عرفهم الإمام علي رضي الله عنه في نهج البلاغة فقال: “هم الذين إذا اجتمعوا أضروا، وإذا تفرقوا نفعوا. فقيل: قد عرفنا مضرة اجتماعهم، فما منفعة افتراقهم؟! فقال: يرجع أصحاب المهن إلى مهنهم، فينتفع الناس بهم: كرجوع البناء إلى بنائه، والنساج إلى منسجه، والخباز إلى مخبزه”.
وعرَّفهم الكواكبي في طبائع الاستبداد فقال: “أفراد من ضعاف القلوب؛ الذين هم كبقر الجنة لا ينطحون ولا يرمحون، يتخذهم المستبد كأنموذج البائع الغشاش على أنه لا يستعملهم في شيء من مهامه فيكونون لديه كمصحف في خمارة، أو سبحة في يد زنديق، ولهذا يقال دولة الاستبداد دولة بُله وأوغاد”.
ومن خصائصهم كما جاء في سيكولوجية الجماهير: “قابلية التحريض، السذاجة أو سرعة التصديق، الحركية والخفة، المبالغة في العواطف سواء أكانت طيبة أم سيئة، ويتشجعون بكثرة العدد، وكفى أن يُشار إلى الواحد منهم بقتل أو سلب لينساب انسيابًا لا يُثنيه عنه شيء… قال نابليون في مجلس شورى الحكومة: إنني أتممت حرب الفدائيين لما تكثلكت، واستوليت على مصر إذ أسلمت، وتُوجت بالظفر في حرب إيطاليا لأني قلت بعصمة البابا، ولو كنت أحكم شعبًا يهوديًا لأعدت معبد سليمان… ولم يُهيج أنطوان نفوس الأمة على قاتل قيصر بقوة البديع وعلم البيان، بل أثارها لما قرأ وصية المقتول وأشار بالقوم إلى جثته”.
وليس لهؤلاء خصومة مباشرة مع من يخرجون عليه، ويطالبون بعزله، أو سفك دمه، ولكنه التحريض الضخم الذي ينتج عنه جرائمهم، مع اقتناعهم ساعتها بأنهم يُؤدون واجبهم، يقول العقاد: “ليست الخصومة شر ما يُبتلى به الناس، فشر منها الخسة التي ترضى بالدون، وشر منها الوفاق على الغش والمهانة، وشر منها شلل الأخلاق الذي لا يبالي صاحبه ما يحسن وما يقبح، وما يرضى وما يسوء، وشرمنها الحياة بغير قيمة تستحق الخلاف عليها”.
ويمتاز اليهود عبر تاريخهم بصناعة وإخراج الغوغاء، واستخدامهم في أغراضهم المشبوهة، يقول محمد أحمد الراشد: “التاريخ يشهد لنا عن دور اليهود في تجريح القيادات المسلمة كلما رأوا نجاحها وفشل أساليبهم الأخرى في محاربة الإسلام، بل أصبح النيل من القادة، ومحاولة تحطيم مكانتهم المعنوية في نفوس المسلمين، هو الأسلوب المفضل عندهم”.
ويحفظ لنا التاريخ الدور الذي قام به اليهودي عبد الله بن سبأ في استخدام الغوغاء للتخطيط للفتنة زمن خلافة عثمان رضي الله عنه والانقلاب عليه وقتله، يقول الطبري في تاريخه: “كان عبد الله بن سبأ يهوديًا من أصل صنعاء فأسلم زمن عثمان، ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم، فبدأ بالحجاز، ثم البصرة، ثم الكوفة، ثم الشام، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام فأخرجوه حتى أتى مصر”.
وكان رجاله كل سارق وقاطع طريق ومفسد نالته عقوبة من أحد الولاة، يقول العقاد: “كان منهم من أقام عليه الحد، ومن حُبس أباه في جريمة، ومن فرق بينه وبين حليلة تزوجها على غير الشريعة، ومن أبى عليه الولاية، ومن لم يصنع به الخليفة أمرًا من هذه الأمور ولكنه كان منطوي النية على الفساد والإفساد، ومقتل عثمان لا يوصف بأكثر من أنه (مشاغبة دهماء) لم تجد من يكبحها”.
وقد أورد ابن الأثير في الكامل وصف السيدة عائشة الدقيق لهؤلاء بالغوغاء، قال: “خطبت عائشة زوج النبي في الناس بعد مقتل عثمان قائلة: أيها الناس إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المقتول ظلمًا بالأمس …فلما لم يجدوا حجة ولا عذرا بادروا بالعدوان، فسفكوا الدم الحرام واستحلوا البلد الحرام والشهر الحرام وأخذوا المال الحرام”.
