ترجمة وتحرير نون بوست
منذ نهاية حرب غزة سنة 2014، أكد كبار الجنرالات والسياسيين الإسرائيليين على ضرورة تعزيز اقتصاد غزة وتخفيف الحصار لمدة تسع سنوات على قطاع غزة. لكن في هذا الصيف تبين أن إسرائيل لم تفي بوعودها، وهذا ما دعا العديد من عمال الإغاثة الذين لم يتوانوا لحظة واحدة في مساعدة غزة على الصمود يخشون اندلاع حرب أخرى تلوح بوادرها في الأفق.
دخلت عشرات المنظمات غير الحكومية في العمل تحت قيد الرقابة المشددة الإسرائيلية منذ الرابع من أغسطس/ آب بعد اتهام السلطات الإسرائيلية لمنظمة وورلد فيجين، وهي منظمة مسيحية تعنى بالقضايا الإنسانية مقر الولايات المتحدة الأمريكية، بتسريب المساعدات المالية إلى حماس، الجماعة الإسلامية التي تسيطر على القطاع منذ 2007.
كانت الإتهامات محل جدل واسع ، فمدير المنظمة في قطاع غزة، محمد الحلبي قد أعتقل بتهمة اختلاس ما يفوق 50 مليون دولار على مدى سبع سنوات. وادعى جهاز الأمن العام الإسرائيلي، شين بات، أن المال وظف لحفر الأنفاق على الحدود وإنشاء القواعد العسكرية. وادعت الوكالة أن المؤن المعدة للعائلات المعوزة وحتى الحمامات المتنقلة تم تحويلها إلى مقاتلي حركة حماس.
وقد عبّر الكثيرون من عمال الإغاثة عن ارتيابهم بخصوص التهم الموجهة ضد الحلبي، المتهم باختلاس ما يفوق ضعف ميزانية وورلد فيجين في قطاع غزة. فهم يعتبرون القضية جزءا من التحول العام في سياسة إسرائيل التي تهدف إلى تضييق الخناق على العمل الإنساني والحياة الاقتصادية في قطاع غزة.
القيود الصارمة المفروضة على المنظمات غير الحكومية تعتبر بمثابة تهديد لاقتصاد غزة الهش وترفع من احتمال وقوع صراع رابع بين إسرائيل وحماس. على هامش السيرة تم إلغاء تصاريح سفر عمال الإغاثة والمواطنين في غزة لأسباب أمنية غامضة، كما أن البنوك الإسرائيلية زادت من تراخيها في تحويل رواتب العاملين في قطاع غزة وهو ما تعودوا على فعله لسنوات.
كما صرح أحد المسؤولين عن منظمة إنسانية “إن هذه الأحداث تبث الخوف في نفوس المواطنين في غزة ولعل هذا ما تسعى لتحقيقه السلطات الإسرائيلية”. وأضاف “لكنني أظن أن ما تغفل عنه السلطات الإسرائيلية هو أن الخوف من السهل أن يتحول إلى قوة عنيفة… لا أعتقد أن من اهتماماتهم حدوث نزاع في هذا الوقت لكنه سيساعدنا على تخفيف القيود المفروضة علينا”.
لا يمكن اعتبار حركة حماس فوق مستوى الشبهات في قضية وورلد فيجين بسبب موقفها من إسرائيل. ومؤخرا أصبحت الحركة أكثر عدائية تجاه الأجانب فعلى سبيل المثال فقد منعت على الأقل صحفيا أمريكيا من دخول قطاع غزة في شهر مايو. إضافة إلى أن مكتب الأمن العام الجديد الواقع على الحدود بدأ بتحويل مراسلين زائرين آخرين إلى تحقيق مطول.
لكن المسؤولين في منظمة وورلد فيجين صرحوا بأنهم لم يتلقوا أي أدلة ملموسة تؤكد صحة الإدعاءات الموجهة ضد محمد الحلبي. وقد تم استدعاء محمد الحلبي للمحكمة في الثلاثين من آب/ أغسطس، في جلسة مغلقة وستعقد الجلسات المستقبلية في ظروف مماثلة تحت كنف السرية.
وقالت محامية حلبي ، ليا تسيمال أنه لن يسمح لها بمراجعة كل الأدلة. ونقلت إسرائيل بيانها الأول عن القضية إلى الصحفيين والدبلوماسيين الأجانب اتهمت فيه محمد الحلبي بتحويل ما يقارب 7.2 مليون دولار سنويا منذ أن بدأ العمل مع منظمة وورلد فيجين سنة 2010 بمبلغ إجمالي يقارب 50 مليون دولار. وقد تبادلت وسائل الإعلام هذه الأرقام أثناء التغطية الصحفية لهذه الاتهامات. كما قالت الشين بيت أن المبلغ يمثل 60 في المائة من ميزانية المنظمة السنوية.
