضي عادت الفكرة للظهور، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، لكن الحظر التجاري العالمي الكامل المفروض من الولايات المتحدة على إيران منذ عام 1995، هدد بشكل مباشر أي شركات تبدي نيتها في مساعدة طهران على إنجاز المشروع، ليخمد من جديد.
القناة الإيرانية المقترحة ستصل بين بحر قزوين، المسطح المائي المغلق الأكبر عالميًا، والذي تطل عليه خمس دول هي: روسيا وإيران وكازاخستان وأذربيجان وتركمانستان، وستمر بطول الجمهورية الإيرانية بالكامل من الشمال للجنوب، وصولًا إلى الخليج الفارسي، مما يعطي طهران ومن ورائها موسكو خطًا مباشرًا إلى خليج عمان، ومن ثم المحيط الهندي، وسيكلف طهران قرابة السبعة مليارات دولار أمريكي، لكن مصادر اقتصادية عدة توقعت تغطية تكاليف المشروع، من أرباح القناة، في فترة لا تزيد على ثلاث إلى أربع سنوات، منذ بداية التشغيل، بما تقدر قيمته الربحية سنويًا بـ 1.4 مليار دولار قيمة شحن البضائع من الجانب الروسي، و1.3 مليار دولار من الجانب الإيراني.
أزمة تركية
هذه المحاولة في حال نجاحها تعد مكسبًا استراتيجيًا تعول عليه موسكو بشدة؛ لأنه يعني تجاوز المضائق التركية، وتحديدًا مضيقي الدردنيل والبوسفور، مما يعنيه هذا من تقليل أوراق النفوذ الاقتصادية التركية، وبالتالي السياسية، وتأثيره على قناة السويس أقل كونها ستظل الخيار الأمثل للسفن؛ لأنها تصل بين بحرين، الأحمر والمتوسط، في مستوى مائي واحد تقريبًا، أما القناة الإيرانية المزعم إنشاؤها فهي تصل بين بحر قزوين وبين مياه المحيط الهندي الأعلى منها بحوالي 28 مترًا كاملة، ما يعني أن أغلب السفن ستصبح ملزمة بتركيب أنظمة أقفال هيدروليكية كاملة جديدة، لمنع فيضان المياه أو تدفقها من المستوى الأعلى للأسفل، بتكلفة إضافية عالية، بالإضافة لعقبات أخرى، منها أن سلسلة جبال ألبرز تمتد في الشمال الإيراني بالكامل تقريبًا وستعيق الحفر، ناهيك عن أن طول القناة قد يزيد من معدل الفيضانات، والتي بدورها ستزيد من معدلات حدوث الزلازل، في منطقة هي بالأصل نشطة زلزاليًا.