لم تكن مصادفة أن يشتهر فيلم عازف الجاز The Jazz Singer (سنة 1927) كأول فيلم طويل ناطق، فقد كان احتفاء السينما بالصوت احتفاءً بالموسيقى لا بالكلام، لعقود طويلة كانت الغنائيات السينمائية صنفًا أساسيًا من أصناف السينما، تحظى بالقبول الجماهيري الكبير، وبالإيرادات الضخمة، وبالنجوم الكبار، ولم تختلف في ذلك السينما العربية التي عرفت بداية مجدها مع الأفلام الغنائية التي بدأت مع موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب ومحمد فوزي وليلى مراد وأسماء كبيرة أخرى، ولئن خفت بريق الغنائيات في العالم العربي منذ الثمانينات، فقد استمرت هوليود في تقديم عناوين لافتة بين الحين والآخر.
تذكرنا الغنائيات بالصلة الوثيقة التي تجمع المسرح بالسينما، تنفخ روحًا فنية ساحرة في شاشة العرض العملاقة، يكسب الممثلون حضورًا أكبر ووقعًا أشد على المشاهد، تجتمع كل ملكات الفنون التعبيرية في لحظة اللوحة الراقصة، كلمة الشاعر، قصة الروائي، نغم الموسيقي، أداء الممثل، عين المصور، حركة الراقص وأيدي السينمائي الخفية.
على عكس أفكارنا السائدة عن الغنائيات، فهي ليست مملة على الإطلاق، يكفي فقط أن نتعلم التفريق بين السيناريو والعمل السينمائي، فالفيلم لا يقتصر على قصته، وإنما على مختلف جوانبه، ويمكن لنا أن نستمتع بموسيقى الفيلم، أو بمؤثراته البصرية، أو بمشاهد القتال، دون أن تعجبنا القصة.
في هذا المقال أقدم إليكم قائمتي بأهم الغنائيات السينمائية التي أعرفها، أعني بالغنائيات السينمائية، تلك الأعمال السينمائية التي تحتوي على لوحات غنائية يجسدها أبطال الفيلم أنفسهم، ويعوضون بها الحوار المفترض منهم، لذلك فلن نجد في هذه القائمة أفلامًا تقتصر على سير الموسيقيين مثل (Ray) أو (Walk the line)، كما لا نجد أفلامًا تشكل الموسيقى عمودها الفقري مثل أعمال طوني قطليف Tony Gatlif أو كارلوس صاورا Carlos Saura لأنها أعمال تهتم بالموسيقى كفن في ذاته، وليست تستعملها كجزء من الدراما.
10ـ شيكاغو Chicago (سنة 2002)
أخرج روب مارشال عمل المبدع الكبير Bob Fosse إلى السينما، وهو (العمل) في نسختها الأصلية (سنة 1975) أحد روائع مسرح الـ Broadway (سلسلة مسارح ضخمة في نيويورك ولندن تعتبر قبلة أهم الأعمال المسرحية الضخمة والتجارية)، حققت المسرحية في نسخها المتنوعة نجاحًا غير مسبوق، مما جعل فكرة الفيلم تعتبر مخاطرة بشكل ما، لكن روب مارشال كسب الرهان، وستة جوائز أوسكار من سبعة ترشح لها Chicago سنة 2003، وصار الفيلم من أهم الغنائيات في تاريخ هوليود.
عوامل كثيرة ساهمت في نجاح هذا العمل، وهذا ما يفسر الأوسكارات الستة، أخص بالذكر عمل الديكور المدهش، والأزياء، والكتابة السينمائية الفريدة التي صاغها بيل كوندون Bill Condon عن النص الأصلي.
أما ما تميز به الفيلم بشكل خاص، فهو آداء الممثلين، يكفي أن بطلات الفيلم الثلاث رشحن جميعهن للأوسكار، فقد رشحت كوين لطيفة Queen Latifah وكاثرين زيتا جونز Catherine Zeta-Jones لأوسكار أفضل ممثلة في دور مساعد، وحازت كاثرين عليه، ورشحت رني زالْوغرْ Renée Zellweger لأوسكار أفضل ممثلة في دور رئيسي، وحتى جون كيلي John C.Kelly الذي كان دوره ثانويًا جدًا، فقد رشح للأوسكار.
