في إحدى ليالي شتاء القاهرة الباردة، خاطب الشاعر الكبير حافظ إبراهيم، أمير الشعراء أًحمد شوقي قائلًا: يقولون إن الشوق نار ولوعة … فما بال شوقي أصبح اليوم باردًا، فرد عليه شوقي: وأودعت إنسانًا وكلبًا أمانةً … فضيعها الإنسان والكلب حافظ، ليقدم الشاعران الكبيران درسًا في فن “التورية” اللغوية.
التورية في اللغة هي أن تحمل الكلمة أو الجملة معنيين اثنين، الأول هو ما يتوارى لذهن المتلقي منذ أول وهلة عند سماعها، وهو غير ما يقصده القائل، والثاني وهو ما خفي عن ذهن وفهم المتلقي وهو ما يعنيه المتحدث.
ويبدو أن الحكومة المصرية قد اتبعت هذا الأسلوب اللغوي عند تقديمها لقانون الجريمة الإلكترونية المعروض على مجلس النواب حاليًا، والذي وافقت اللجنة العليا للإصلاح التشريعي من حيث المبدأ عليه منذ أيام قليلة، ليضع الكثير من علامات الاستفهام والجدل حول الهدف الحقيقي من ورائه.
القانون الذي في ظاهره حماية حقوق الملكية الفكرية والدفاع عن الأمن القومي بينما في باطنه فرض المزيد من الكبت والقمع وتكميم الأفواه، فرض نفسه على ساحة النقاش المجتمعي والحقوقي بصورة كبيرة، لاسيما بعدما تضمنته بعض مواده من تهديدات واضحة لحرية الرأي والتعبير، ومخططات لتقليم أظافر المعارضة، وإجهاض كافة محاولات الانتقاد والإدانة والمساءلة للحكومة.
الجدل في مواجهة القانون
أثار مشروع قانون الجريمة الإلكترونية الكثير من الجدل حول بعض بنوده، التي تثير العديد من علامات الاستفهام حول الهدف الحقيقي منه، وهو ما تكشف رويدًا رويدًا عقب الإعلان عن مُقدم المشروع، وحامل لوائه، فحين نعرف أن صاحب الفكرة خدم قرابة عشرين عامًا ضابطًا بجهاز المخابرات الحربية بالقوات المسلحة، وله عشرات الصولات والجولات في مجال تقييد الحريات وفرض المزيد من القيود على مواقع التواصل الاجتماعي بزعم الدفاع عن الأمن القومي وحماية الوطن من المؤامرات الخارجية والداخلية.
حين نعرف أن مقدم القانون خدم قرابة عشرين عامًا ضابطًا بجهاز المخابرات الحربية بالقوات المسلحة، تتكشف أهدافه الحقيقية
اللواء البرلماني تامر الشهاوي، الملقب بـ “صقر المخابرات الحربية”، والذي سعى منذ تقاعده في 25 يناير 2011، إلى تقديم نفسه للإعلام من خلال التحذير من “الحروب السيبرانية”، و”حروب الجيلين الرابع والخامس”، اللتين يسعى من خلالهما أعداء الأوطان لهدم كيان الدولة وزعزعة استقرارها، عبر الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، بحسب المعتقدين في تلك الأنواع من الحروب والمروجين لها.
العديد من مواد القانون أثارت الجدل والاستنكار من الجهات والمؤسسات الحقوقية والمجتمعية، أبرزها المادة 14 والتي تقضي بحجب المواقع التي يراها المختصون تهديدًا لأمن الوطن، وهي مسألة فضفاضة بصورة كبيرة، حيث تنص المادة على: لجهات التحري والضبط المختصة إذا رصدت قيام مواقع تبث من داخل الجمهورية أو خارجها بوضع أية عبارات أو أرقام أو صور أو أفلام أو أية مواد دعائية أو غيرها من شأنها تهديد الأمن القومي أن تعرض محضرًا بذلك على جهات التحقيق وتطلب الإذن بحجب الموقع أو المواقع محل البث أو حجب بعض روابطها أو محتواها، وتقوم جهة التحقيق بعرض طلب الإذن على محكمة الجنايات منعقدة في غرفة مشورة خلال 24 ساعة مشفوعًا بمذكرة برأيها، وتصدر محكمة الجنايات قرارها في الطلب في ذات يوم عرضه عليها إما بالقبول أو بالرفض.