هذا الإدعاء لم يرد في أوراق القضية الرسمية لكن هيئة الدفاع الموكلة من قبل منظمة وورلد فيجين أقرت أنه حسابيا مستحيل أن تكون تهمة تحويل الأموال صحيحة، فميزانيتها المخصصة لغزة تبلغ فقط 22.5 مليون دولار في العقود الأخيرة والتي تعتبر أقل من نصف المبلغ الذي يتهم حلبي باختلاسه. جزء هام من ذلك المال كان معدا لتغطية نفقات رواتب العمال وتكلفة السيارات والإيجارات. وقال أحد العاملين في وورلد فيجين أن “لو تمت حقا سرقة كل هذه الأموال من خزينة المنظمة فسيبقى الموظفون دون رواتب لمدة سنوات”.
تطرح سياسة المؤسسة في الحسابات عدة تساؤلات. فأي عقد يفوق 15 ألف دولار، على سبيل المثال، يتطلب موافقة رئيس المكتب في القدس. وقامت المنظمة بعدة أبحاث مع محمد الحلبي في 2015 بعد اتهام أحد المحاسبين له، الذي تم طرده مؤخرا، بسرقة الأموال والعمل مع حماس. وجلبت المنظمة محققا للبحث في كتبه ومراجعة دفاتره وبعد التحقيق لم يتبين لهم أي شيء مثير للشكوك. لكن حتى قبل اتهام حلبي قالت المنظمات غير الحكومية أنهم كانوا يشعرون بضغط شديد، غير متوقع، مسلط من قبل السلطات الإسرائيلية.
تحدث صحيفة فورين بوليسي مع العديد من كبار الموظفين العاملين في المنظمات غير الحكومية وفي الوكالات التابعة لمنظمة الأمم المتحدة عن هذا المقال فأعربوا عن ترددهم في الخوض في هذه المسألة خشية المساهمة في تأزم الأوضاع. وقال ثلاثة أرباع الذين تم التحدث معهم إن العمل مؤخرا في قطاع غزة أصبح صعبا.
قال مدير أحد الجمعيات الخيرية إن 30 إلى 40 بالمائة من موظفيه الفلسطينيون، من الضفة الغربية من قطاع غزة وشرق القدس، رفضت تصاريح سفرهم. وقال أن “هناك العديد من الأشخاص الذين ينالون تصاريح السفر بانتظام في السنة الأخيرة”.
كما قال مدير جمعية خيرية اسكندنافية أن “لقد تعقدت الأمور، ف(الشين بات) تبحث حتى في وسائل التواصل الاجتماعي عن الأشخاص الذين سبق وتقدموا بطلب تصريح سفر وتتحقق من أصدقائهم”.
لكن لم تتأثر جميع المنظمات غير الحكومية بنفس الوتيرة. وقال مدير منظمة أطباء بلا حدود، ماتيلدي بيرتيلوت، “نحن نعمل في قطاع غزة لمدة طويلة…ونحن لا نواجه أية مشاكل جديدة”.
وتعتبر منظمة الأمم المتحدة من بين المنظمات التي تواجه تحديات كبرى في عملهما في قطاع غزة بسبب القيود التي فرضتها السلطات الإسرائيلية. ففي 2015 وأوائل 2016 حرم حوالي 3 بالمائة من موظفي الأمم المتحدة من تصاريح السفر وقد ارتفع هذا العدد في الأشهر القليلة الماضية ليصل إلى 30 بالمائة أي أنه تضاعف 10 مرات النسبة السابقة.
ما لا يقل عن ثمانية موظفين من الأمم المتحدة ومن منظمات غير حكومية ظل السبب وراء عدم منحهم التصاريح مجهولا، وقد تم ذلك مرتين في 2015 وفقا لإحصاءات قامت بها الأمم المتحدة.
ونفى الجيش الإسرائيلي أمر فرضه لأية قيود جديدة. قال المتحدث الرسمي باسم الوحدة المشرفة على الأراضي المحتلة ، هادار هورن “يجب عليكم أن تسألوا الشين بات عن ذلك فسياستنا لم تتغير”. الشين بات التي نادرا ما تتحدث لوسائل الإعلام لم تدلي بأي تصريح.
الفلسطينيين العاديين وخاصة التجار الذين يعتبرون بمثابة شريان الحياة في قطاع غزة قد طالتهم تداعيات هذه السياسة القمعية. قرر الجيش الإسرائيلي بعد حرب 2014 بزيادة عدد تصاريح السفر المخصصة لرجال الأعمال على أمل تحفيز الاقتصاد المحلي. في صيف 2015 لقي أكثر من 10 آلاف تاجر مسافرين عبر معبر إيريز الإسرائيلي تصاريحهم وهذا يشير إلى ارتفاع نسبة التصاريح عن المعتاد بحوالي خمس مرات.
في يونيو/حزيران رغم الارتفاع المفاجئ للأرقام، فقد تسنى في الشهر المنقضي لـ 7.786 تاجر لهم الخروج من قطاع غزة وهو ما يعد أقل بـ 20بالمائة مما سجل في شهر أغسطس آب. وتعتبر الأرقام المسجلة في يوليو/ تموز ويونيو/ حزيران أقل بـ 33 بالمائة من الشهر الماضي وبـ45 بالمائة من العام الماضي.