وطبعا فقد استفاد الفيلم أساسًا من موسيقى العمل المسرحي ولوحاته الكوريغرافية الخالدة، لقد استفاد المخرج روب مارشال من أدوات السينما التي يتميز بها عن المسرح، ليضيف الكثير إلى قوة الموسيقى والكوريغرافيا، فكان لها وقع أكبر بكثير، إن أشهر أغاني “شيكاغو” هي حتمًا أغنية All that Jazz، ولكنها في هذا الفيلم بدت ـ على جمالها ـ أغنية من ضمن باكورة من العبقرية الخالصة، إن هذا الفيلم جدير بالمشاهدة فقط للوحاته الراقصة ومع ذلك فلم تكن قصة الفيلم تقل طرافة.
اهتم الفيلم بالعلاقة المرضية التي تربط الصحافة ونجوم الفن، بشكل ذكي أبرز Bob Fosse تأثير الإعلام لا على الرأي العام فحسب، بل على رأي العدالة، وعلى مصير الفنان في مستوى أعمق، تتورط روكسي هارت (Renée Zellweger) في جريمة قتل أطاحت بأحلامها في أن تصبح نجمة برودواي، تتعرف هناك على أسطورة المحاماة بيلي فين (رتشارد جير Richard Gere) الذي لم يخسر قضية قط، لتبدأ اللعبة الماكرة بين المحامي والفنانة والإعلام والرأي العام، المحامي بحاجة إلى الشهرة، والإعلام بحاجة إلى الإثارة والفنانة بحاجة إلى الحرية، والجمهور بحاجة إلى التسلية، هذا هو النظام في شيكاجو يا سادة!
9- كاباريه Cabaret (سنة 1972)
من يمكنه أن يستخرج لوحات غنائية بديعة من براثن الحقبة النازية؟ Bob Fosse طبعا! في عمله السينمائي الثاني، حصد بوب ثمانية أوسكارات كاملة ورشح لأوسكار أفضل فيلم خسره لصالح الفيلم الأسطوري العراب The Godfather، لايزال الفيلم ينظر إليه اليوم على أنه عمل انقلابي على الشكل النمطي للغنائيات، حينما تسلم بوب النص الأصلي للمسرحية الغنائية، حذف منها كل المقاطع الغنائية التي يؤديها الممثلون وسط الدراما، واكتفى بالعروض التي تقدم على خشبة الكاباريه ما عدا أغنية “الغد ملكنا” Tomorrow belongs to us التي أداها جندي نازٌ صغير في الشارع في إطار واقعي تمامًا، وبذلك خرج الفيلم بروح الواقعية التي طغت على السينما مع نهاية الستينات، غنائية واقعية وتاريخية، تحاول أن تبحث في بدايات انتشار النازية في ألمانيا وتحولها إلى مطلب جماهيري مجنون.
لا شك أن كل من يشاهد الفيلم، سيلحظ المقاربة العبقرية في الفيلم بين الكاباريه وأغانيه، وبين ألمانيا النازية، لقد عقد الرابط السحري من خلال قصة سالي باولز Sally Bowles (لايزا مينالي Liza Minnelli) الراقصة الباحثة عن باب للشهرة والنجومية في برلين، مع براين Brian الإنجليزي الهادئ القادم لمواصلة تعليمه هناك، كانت علاقة سالي وبراين غريبة ومضطربة منذ البداية، واشتد اضطرابها مع ظهور شخصية ماكسيميليان الثري الألماني.
لقد اعتبر الناقد الكبير روجر ايبرت أن الفيلم يحاول التدليل إلى تزامن تفشي النازية في ألمانيا مع انتشار أفكار التحرر الجنسي، وأشكال العلاقات الجنسية المخالفة للسائد، لكن يمكن قراءة الفيلم بشكل عكسي، بحيث تصبح النازية تمثيلاً لردود الفعل الرافضة لموجة التحرر، وهي الموجة التي عرفت أوجها إثر أحداث أيار 1968 بفرنسا، وبشكل مواز أيضًا، يبدو المال محورًا أساسيا لهذا العلاقة، فقد كان ماكسيميليان ثريًا لا يرفض طلبًا لسالي، بينما كان سالي وبرايان معدمين.