كما تنص المادة 15 على حبس من يقوم بفتح المواقع المحجوبة وجاء نصها كالتالي: يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن 3 سنوات وبغرامة لا تقل عن مليون جنيه ولا تجاوز 2 مليون جنيه كل مزود خدمة امتنع عن تنفيذ القرار الصادر من محكمة الجنايات بحجب أحد المواقع أو الروابط أو المحتوى المشار إليها في الفقرة الأولى من المادة 14 من ذات القانون، فإذا ترتب على الامتناع عن تنفيذ القرار الصادر من المحكمة وفاة شخص أو أكثر أو الإضرار بالأمن القومي تكون العقوبة السجن المؤبد أو الإعدام وغرامة لا تقل عن خمسة ملايين جنيه ولا تجاوز عشرين مليون جنيه.
ومن المواد التي لاقت موجة سخرية واستنكار المادة 13 والتي تقضي بمعاقبة من يتعرض حسابه أو موقعه الشخصي للاختراق، وجاء نصها كالتالي: يعاقب بالحبس الذي لا يزيد عن 3 سنوات وبغرامة لا تقل عن 50 ألف جنيه ولا تجاوز 200 ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل مسؤول عن إدارة أحد المواقع تسبب بإهماله في تعرض الموقع أو البريد الإلكتروني أو النظام المعلوماتي لإحدى الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون أو ما كان ناشئًا عن عدم اتخاذه التدابير والاحتياطات المعمول بها في مجال تقنية المعلومات.
ومن المواد المثيرة للجدل أيضًا، المادة 21: يعاقب بالحبس والغرامة التي لا تقل عن مائة ألف جنيه ولا تجاوز مائتي ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من نشر أو نسخ أو عرض بواسطة شبكة المعلومات أو إحدى وسائل تقنية المعلومات مصنف فكري أو أدبي أو بحث علمي أو جزء منه دون وجه حق، كذلك المادة 23 والتي تتسع دائرتها لتشمل معاقبة معظم رواد الإنترنت، حيث جاء نصها: إذا وقعت أي جريمة من الجرائم المنصوص عليها في القانون بغرض الإخلال بالنظام العام أو تعريض سلامة المجتمع وأمنه للخطر أو تعريض حياة المواطنين للخطر أو منع أو عرقلة ممارسة السلطات العامة لأعمالها أو تعطيل أحكام الدستور أو القوانين أو اللوائح أو الإضرار بالوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي أو ازدراء الأديان السماوية أو الاعتداء على الحقوق والحريات التي يكفلها الدستور تكون العقوبة السجن المؤبد أو المشدد.
ضرورة قومية
بعيدًا عن أصوات النقد والمعارضة للقانون بصيغته الحالية، إلا أنه تضمن بعض المواد الإيجابية التي باتت ضرورة قومية في هذه الأيام التي تتعرض فيها البلاد لمؤامرات داخلية وخارجية غير مسبوقة في تاريخها، حسبما أشار المستشار عامر سعد الدين، عضو المركز الدولي للدراسات القضائية.
