عندما ظهر تنظيم الدولة الإسلامية، المعروف إعلاميًا باسم داعش، بشكل كاسح في العراق وسورية وجد تشجيعًا كبيرًا في بقاع كثيرة من العالم، وبين فئات مختلفة من الناس، وقد سمعت سوريين (وهم من غير المتدينين) وقتها يقولون إن “داعش الأصلح للمرحلة”!
كان نظام الأسد يزداد إجرامًا في سورية، وكانت الفصائل المسلحة تزداد تشرذمًا، وجاء ظهور داعش ليعطي تصورًا أن هناك تنظيمًا كبيرًا قادرًا على هزيمة نظام الأسد وإبعاد كل متلاعب عن الساحة السورية.
والناس – ليس في سورية وحدها – الذين حُرموا من ممارسة شعائرهم الدينية دون خوف، وحرموا من تطبيق العدل والشعور بالكرامة وممارسة الحرية والإحساس بالعزة، وقُسّمت بلادهم وعاشوا متفرقين متشتتين، متشوقين لدولة تحقق لهم ما حُرموا منه، وتشعرهم بالقوة والنصر، ومن ستكون غير دولة الإسلام بعد أن رأوا بأعينهم عوار الدول الأخرى، وماديتها ونفاقها.
مظاهرات تأييد لداعش في بداية سيطرتها على مناطق واسعة من العراق وسوريا
لذلك فقد كان للتوسع الكبير، وتلك الشعارات البراقة، والاستعراضات العسكرية المهيبة، والفيديوهات المتقنة، التي قدمها التنظيم، والتي أنعشت النفوس المتعطشة للفوز والانتصار، أثر كبير في العقول المخدوعة، وكانت كفيلة بحشد الأتباع من كل بقاع الأرض، دون تفكير بما وراء الأحداث، ولا كيفية ذلك الظهور الكاسح، ولا مآلات أفعال التنظيم المستقبلية على السوريين خاصة والمسلمين في كل مكان.
لكن مناظر الدماء المسفوحة، والرؤوس المقطوعة، والتفنن بأساليب القتل من حز وحرق ورمي ورجم وتضحية… إلخ وتصويرها وبثها مع ما يتبعها من خلفيات تشريعية تكفيرية تجتزئ النصوص والأحداث، وتُغيّب التاريخ وظروفه، وتميت التشريع ومقاصده، على أنها طريقة لإرهاب الخصوم، ودك معاقلهم بالخوف قبل السيف، وتصوير ذلك على أنه إقامة لحدود الله، وتطبيق للشريعة، جعلت كثيرين يترددون، أو بالأحرى يقعون فريسة صراع نفسي، بين فطرة تكره القتل واستباحة الدماء وتمجّ تكفير الناس، وبين شعارات براقة، تحمل اسم الإسلام وتقاتل باسم الدين، وتتحدث بنصوصه، وتعلن أنها جاءت بخلافة باقية وتتمدد.
حتى المشايخ، أو من يسمون بالعلماء، لم يظهروا انتقادًا واضحًا لذلك التنظيم، ولممارساته رغم وحشيتها، وكل ما سمعناه وسم لهم بالتخطئة، وبيان شيخ من هنا، وآخر من هناك تحركه سلطة بلاده الخائفة على عروشها، مما كان له أثر عكسي جاذب وليس منفر، لذلك التنظيم.
التحالف العربي الأمريكي ضد داعش
أما حشد التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة ضد التنظيم، واجتماع أكثر من ستين دولة في وقت قصير لحرب تنظيم واحد لا يزيد عدد أعضائه عن آلاف، فكان أشبه بمسرحية ساخرة، هوليودية، فاشلة، لم تقنع حتى الآن القائمين عليها، فضلًا عن غيرهم.