يعبر الفيلم عن ذلك بشكل رائع من خلال أغنية “نقود” Money التي أدتها لايزا مينالي مع جويل غراي Joel Grey بشكل لا مثيل له، ومن المؤكد أنه في عالم أكثر جمالا، كانت لايزا ستصبح نجمة أكثر شهرة وأكثر أعمالاً، لم تكن تتميز بأي قدر من الجمال، ولكن حضورها على الركح أو أمام الكاميرا كان طاغيًا ربما يفوق قدرة والدتها النجمة الكبيرة جودي غارلان Judy Garland، إنها محور المشهد بعينيها اللامعتين ودهشتها المستمرة، ولو أنها جسدت في الفيلم صورة ألمانيا، فلن تجد ألمانيا لها صورة أجمل.
8- قصة الحي الغربي West side story (سنة 1961)
تعتبر ملحمة جيروم روبنز وربرت وايز، غنائيةً كلاسيكية في تاريخ هوليود، استطاعا من خلالها الانتقال بالغنائيات من القالب الذي فرضه فيلم الغناء تحت المطر طوال عشر سنوات تقريبا إلى شيء أقرب إلى الدراما، رشح الفيلم إلى 11 جائزة أوسكار حصد عشرة منها، وهو ما يجعله رابع أكثر الأفلام تتويجًا بالأوسكار في التاريخ بعد تايتانك وبن هور Ben-Hur وسيد الخواتم.
في الحي الغربي في نيويورك، اشتد الصراع بين زمرتين Sharks وهم المهاجرون القادمون من بويرتو ريكو Puerto Rico، وJets ذوي الأصول الأوروبية، وفي وسط الصراع تنشأ قصة حب بين الزعيم السابق لزمرة الطائرات Jets، طوني Tony وبين أخت زعيم القروش ماريا، وسرعان ما ندرك أننا أمام نسخة نيويوركية سردابية (underground) رومانسية راقصة لرائعة شكسبير الخالدة روميو وجولييت.
فيما بعد سنعرف أن نفس الفكرة قد استعملت كثيرًا، وخصوصًا مع مايكل جاكسون في الثمانينات، حيث يصبح الرقص وسيلة المبارزة بين فتوات الأحياء المهمشة في نيويورك، لكن الآن، يجب أن نعرف، هل أنت Shark أم Jet؟
7ـ مولان غوج أو الطاحونة الحمراء Moulin Rouge (سنة 2001)
بعد سنوات التسعينات المجافية للغنائيات، جاء القرن الجديد بمعاهدة صلح معها في شكل فيلم استثنائي استعاد بهجة الغنائيات المفقودة من الشاشة الكبيرة، انتقل فيلم “مولان غوج” إلى بعد فرجوي آخر عبر أغانيه، وإطاره المسرحي الخلاب، سأخص بالذكر لا الحصر أغنية “الماس أعز صديق للمرأة” Diamonds are a girl’s best friend.
تدور أحداث الفيلم كما توقعتم في باريس، حيث كاباريه الطاحونة الحمراء يحتفل بالحياة وبالألوان والغناء، شعاره الأساسي: يجب أن يستمر العرض The show must go on كما عبر عن ذلك هارولد زدلر صاحب الطاحونة حين صارح نجمته الأولى ساتين Satine (نيكول كيدمان Nicole Kidman) بأنها مريضة بالسل القاتل (لا تنسوا أننا في بداية القرن العشرين)،
لكن كريستيان (إيوان ماكغريغور Ewan McGregor) لم يكن يعرف بأمر هذا المرض حينما قابل ساتين لأول مرة، ووقع في هواها، أجل هي قصة حب بين كاتب موهوب يختفي خلف كاتبين فاشلين ليكسب عيشه، وبين فتاة استعراض تواجه الموت بالحب، وهي قصة حب تستحق الفرجة مادامت في قالب غنائي بهذا الاتقان.