سعد الدين في حديثه لـ “نون بوست” أكد أن القانون وضع في الاعتبار بعض المسائل الحيوية التي طالما نادى بها الكثيرون، في مقدمتها، المادة العاشرة والتي تحفظ خصوصيات المستخدم، وتقضي بالحبس والغرامة لكل مزود خدمة كشف بيانات ومعلومات وأسرار المستخدمين لديه، والتي تنص على: يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن 3 سنوات وبغرامة لا تقل عن مليون جنيه ولا تجاوز 2 مليون جنيه كل مزود خدمة افشى بغير إذن أو طلب من إحدى جهات التحقيق أو الجهات الأمنية المتمثلة في (القوات المسلحة ـ وزارة الداخلية ـ والمخابرات العامة) البيانات الشخصية لأي من مستخدمي خدمته أو أية معلومات أخرى تتعلق بالمواقع التي يدخل إليها أو الأشخاص والجهات التي يتواصل معها وتتعدد عقوبة الغرامة بتعدد المجني عليهم من مستخدمي الخدمة.
اهتم القانون بمواجهة كل سبل النصب والاحتيال عبر الإنترنت، وحماية خصوصية المستخدمين
أما المادة 16 فتضع التدابير للحيلولة دون القيام بأي نشاط إرهابي، كما جاء في نص المادة: يعاقب بالسجن المشدد كل من أنشأ أو استخدم موقعًا على شبكات الاتصالات أو شبكة المعلومات الدولية أو غيرها بغرض إنشاء كيان أو عصابة إرهابية أو الترويج لأفكارها أو ارتكاب أعمال إرهابية أو لتبادل الرسائل أو إصدار التكليفات بين الجماعات الإرهابية أو المنتمين إليها أو المعلومات المتعلقة بأعمال وتحركات الإرهابيين أو الجماعات الإرهابية في الداخل أو الخارج أو تمويل الإرهاب بجمع أو تلقي أو حيازة أو إمداد أو نقل أو توفير أموال أو أسلحة أو ذخائر أو مفرقعات أو مهمات أو آلات أو بيانات أو مواد أو غيرها بشكل مباشر أو غير مباشر وكذلك تصنيع الأسلحة التقليدية أو غير التقليدية.
كما اهتم القانون بمواجهة كل سبل النصب والاحتيال عبر الإنترنت، فتنص المادة 18 على: يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن شهر وبغرامة لا تقل عن 300 ألف جنيه ولا تجاوز 500 ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من أنتج أو جلب أو باع أو أتاح او حاز ما يأتي:ـ جهاز أبو برنامج معلوماتي مصمم أو معد بغرض ارتكاب جريمة من الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون ـ كلمة المرور أو كلمة السر أو كود شفري أو أي بيانات مماثلة تمكن من الدخول على النظام المعلوماتي بقصد استخدامها في ارتكاب الجرائم السابقة.
وفي المادة التي تليها مباشرة: يعاقب بالحبس وغرامة لا تقل عن خمسين ألف جنيه ولا تجاوز مائة ألف جنيه كل من توصل عن طريق استخدام الشبكة المعلوماتية أو النظام المعلوماتي أو أي وسيلة أخرى إلى الاستيلاء لنفسه أو لغيره على مال للغير أو على سند أو على أدوات إنشاء توقيع إلكتروني خاص بالغير، وذلك عن طريق استخدام طرق احتيالية أو اتخاذ اسم كاذب أو انتحال صفة غير صحيحة وتم خداع المجني عليه بموجبها.
حقوق الإنسان: سابقة تاريخية
تحت عنوان “معاداة التقنية” نشرت عدة مراكز ومؤسسات حقوقية تقريرًا استنكرت خلاله هذا المشروع، واعتبرته صفحة مشينة في سجلات حقوق المواطن المصري، مطالبة مجلس النواب برفض المشروع لأخطاء جوهرية فيه، والبدء في صياغة سياسة عقابية جديدة تنتمي إلى القرن الحالي ولا تضر بالحقوق والحريات والمساواة أمام القانون، كما وجهت توصية إلى الشركات بِلَفْت نظر البرلمان إلى خطورة مشروع القانون الحالي على الاقتصاد.