بعض رجال الأعمال تمت الموافقة على سفرهم قبل أن يتم إلغاءها. وقد عاد العشرات من التجار أدراجهم عند معبر إيريز في الأشهر الأخيرة لأسباب أمنية بعد الاشتباه في أسمائهم.
قالت الناطقة الرسمية باسم حركة غيشا التي تعنى بمراقبة الدخول إلى غزة، شاي غرانبارغ أن ” هؤلاء الأفراد تم التحقق من تصاريحهم ومن ثم منعهم من السفر. لقد قدموا إلى معبر إيريز فقط لتسليم تصاريحهم والعودة إلى غزة”.
لقد قدم البنك العالمي تصاريح حول الاقتصاد الفلسطيني توضح صعوبة الوضع في غزة. فأربعون بالمائة من الشعب الفلسطيني يعيشون تحت خط الفقر ونفس العدد تقريبا يعاني من البطالة. وكل الوعود التي أعطتها دول الخليج العربي لم تفي بها وبقية المساعدات والهبات المقدمة من قبل دول أخرى لا تفي بالغرض لأن معظمها لم يقدم بشكل كامل.
فعلى سبيل المثال تعهدت قطر بمنح مليار دولار لكنها لم تستطع أن تفي إلا ب19 بالمائة من المبلغ ومجموعة من دول الخليج قدمت 900 مليون دولار لكن لم يتم منح فلسطين سوى 171 مليون دولار. كما أن النرويج قد منحت أموالا أكثر بكثير من تلك التي قدمتها السعودية. لكن تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية من بين الدول القليلة التي منحت القطاع المساعدات الموعودة كاملة والتي تبلغ 277 مليون دولار.
وقال رئيس الاستخبارات الإسرائيلي، اللواء هرتزل هاليفي، للكنيست في فبراير/ شباط “إن مسألة التنمية الاقتصادية في قطاع غزة من شأنها أن تك ‘عامل كبح’ مانع لحدوث حرب رابعة”. وقد ردد تصريحاته عبر جميع الأطياف السياسية – وليس فقط الجناح اليساري ولكن أيضا من الجناح اليميني المتشدد. وقال وزير التعليم ورئيس حزب البيت اليهودي المدعوم من المستوطنين، نفتالي بينيت، في العام الماضي أنه “حان الوقت لتغيير السياسة” في غزة قبل التوصل إلى اتفاق مع حماس لإعادة بناء قطاع غزة. وقد حاول وزير النقل يسرائيل كاتس تقديم مخطط لبناء ميناء بحرية في غزة وقد أطلع الصحفيين على مسودة المشروع.
باستثناء أفيغدور ليبرمان، وعضو المجلس التشريعي القومي الذي أصبح وزيرا للدفاع في مايو/أيار الماضي. ليبرمان، الذي شغل منصب وزير الخارجية في حكومة نتنياهو السابقة، كان واحدا من الأصوات الأكثر عدائية أثناء الحرب السابقة، داعيا مرارا لشن هجوم بري على حكومة حماس.
لقد حافظ على نبرته المتفائلة بعد تعيين آخر حكومة لنتنياهو في 2015. وفي حدث ثقافي في شهر مايو/أيار، وعد ليبرمان بأنه إذا عين وزيرا للدفاع سيعطي حماس 48 ساعة للإعادة جثث جنديين إسرائيليين الذين قتلا أثناء الحرب، أو سيغتال رئيس المكتب السياسي في غزة، إسماعيل هنية. وكانت أولى قراراته عند دخول وزارة الدفاع وضع خطة لهزيمة حماس.
ولا يزال هنية يتجول في أنحاء قطاع غزة. استفاد ليبرمان من فرصته الوحيدة لضرب حماس ففي 22 من آب/ أغسطس، بعد أن أطلقت مجموعة مسلحة صغيرة في غزة صاروخا على إسرائيل، شنت القوات الجوية 50 غارة جوية على غزة، منذ نهاية الحرب. في اليوم التالي، قال ليبرمان في مؤتمر صحفي أن حماس أصبحت مرتاحة للغاية، وأنه يجب على إسرائيل السماح فقط لأشغال إعادة الأعمار إذا تخلت الحركة الإسلامية عن سلاحها. وقال ليبرمان للصحفيين -“إعادة الأعمار في مقابل نزع السلاح”.
وتبعا للأوضاع الراهنة فقد أصبح عمال الإغاثة أكثر خوفا من اندلاع حرب أخرى. وقال مسؤول في الأمم المتحدة “إذا تم عرقلة تدفق المساعدات الإنسانية، أو اقتصارها على عدد قليل جدا من المنظمات غير الحكومية، حينها لا نعلم إلى أي مدى سنستطيع تجنب حدوث نزاع آخر”.
المصدر: فورين بوليسي