6- إخوة البلوز The Blues Brothers (سنة 1980)
لا يعتبر فيلم إخوة البلوز غنائيًا لسبب بسيط، هو أن الأغاني أو أغلبها ليست أصيلة العرض، لكنني أعتقد أن ذلك لا ينتقص من “غنائية” الفيلم، لقد أوجد “إخوة البلوز” القالب الدرامي المناسب لكل أغنية، فاستفاد منها دراميًا وأضفى عليها قيمة أكبر، أبرز مثال على ذلك، كان أغنية “فكر” Think لملكة الصول Soul، أريثا فرانكلين Aretha Franklin، حيث تظهر أريثا كعاملة في مطعم مع زوجها صاحب المحل (يقوم بالدور عازف القيثار مات مورفي Matt Murphy) يتخاصمان فتدعوه أريثا للتمهل والتفكير، وتنطلق في أغنيتها الشهيرة.
بمواقف كهذه، استطاع فيلم “إخوة البلوز” جمع أساطير البلوز في فيلم واحد، بالنسبة لمحب لهذا الصنف الموسيقي، فإخوة البلوز عبارة عن منزل مصنوع بالكامل من الحلوى والشيكولاتة.
تدور قصة الفيلم حول الأخوين بلوز اللذين يحاولان إنقاذ ملجأ الأيتام الذي نشآ فيه، وذلك بدفع الضرائب الملزم بها إلى ولاية تكساس،كانا بحاجة إلى إعادة فرقة إخوة البلوز التي كانا يديرانها، من أجل الاستفادة ماليًا من عروضها، لكن الأمور لم تسر كما يجب أن تسير، وصار الأخوان مطاردين من الشرطة، مع ذلك لم يستسلما وراحا يبحثان عن أعضاء الفرقة واحدًا بعد واحد.
إخوة البلوز ليس فيلمًا رائدًا من الجانب السينمائي، ولكنه رحلة غير مسبوقة في عالم البلوز وما جاوره، لقد جمع الفيلم أسماء عظيمة فعلاً، كجيمس براون James Brown، وراي تشارلز Ray Charles، وكاب كالواي Cab Calloway وجون لي هووكر John Lee Hooker وهذا وحده يستحق عليه أن يكون أحد أهم الغنائيات السينمائية.
5 – راقصة في الظلام Dancer in the dark (سنة 2000)
تقترن الأفلام الموسيقية عادة بالترفيه والمرح، لكن المخرج الدنماركي الشهير لارس فون ترييه Lars Von Trier “يعاني” من نظرة مختلفة جدًا للأمور، أو قد تكون فكرته عن الترفيه مختلفة بعض الشيء، المؤكد هنا أن فيلمه الموسيقي “راقصة في الظلام” لا يملك الكثير من المشاهد السعيدة، لقد قلب فون ترييه فكرتنا عن الأفلام الموسيقية، وجعلنا نرقص في ظلمات النفس البشرية رفقة سلمى (المغنية الاسلندية بيورك Björk) خلال رحلتها البائسة نحو غرفة الإعدام.
كانت سلمى مهاجرة تشيكوسلوفاكية، تكافح في مصنع كئيب في أمريكا لتظل حية ويظل ابنها حيًا، تتسلى بالذهاب رفقة صديقتها إلى السينما لمشاهدة نجوم هوليود وتحلم بحياتهم، الأقرب أنها كانت تفتعل المشاهدة، فعيناها لم تعودا تسمحان لها بتمييز الأشياء، أخبرها الطبيب أنها ستفقد بصرها قريبًا، ولذلك هي تجتهد في العمل لتوفر ما يكفي لإنقاذ عيني ابنها من مرضها الوراثي.
لكن عالمها لا يخلو من المرح الساذج الجميل، إنها قادرة على انتشال نفسها من واقعها بطرطقة الأنامل، صوت الأشياء في المطبخ يطربها، صوت الآلات المعدنية في المصنع، ووقع أحذية العمال الثقيلة يصنعان في قلبها وخيالها قطعًا موسيقية جميلة، ومثيرة.