المنظمات الموقعة على هذا التقرير وهي، اليوم المبادرة المصرية للحقوق الشخصية ومركز دعم لتقنية المعلومات ومؤسسة حرية الفكر والتعبير خلصت إلى أنه لا يوجد ما يسمى بالجريمة الإلكترونية، بل طرق جديدة لارتكاب نفس الجرائم القديمة، حيث كشف التقرير أن مفهوم الجريمة الإلكترونية خاطئ وضار بالمساواة أمام القانون، حيث إنه يعاقب على الأفعال إن ارتكبت على الإنترنت بعقوبات أقسى كثيرًا ـ تصل إلى السجن المؤبد بل وإلى الإعدام ـ من إن ارتكبت بطرق أخرى وأحدثت نفس القدر من الضرر، وهذه سابقة خطرة في تقسيم عقوبات الجرائم تبعًا لأدوات ارتكابها بالغة الضرر بالمساواة أمام القانون، كما أنها تجرم استخدام تقنية المعلوماتية.
مراكز حقوق الإنسان قالت: إنه لا يوجد ما يسمى بالجريمة الإلكترونية، بل طرق جديدة لارتكاب نفس الجرائم القديمة
التقرير يوضح كيف أن مشروع قانون الجريمة الإلكترونية لا يقصد إلا الإجابة على المعضلات القانونية الإجرائية التي ظهرت مع ظهور الإنترنت وانتشار استخدامها مثل معضلات الاختصاص القضائي للمحاكم وسؤال “أين ترتكب الجرائم على الإنترنت؟” ولا على مشكلة التجسس الواسع ومدى مشروعيته ودستوريته، فمشروع القانون في أغلبه مواد جزائية ضعيفة الصياغة فضفاضة المعنى تضيف عقوبات جديدة بالغة القسوة إلى أفعال قد لا يكون للمعاقب قدرة على التحكم فيها، كما أنها تحمي الأقوياء، مثل الدولة والشركات، أكثر من الضعفاء من الناس دون ربط هذه الحماية الإضافية بالمصلحة العامة.
وقالت المنظمات إن المادتين 11 و23 معًا هما أخطر ما في القانون، فهما تعاقبان على جرائم النظام العام بعقوبات تصل إلى السجن المشدد والمؤبد إن ارتكبت على الإنترنت، وبتمريرها يصبح التحريض على التظاهر مثلًا جريمة أخطر من التظاهر نفسه بل أخطر من الضرب المفضي إلى الموت حتى إن لم يؤدِ التحريض إلى أي ضرر مادي، ويصبح السجن المؤبد عقوبة على الجريمة المسماة “ازدراء الأديان” إن تمت على الإنترنت، مقابل الحبس خمس سنوات إذا تمت على شاشات الفضائيات ودخلت بيوت ملايين الناس دون استئذان، كما أنها تضع كل من يعمل في الصحافة الإلكترونية في خطر أكبر كثيرًا من ذلك الذي يتعرض له باقي الصحفيين المهددين أصلًا.
تجرم المواد 12 و13 و26 بشكل عملي مهنة إدارة نظم المعلومات، حيث إنها تعاقب مديري النظم إن تعرضت أنظمتهم المعلوماتية لهجوم ناجح، حتى إن لم يكن باستطاعة مدير النظام التخطيط لتلافي هذا الهجوم، كما هو الحال في هجوم منع الخدمة الموزع.
كما تعاقب هذه المواد أيضًا مدير المؤسسة التي تتعرض للهجوم بنفس عقوبة مدير نظم المعلومات، وهذه المواد في رأي المنظمات تجعل مهنة إدارة النظم المعلوماتية، والتي لا تخلو منها أي مؤسسة اقتصادية أو خدمية أو حكومية حديثة، جريمة بنص القانون، كما أنها تجبر هؤلاء المتهمين، أي مديري نظم المعلومات، على الإبلاغ عن أنفسهم إلى جهات غير محددة اسمها “الجهات الرسمية المختصة” في مخالفة لحق الصمت الدستوري.