وبعد هذه السنوات أظهر توسع التنظيم في أعمال القتل والتدمير، وتركيزه على قتال فصائل المعارضة المسلحة في سورية بشكل أساسي، وعدم تورعه عن قتل أي مخالف بتهم متعددة بعضها يقوم على الغدر والاغتيال (لا ننسى مجموعة الاغتيالات التي قام بها التنظيم لصحفيين وإعلاميين سوريين في تركيا مثلًا)، وتكفير الخصوم واستحلال دمائهم، بالإضافة لتلك الممارسات الشاذة عقلًا وذوقًا وفطرة، من تدمير للآثار، وإغلاق للمدارس، وسن قوانين مثيرة للسخرية، بحجة الدفاع عن الإسلام، وحفظ الفضيلة، كل ذلك دفع للسؤال عن حال هؤلاء، وموقف الشرع منهم، وهل هم على حق أم على باطل، وهل هذا الذي يمارسونه هو من الإسلام، أم ماذا؟
كان المتدينون من الشباب وغيرهم منجذبين للنقاشات الفقهية التي لا تنتهي، فكلما ظهر فيديو لعملية إعدام جديدة يقوم بها التنظيم مدعومة بقصص تاريخية، أو فتاوى فقهية قديمة، دخلنا في متاهة نقاشات لا تنتهي، كلها تستل القصة أو الحدث أو الحكم استلالًا من سياقه، وتتعامل معه معاملة مادية ضحلة، لا تنظر إلى ما خلفه ولا إلى ما بعده، ولا تقيسه بمقياس الشريعة ومقاصدها، ولسان حالهم يقول “إنا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون”، ليصير فعل خليفة أو قائد مر قبل مئات السنين مقياسًا للتصرف الصحيح، ولتغدو فتوى فقيه مجتهد صدرت قبل قرون مرجعًا لا محيص عنه.
داعش تعيد الرق باسم الإسلام
وبالمقابل يجد أعداء الإسلام فرصة للهجوم على الدين ونبيه والمسلمين عمومًا، وتراث الإسلام وفقهائه، ووصمه بشتى التهم المقززة المنفرة، وعده دينًا عنفيًا عفا عليه الزمن، لا يصلح للمدنية ولا للحضارة.
لا أريد لهذا المقال أن يدخل في مناقشة أفكار التنظيم وأصوله، ولا أريد البحث في خلفيات وجود التنظيم ومن المستفيد منه سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا ودينيًا، كل ما أريده هو التنبيه إلى أن داعش ستفني نفسها لا محالة.
لأن دين الإسلام بواقعيته ومرونته وقابليته للتعامل مع الحوادث والأحداث، لا يمكن تصنيمه وتجميده ضمن قوالب تاريخية جاهزة، يسحبها من يشاء وكيفما يشاء من التاريخ ليصبها على الحاضر بطريقته دون منهج يقوم على أسس ومقاصد بيّنها الله في كتاب جعله هدى ونورًا للعالمين.
دين الإسلام بنصوصه وثوابته الواضحة الموجودة في كتاب الله، أعطى إمكانية واسعة للتشريع في الفروع ضمن القواعد العامة الناظمة للحياة، والقابلة للاستنباط بما يوائم حياة الناس ومصالحهم، في نظام رباني رحيم حكيم.
دين الإسلام ليس دين فئة تدعيه لنفسها، وتسلبه من الآخرين اعتمادًا على مهاترات ومناقشات وتأويلات قُدّمت في فترات تاريخية وبظروف خاصة، بل هو دين الرحمة للعالمين، دين الواقعية الحاضرة، القادرة على التعامل مع مشاكل الحاضر برؤية الحاضر، اعتمادًا على نصوص واسعة محددة، تحرم الظلم والاستبداد والاستغلال وقتل النفس والاعتداء، وتمنع الدخول في نوايا القلوب وتفكيرات العقول ومحاسبة الناس بالظن والتأويل.
لذلك فإن داعش أسوأ تجلٍ للانتقال من رحابة التشريع الحكيم إلى ضيق التأويل الفاسد، وهي أفضل طريقة لتطبيق مشوه يمسخ صورة الدولة الحاكمة بالإسلام إلى عصابة للقتل والتدمير والفساد في الأرض.
وهي أوضح مثال على ما ينتجه تفكير ضحل ونظرة قاصرة مدعمة بالسلاح والقوة، من كوارث يستغلها الخبثاء والمتسلطون ويدفع ثمنها الأبرياء والضعفاء.
وقبل كل هذا هي أفضل سبيل لتحقيق ما عجزت عنه المادية الفجة من قتل للفطرة الإنسانية، التي توصل الإنسان للدين القيّم، وتحميه من الارتداد إلى أسفل سافلين، لكنها رغم ذلك هي مجرد زوبعة ستنتهي، فعوامل فنائها موجودة في ثناياها، في تفكير أتباعها، وفي تصرفات قاداتها.
قد تكون تسونامي مدمرة تحصد ما أمامها، لكنها ليست باقية، ستختفي كما اختفى مثيلاتها من مجرمي التاريخ والإنسانية.