راقصة في الظلام هو الفيلم الوحيد في القائمة الذي لا ينتمي إلى هوليود بأي شكل، وكونه صنيعة لارس فون ترييه، فهو يجعله تجربة سينمائية مختلفة من كل الجوانب، فما بالك إن كانت التجربة غنائية.
4- ساحر أوز The wizard of Oz (سنة 1939)
في مكان ما فوق قوس قزح، توجد الغبطة في حالتها الخالصة، سقط بعضها على شاشات العرض السينمائي في قالب فيلم من 100 دقيقة ونيف باسم “ساحر أوز” The wizard of Oz، لا أزال أذكر يوم الثلاثاء السعيد الذي شاهدت فيه الفيلم لأول مرة، ولا أزال أذكر أنني وجدت صعوبة في مداراة ابتسامتي طيلة اليوم! إن ساحر أوز لهو دليل مدهش على أن السينما أكبر من أدواتها، وأن سحرها يمكن أن يبقى حتى إذا ما أصبحت أدواتها قديمة عديمة النفع.
وأنت تشاهد ساحر أوز، قد لا تستسيغ تقنية الـ Technicolor المستعملة لتلوين الشريط، وقد تضحك ساخرًا من قنبلة الدخان التي لم تقدر أن تخفي عملية ظهور ساحرة الغرب من تحت أرضية الأستوديو، وقد تنظر في ريب إلى الأطفال الذين هم أقرب إلى الأقزام في كل شيء، لكنك لا تستطيع رغم كل ذلك أن تقاوم شعور المتعة وأنت تتابع الحوار الطفولي الرائع بين دوروثي وأصدقائها المدهشين، لا تستطيع أن تخفي ترديدك الجذل لأغنية “نحن ذاهبون لرؤية الساحر” We are off to see the wizard.
تعود قصة الفيلم إلى الكاتب الأمريكي فرانك باوم، وتحدثنا عن دوروثي الفتاة الصغيرة التي تسكن في ولاية كنساس، يضرب إعصار شديد بيتها فيأخذها إلى ما فوق قزح قزح حيث أرض أوز، وتشاء المصادفة أن يتسبب سقوطها هناك في مقتل ساحرة الشرق الشريرة، ما يدعو ساحرة الغرب لطلب الثأر منها، لكن ما يهم دوروثي هو العودة إلى أرضها، لذلك تسلمها الحورية الطيبة حذاء الساحرة الأحمر، وتقترح عليها الذهاب لمقابلة ساحر أوز المدهش فهو وحده قادر على إفادتها.
ساحر أوز هي رحلة دوروثي المذهلة من بيتها في كنساس إلى بلاد المونشكينلاند ثم إلى حيث يوجد الساحر أوز المدهش، وما رافق ذلك من مغامرات ومفاجآت وأشخاص غريبي الأطوار، لقد ترك الفيلم ذكرى خالدة في كل مستوى منه، وصار الحذاء الأحمر رمزًا للترحال، ورمزًا للوفاء إلى البيت الأول، “لا يوجد مكان في الدنيا مثل البيت” There’s no place like home.
3ـ الغناء تحت المطر Singin’ in the rain (سنة 1952)
يعتبر الفيلم معجزة الفنان جين كيلي Gene Kelly، ورمزًا لعصر أمريكا الذهبي، تمامًا كما تمثله الشقراء ماريلين مونرو، وهو بحسب معهد الأفلام الأمريكي أفضل فيلم غنائي في تاريخ هوليود، وهو الخامس في ترتيب أفضل الأفلام في تاريخ السينما الأمريكية (تراجع إلى المرتبة العاشرة في تحديث سنة 2007).