وتسمح المادتان 14 و15 لأول مرة في تاريخ القانون المصري بحجب محتوى الإنترنت في غير الحالات الاستثنائية التي ينظمها قانون حالة الطوارئ، فيصبح للنيابة بناءً على تقارير جهات التحري والضبط أن تطلب إلى محكمة الجنايات حجب محتوى الإنترنت إذا شكلت تهديدًا على الأمن القومي، يوضح التقرير كيف أن هذا النظام لا يحمي معلومات الأمن القومي بل يمنع أن يعرف الناس في مصر أن تسريبًا لمعلومات الأمن القومي قد حدث على الإنترنت، وكيف أنه أكثر ضررًا من السبل المتاحة حاليًّا لحجب المحتوى، ويبين أن الحجب سياسة غير مفيدة وخطرة، نهاية، يقدم التقرير تعريفًا دقيقًا وضيقًا وواضحًا للأمن القومي، الذي يظهر كثيرًا في القانون المصري دون تعريف، مسترشدًا في ذلك بمجموعة مبادئ عالمية صاغها خبراء قانونيون وحقوقيون من مختلف أنحاء العالم.
قمع الحريات ومراقبة الأفكار أبرز أهداف القانون
تسييس القانون
“القانون صورة طبق الأصل من قانون الإرهاب..” بهذه الكلمات استهل الدكتور أحمد مهران، مدير مركز القاهرة للدراسات السياسية والقانونية، تعليقه على مشروع قانون الجريمة الإلكترونية، مشيرًا أن هناك عشرات الاستفهام حول الكثير من بنوده، تحتاج إلى إجابة حتى لا يساء تفسير نوايا من وضع القانون.
القانون قد تم تسييسه بصورة واضحة، وهو ما يتضح في مطاطية بنود القانون والتي تحمل الكثير من التأويلات
مهران أشار في تصريحاته لـ “نون بوست” أن معظم مواد هذا القانون الجديد تتطابق مع مواد قانون الإرهاب خاصة في المادة 29 والتي تنص على تجريم حرية استخدام الإنترنت ووسائل الاتصال في غير ما يتفق مع أفكار وسياسات النظام وتعرض صاحب أي رأى مخالف على صفحات التواصل الاجتماعي للسجن ما لا يقل عن خمس سنوات، إلى جانب المادة 46 التي تعطى الحق في مراقبة وتسجيل المحادثات والرسائل ووسائل الاتصال السلكية واللاسلكية وشبكات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية بكل الصور.
وأضاف أن القانون قد تم تسييسه بصورة واضحة، وهو ما يتضح في مطاطية بنود القانون والتي تحمل الكثير من التأويلات، وتوسع دائرة الاحتمالات بصورة غير مسبوقة، ملفتًا أنه قد يكون من المفهوم أن يسعى القانون لإرساء أسس الوقاية الاحترازية من خلال بعد التدابير، لكن أن تكون المواد بهذه الصورة الجنائية التي تهدف إلى العقوبة قبل الوقاية، فهذا أمر غير مفهوم ويضع علامة استفهام كبيرة أمام نوايا الحكومة.
العودة لمحاكم التفتيش
وانطلاقًا من حديث مدير القاهرة للدراسات السياسية والقانونية بشأن تسييس القانون يحذر عمرو الصغير، الخبير في تكنولوجيا المعلومات والمكتبات، من العودة إلى ما أسماه “محاكم التفتيش” مرة أخرى، حيث يسمح القانون لبعض الجهات والأشخاص القيام بدور تلك المحاكم ولكن بصورة متطورة.