ويعتقد هؤلاء الغوغاء القتلة أنهم إنما يقتلون باسم الله، وفي سبيل الله، يقول ابن الأثير: “وأما عمرو بن الحمق فوثب على صدر عثمان وبه رمق، فطعنه تسع طعنات، قال: فأما ثلاث منها فإني طعنتهن إياه لله تعالى، وأما ست فلما كان في صدري عليه”.
وكم من شباب ضاعوا، ومجتمعات خربت، وبلاد دُمرت بصيحة.. (لله) ؟! وكذبوا على الله! فالله لا يأمر بالفحشاء ولا بالمنكر، ولو صدقوا لقالوا مثل ما قال ابن الحمق مستدركًا: “ست لما في الصدر”!
وفي إيران تشير الوثائق إلى أن الاستخبارات الأمريكية والبريطانية استخدمت الغوغاء ودعمتهم في تنظيم الاحتجاجات المناهضة لحكم محمد مصدق حتى أسقطوه، وقد انتخبه الإيرانيون عام 1951، وكان من أولى خطواته تأميم صناعة النفط، التي كانت آنذاك تحت سيطرة البريطانيين؛ مما ساهم في تقوية مواقع الشاه محمد رضا بهلوي الذي كان قد فرّ من إيران بعد الصراع مع مصدق، ثم عاد إلى البلاد بعد إسقاط الحكومة واستمر في السلطة حتى ثورة 1979.
سجن الباستيل
وفي مقتل مدير سجن الباستيل دولوني على يد الغوغاء، يقول غوستاف لوبون: “بعد أن تم الاستيلاء على السجن راح المدير يتلقى الضربات واللبطات من كل الجهات من قبل الجماهير، وراح البعض يقترحون شنقه، والآخرون يقولون بقطع رأسه، أو بربطه بذنب حصان وسحله في الشارع، ولما راح يتخبط بين أيديهم أسقطه رجلًا أرضًا عن غير قصد، وعندئذٍ اقترحوا أن يقوم الذي صرعه بقطع رأسه، وكان هذا الرجل طباخًا متجولًا ونصف متسكع، وقد ذهب إلى الباستيل ليتفرج، واستجاب وضربه بسيف لم يكن مشحوذًا فلم يمت فأخرج من جيبه سكينًا صغيرًا كان يستخدمها في قطع اللحم وأكمل قطع رأسه بنجاح”.
والطائفية أخت الغوغائية، بل هما وجهان لعملة واحدة، وأثرها مدمر في الأمم، والحروب الأهلية والاقتتال الداخلي بين أبناء الوطن الواحد، إحدى تجلياتها، وهي ملعونة وملعون من أيقظها وأشعلها، حتى وإن نُسبت زورًا وبهتانًا إلى الله، والله منها برآء، وما يفعله الغوغاء الطائفيون في سوريا والعراق واليمن من مجازر ومذابح، ما هي إلا البغضاء من أفواههم وما تُخفي قلوبهم الضالة أكبر!
وفي مصر قامت مجموعة من الغوغاء عُرفت بـ “حركة تمرد” انكشف فيما بعد زيفها وتمويلها، ومن يقف خلفها، واتضحت أهدافهم، وظهر مكرهم! وما خرجوا إلا لحرث الأرض أمام الانقلاب، وتمهيد الطريق للقضاء على التجربة الديمقراطية الوليدة، وأصبحوا القاطرة التي سحبت الوطن إلى التخلف، والظلام، والفساد؛ بعدما دفعته أمواج ثورة يناير إلى الأمام خطوات نحو الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
وإن لم يأخذ العقلاء على أيدي الغوغاء؛ لغرقت سفينة الوطن ومن فوقها الجميع، يقول النعمان بن بشير: “يا يأيها الناس: خذوا على أيدي سفهائكم قبل أن تهلكوا”، فالحكم لا يكون على العمل بعد وقوعه، بل على الشروع فيه، والقانون إنما هو قانون العاقبة دون غيره، بل على توجيه النية إليه كما في حديث السفينة، ويرى الراشد أن كلمة (الخرق) الذي اقترحه سكان أسفلها، لا تحمل في السفينة معناه الأرضي، بل معناه البحري، فلفظة (أصغر خرق) ليس لها إلا معنى (أوسع قبر) في قاع المحيط المظلم، لو تُرك هذا الخرق الصغير وشأنه.