الحقيقة أن “الغناء تحت المطر” كان تقريبًا مدخلي إلى عالم الغنائيات الأمريكية، ولقد كانت العروض الغنائية الفرجوية الساحرة سببًا في اهتمامي بهذا النوع السينمائي، لقد رسخ هذا الفيلم فكرة الغناء تحت المطر كرمز مطلق للسعادة القصوى، وصارت أغنية جين كيلي رديفًا للفرحة الطفولية النقية، لا يمكن أن يرقص بذلك الشكل المتمرد والمتقن في آن، إلا طفل معجزة، ولقد كان جين كيلي كذلك تمامًا، وبعد عشرين سنة من الفيلم، استغل الممثل المبدع مالكلم ماكدويل Malcolm McDowell هذه الأغنية في مشهد الاغتصاب الفظيع في فيلم “برتقالة ممكننة” A Clockwork Orange ليدل عن ذات الإحساس ولكن في إطار وحشي أثار حفيظة الكثيرين، وكان أولهم جين كيلي نفسه.
لكن رقصة الغناء تحت المطر لم تكن كل ما يستحق الاهتمام في فيلم المائة دقيقة، فقد لاقت أغنية اجعلهم يضحكون التي أداها البطل الثاني دونالد أوكونور Donald O’connor نجاحًا كبيرًا فيما بعد، وكذلك أغنية صباح الخير، التي أداها البطلان رفقة النجمة الصاعدة ديبي رينولدز Debbie Reynolds، كانت ديبي تقف بجانب نجمين كبيرين، وكانت لا تجيد من الرقص إلا القليل حينما اختارها جين كيلي، ولقد كان عليها أن تعمل حتى تبدو نظيرة لهما، أعتقد أن النتيجة كانت تستحق تلك المشاق.
يعود جين كيلي ورفيقاه إلى بداية الأفلام الناطقة مع النجاح الكبير الذي حققه فيلم مغني الجاز سنة 1927، حيث دعت شركات الإنتاج إلى استعمال التقنيات الصوتية في الأفلام والتخلص من لوحات الكتابة السوداء، لم يكن هذا التحول رائعًا لجميع النجوم الذين كانت صورهم أجمل بكثير من أصواتهم، كان النجم السينمائي دون لكوود (جين كيلي) يعاني من هذه المشكلة في فيلمه الجديد، فبطلة الفيلم لينا لامونت، ذات صوت مزعج لا يمكن أن يستعمل في الغناء، لكنه وجد حلاً ذكيًا لذلك، استقدم ممثلة مسرحية مغمورة لتعوض بصوتها فقط نجمة الشبابيك لينا لامونت، كانت هذه الفتاة هي كاثي (ديبي رينولدز Debbie Reynolds) ومن الطبيعي أن تذهب بها الأحداث إلى الوقوع في هوى دون لكوود.
من اللافت أن الفيلم الذي يرمز إلى سينما الخمسينات، يتحدث في الواقع عن بداية السينما الناطقة أواخر العشرينات، ومن اللافت أيضًا المقاربة بين شخصيات الفيلم ومؤديها، فكما أن دون لكوود نجم شباك كبير كان جين كيلي، وكما كانت كاثي ممثلة مسرحية مغمورة كانت ديبي Debbie Reynolds قبل إنجاز هذا الفيلم، ولقد حاول الفيلم أن ينتصر إلى الممثل المسرحي الذي يعتصر نفسه على الخشبة حتى يحظى بالتقدير، عكس نجوم السينما الذين تكفي إطلالتهم لإغلاق شبابيك التذاكر، وكأن جين كيلي يقول: تكلم حتى أراك!
2ـ صوت الموسيقى The Sound of Music (سنة 1965)
أعتقد أن أغلب الغنائيات مرهون بشكل كبير في آداء أحد أبطالها، ومثلما كان جين كيلي هبة “الغناء تحت المطر” فقد كانت جولي أندروز Julie Andrews هبة “صوت الموسيقى”، ومن بين كل الأعمال المذهلة التي قدمتها في هذه القائمة، فأنا أجزم أن آداء جولي أندروز كان أفضلها.
لقد أدت أندروز بشكل مختصر دور الآنسة صفاء التي يعرفها كل من تابع قديمًا مسلسل الصور المتحركة “لحن الحياة”، وأصل القصة يعود إلى مذكرات المربية ماريا فون تراب Maria von Trapp التي ترجمت إلى فيلم ألماني قبل أن تخلدها هذه الغنائية الرائعة.