الصغير في حديثه لـ “نون بوست” أشار إلى أن جهل نسبة عريضة من رواد مواقع التواصل الاجتماعي ومستخدمي الإنترنت بصورة عامة بحقوق الملكية الفكرية، ومقتضيات الأمن القومي، يضعهم في مرمى الحبس والاعتقال والسجن والغرامة، وهو ما كان يجب أن يراعيه القانون، ملفتًا أن مسألة تطبيق القانون وتنفيذه على أرض الواقع صعبة للغاية وتحتاج إلى دقة وعناية وخبرة وإلا فجميع مستخدمي الإنترنت في مصر سيصبحون داخل السجون.
الصغير: جهل نسبة عريضة من رواد مواقع التواصل الاجتماعي ومستخدمي الإنترنت يضعهم في مرمى الحبس والاعتقال والسجن والغرامة
الخبير في تكنولوجيا المعلومات أشار أيضًا أن هذا القانون بمسماه قد يكون معمولاً به في بعض الدول، لكن ليس ببنوده الحالية التي تنافي تمامًا مواثيق حقوق الإنسان وحرية تداول المعلومات، والحق في التعبير عن الرأي، محذرًا من خطورة تطبيقه على أرض الواقع، خاصة وإن كان هو المتنفس الوحيد للكثيرين هذه الأيام.
تكميم الأفواه
“من الواضح أن هناك بعد آخر لتطبيق هذا القانون غير الذي يتناوله الناس والخبراء على حد سواء، فتقليم أظافر المعارضة وتكميم أفواهها هو لب الموضوع”، بهذه الكلمات علق الكاتب والمحلل السياسي السيد الربوة على قانون الجريمة الإلكترونية، مشيرًا أن الأيام القادمة ستشهد عجائب وطرائف على حد قوله، ملفتًا أن الموافقة على هذا القانون سيكون المسمار الأخير في نعش الحكومة، واللبنة الأولى في بناء ثورة جديدة قد تطيح بالنظام بأكمله، إذ إن هذا يعني غلق المتنفس الوحيد أمام الشباب والمعارضين ممن يجدوا فيه نافذتهم الوحيدة لإخراج ما بداخلهم من كبت وقهر وظلم، وحال غلقها لن يكون هناك مجال إلا الشارع.
الربوة لـ “نون بوست” أكد أن هناك أصابع خفية تلعب – بجهل دون قصد – ضد النظام الحالي، إذ إنه ليس من المعقول وفي ظل هذا التدني الذي يحياه المواطن ليل نهار في كل مجالات الحياة، وفشل الحكومة والسلطة في تلبية أدنى متطلباته، أن تقوم بإغلاق نافذته الوحيدة التي ينفس من خلالها ما بداخه، إنها إذًا إرهاصات ثورة جديدة، فهل يقدم النظام الحالي مفتاح إسقاطه للمعارضة على طبق من ذهب؟
الصحفيان محمود السقا وعمرو بدر والاعتقال بتهمة نشر مواد تهدد الأمن القومي
دعوا الناس تتنفس
العديد من العاملين في الحقل الإعلامي حذروا من مخاطر هذا القانون حال تطبيقه، وأنه سيكون القشة التي ستقصم ظهر البعير على حد وصفهم، فبدلاً من أن تستوعب الدولة آهات المواطنين وأناتهم بالليل والنهار، وتحتضن أفكارهم وتناقش مقترحاتهم وتجيب على تساؤلاتهم، تسعى لمزيد من الكبت والإحباط بإغلاق آخر باب أمامهم، وهو ما حذرت منه الإعلامية المصرية حنان حسين في معرض حديثها عن بنود القانون الجديد.
حسين في حديثها لـ “نون بوست” أشارت إلى أن فكرة إنشاء موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” مع مؤسسة “مارك زوكيربيرغ” انطلقت من منارة علم تدعى جامعة هارفارد لمساعدة طلاب الجامعة ثم المؤسسات التعليمية الأخرى، إلى ساحة هائلة للتنوير والثقافة في شتى ربوع العالم.
وتابعت: ها هي مصر تدخل سباق التعتيم الإلكتروني بهدف تكميم الأفواه بإصدار قانون الجريمة الإلكترونية، لتكتمل الصورة لعودة الدولة الشرطية بامتياز، وبالعكس أرى أنهم سيعمون أعينهم بأيديهم، ألم يسمعوا بجملة “تكلم حتى أراك”، هكذا سيقضون على البقية الباقية من صوت الجماهير التي قد تلجأ للرموز التي لن توقعها في أي فخ، وهؤلاء القراصنة كيف ستوقعون بهم، هل ستجندونهم للعمل لديكم للإيقاع بالناس وماذا إن انقلب السحر على الساحر وأصبح حاميها حراميها؟ وماذا لو أصبحت حيلهم وسيلة لتلفيق الجرائم على الطريقة الحديثة؟ من سيحمينا نحن من قوانينكم؟
واختتمت الإعلامية المصرية حديثها بـ “دعوا الناس تتنفس وإلا سيتحولون إلى وعاء قابل للانفجار، لا تحرموهم من التعبير عن أرائهم وفرض عليهم أستار الجهل والظلام التام، اتركوا الحرية للجميع، ومن ثبت بحقه جريمة فعليكم بالإجراءات المتعارف عليها، ولكن دعونا نخاطبكم أنتم أولاً بما نشعر، وإلا سنودع في ثلاجات الموتى”.
سخرية مواقع التواصل الاجتماعي
بعد ساعات قليلة من الإعلان عن موافقة اللجنة العليا للإصلاح التشريعي من حيث المبدأ على مشروع قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية، وعرضه على مجلس الوزراء، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بحملات السخرية والانتقادات لهذا القانون، وذلك عبر هاشتاج #الجريمة الإلكترونية.
تمحورت معظم تعليقات الزوار حول مؤامرة الحكومة في تكميم أفواه الناس، وأن بنود القانون فضفاضة، مع التحفظ على إصدار مثل هذا القانون في الوقت الذي تئن فيه الدولة من أزمات سياسية واقتصادية كانت أولى باهتمام مجلس النواب والحكومة من محاولات قمع الأصوات المعارضة، وغلق آخر منافذ التعبير عن أراءهم.
يلا استمروا، أقمعوا آخر مساحة حرية فاضلة خلوا الناس دي تفوق #الجريمة_اﻷلكترونية #مصر_مش_معسكر
— Esraa Elbehery (@EsraaMuhamed69) May 10, 2016
هو أولويات البرلمان ده ايه بالظبط ؟ يعنى بدل مانركز على قوانين زى #الجريمه_الالكترونيه مش اولى نحل بيروقراطية الاستثمار ومكافحة الفساد !!!
— Sha (@Shaarawyat) May 10, 2016
في عصر السماوات المفتوحة والفضاءات المتعددة بات من الصعب السيطرة على آراء الناس والحجر على أفكارهم، بل إن فتح المزيد من النوافذ من خلال الإبداع والتطوير في تطبيقات التكنولوجية الاتصالية المعاصرة أصبح شيمة الدول المتقدمة والنظم الديمقراطية المتحررة من قيود الخوف والقلق من الأصوات المعارضة، بينما الوضع في نظم العالم الديكتاتوري يختلف شكلاً ومضمونًا، فالسعي إلى السيطرة على أفكار الشعوب ومراقبة أراءهم صار عقيدة لا يمكن التراجع عنها، ومن ثم تُشرع القوانين وتصاغ اللوائح لأجل تمكينهم من ذلك، فهل يصبح قانون الجريمة الإلكترونية الصفحة الأخيرة في سجل حكومة القاهرة الحالية؟ وهل – حال إقراره – يكون ورقة التوت التي تكشف العورات المستترة وتعطي الثوار قبلة الحياة لاستعادة ثورتهم من جديد؟