الأب الصارم، والأم المتوفية، والإخوة الصغار السبعة الذين يكرهون كل مربية جديدة، وماريا المرحة الجميلة ذات الصوت الملائكي التي تلجأ للموسيقى كوسيلة للتربية والتهذيب، هذا باختصار قالب الفيلم الذي احتفى بالموسيقى أيما احتفال، وجعل من السلم الموسيقي تسلية رائقة لنا من خلال أغنية “دو ري مي”.
صوت الموسيقى هو أيضًا صوت الحياة، ولقد بحث الفيلم في هذا المعنى من خلال عائلة فون تراب Von Trapp التي دبت فيها الحياة بانضمام ماريا (رمز الموسيقى) إليها، ولأن أحداث الفيلم كانت في النمسا قبيل الحرب العالمية الثانية، فلا يمكن فصل هذا السياق المهم عن الفيلم، فألمانيا المنهارة إثر الحرب الأولى لم تكن بحاجة إلى حل عسكري كما كان الأب فون تراب Von Trapp يعامل أولاده وإنما إلى حل موسيقي، ولأن الحياة أحيانًا أبلغ من السينما، فقد سها الفيلم عن متابعة ما حدث لعائلة Von Trapp بعدما نجت من براثن النازية.
تخبرنا ماريا فون تراب الحقيقية عن ذلك، إذ تقول إن العائلة التي أصبحت لاجئة في أوروبا لم تجد لها من معيل سوى الموسيقى، كانوا يغنون في الكنائس والمناسبات ويحصلون على قوتهم بفضل ذلك.
1ـ كل ذاك الجاز All that Jazz (سنة 1977)
بوب فوسي Bob Fosse مرة أخرى هو مفتاح الصول، وهو شارة بدء المقال وشارة النهاية، لقد توفي بوب فوسي سنة 1987، ولكنه تحدث عن موته قبل ذلك بثماني سنوات، وذلك من خلال هذا الفيلم المتميز.
تعود فكرة الفيلم إلى زمن تعرضه لنوبة قلبية كادت تذهب بحياته خلال إنجازه لمسرحية Chicago سنة 1975، تقول شيرلي مكلاين التي كانت وراء انتقاله من المسرح إلى السينما، إنها من اقترح عليه آنذاك أن يكتب غنائية بخصوص النوبة القلبية، لذلك كان فيلم All that jazz معنونًا بالأغنية الأشهر من مسرحية شيكاغو.
يمر الإنسان الذي اقترب من الموت بخمسة مراحل أساسية هي الإنكار، والغضب، والمساومة، والاكتئاب والتسليم أو التقبل، وهو ما يعرف بنموذج كبلر غوس Kübler-Ross، ولقد عبر بوب فوسي عن ذلك عبر لوحات الفيلم العبقرية، وعبر آداء الممثل روي شايدر Roy Scheider المتميز، وعبر قصاصات من حياته نفسها كرجل كوريغرافيا شهير، وأب وطليق وعشيق ومستهلك مخدرات، لقد كان تأثر فوسي بالمخرج الإيطالي الكبير فليني Fellini وفيلمه 81/2 واضحًا، ولكنه أضفى عليه طابعًا احتفاليًا أكبر، نحن لا نتحدث عن أزمة فنان، نحن نتحدث عن موته، ولأن الفنان فكرة، فموته كان خالدًا.
أعمال كثيرة أخرى تستحق المشاهدة، ولعلني يومًا ما أضيف إلى القائمة Oliver أو The Rocky Horror Picture Show ولكنني لم أشاهدها بعد، تصر الأفلام عادة على إثارة انتباه المشاهد بتشويقه إلى ما سيأتي، إلى ذلك الذي لم يحدث بعد، لكن الغنائيات تعلمنا ألا نشرئب بأعناقنا إلى الأمام، وأن نستمتع بما يحدث أمامنا في اللحظة، ذلك أن الرقص والموسيقى تعبيران لا يقلان قيمة عن الدراما.