قالت لي: تابعت ما يكتبونه من أخبار بعد الانقلاب عن الاعتقالات والمحاكمات وتابعت صور شهداء عرب شركس المبتسمين وعلامات رابعة التي يرفعها معتقلات الإسكندرية بثيابهن البيضاء والمسابح الإلكترونية تزين أصابعهن، كانت كل متابعاتي من خلال إطار منظاري الطبي الأنيق وقلبي الذي يدعّي التضامن مع الثورة المنفية في أقاصي شعاب مكة لم يكن حقًا هناك، أنت لا تستطيع مهما تعاطفت أن تأخذ روحك لتنظر من نافذة الآخر أبدًا، يجب أن تكون صاحب القضية حتى تفهم، حتى تحترق، وحتى تبعث من رماد تجربتك المؤسفة.
هكذا وجدت ذلك الصوت المرتجف يوقظني من نومي في منتصف الليل ليخبرني أن هذا القريب البعيد جدًا عن عالمي قد تذكر رقمي وهو مخطوف قسريًا وأرسله لزميل الزنزانة الذي بدوره أعطاه لأخته في الزيارة لتتصل بي وتخبرني أن قريبي موجود في سجن طرة.
طار نومي وأنا أسمع نبرات صوت الفتاة التي أخبرتني أن اسمها عائشة من قرية بعيدة في صعيد مصر وأنها للتو عادت من الزيارة بعد رحلة طويلة من قبل فجر اليوم السابق للتمكن من زيارة أخيها للمرة الأولى منذ اختطافه، تأسفت لي على إيقاظي في هذا الوقت المتأخر قائلة: أختفى أخي قسريًا لعدة أشهر وكنا نعيش على الجمر في انتظار أي خبر عنه، لهذا لم أرد لكم أن تعيشوا ليلة أخرى في تلك المعاناة الحمد لله هو الآن مثبت وجوده في مكان ما.
عندما أنهت المكالمة تذكرت أيام اعتصام رابعة، كيف أنني وقتها ظننت بعد المجزرة أنه لا يوجد في هذا العالم ظلم أشد من قتل متظاهر سلمي وحرق جثمانه وتعسير دفنه وتهديد ذويه لتوقيع وثيقة انتحار للإفراج عنه من المشرحة، أدركت مؤخرًا أن هناك ظلم أشد من هذا هو ظلم الحي الذي لا زال يتنفس لكنهم يقتلونه كل لحظة بإخفائه في حفرة ما، وحتى عندما يظهرونه فإنهم يكونون قد خاطوا له كفنًا من نوع آخر، لا توجد عدالة ولا انتقال لدار من لا يظلم عنده أحد بل هو في منفى أشد وطأة على أهله من خبر استشهاده.
بوابة سجن طرة
مرت المحاكمة تلو الأخرى ثم قررت أن أذهب لرؤيته خلال إحدى المحاكمات، أي شخص يستطيع أن يذهب لحضور جلسة محاكمة، أي مصري يمكنه أن يدخل محكمة طرة ليرى المهزلة العلنية التي تجري على الجميع هناك، عندما نزلت في محطة مترو الأنفاق المسماة طرة البلد شعرت أنني وصلت إلى بوابة السجن سريعًا جدًا، عشرات الأسر تجلس بعشوائية في شارع واسع مقابل لمخرج المحطة، الكثير من الحاجيات والحقائب، هناك أطفال ينامون على أرجل الأمهات، ورضع يبكون بل وصبية يلعبون، طفولتهم لم تميز فداحة المعاناة، إنهم ينشدون الريّ كما الأزهار البرية النابتة من قسوة الصخر، مواصلة قصيرة حرصت فيها أن أخبر السائق أن يمشي من قلب البلد متحاشية طريق الموت الذي ابتلع كثيرًا من الأرواح التي جاءت زائرة لذويها.
على بوابة المحكمة وقفت لساعتين بدعوى تأخر الموظفة المسؤولة عن التفتيش، كان هناك حفنة من العساكر مهمتهم أن يخبروننا بالأوامر، لا أقلام لا أوراق، سلموا هواتفكم، للحظة لم نعد زائرين بل صرنا محكومين تمامًا مثل من في الداخل، تعجبت من استسلام الأغلبية لأوامرهم وتسليم الأقلام والأوراق طواعية، وضعتهم في قاع حقيبتي آملة ألا يلحظوهم، وإن أخذوهم فعليه أن يكون بقسرهم لا بإرادتي.
للثورة وجه في طرة تستطيع أن تلمحه في كلمات تلك الزوجة التي لفقوا لزوجها تهمة محاولة الانضمام إلى داعش والسفر للخارج، قالت لي: عندما يثور الناس يومًا سأغلق مصدر كسبي وسآخذ أطفالي تحت جناحي وأبقى في البيت، أنا قطعًا لن أثور معهم لأنهم اليوم تركوني في ثورة غضبي داخل أروقة المحكمة ومهازل الزيارات بدون معين، أنا لن أكون بين أظهر من خذل زوجي الذي كانت كل جريرته التظاهر بعد الفض مطالبًا بالقصاص.
سيدة أخرى ترتدي ثياب تبدو عليها رقة الحال وغبار الطريق ومعها حفنة من الصغار، سيدة صغيرة في العمر عميقة في النظرات، حاولت التلطف معها وسألتها ما رقم العنبر الذي يبقى فيه زوجك، لمعت عيناها في حزن بليغ وقالت: بل ولدي، هالني هذا الثبات، ولدها قطعًا طالب، المرأة لم تكن قد مرقت من سن الشباب بعد، فكرت أنها كحال أغلب أهل الريف قطعًا قد تزوجت صغيرة جدًا لتنجب الأطفال وتبقى شابة لكن أقدارها العظيمة جعلت من بكرها ضحية من ضحايا الانقلاب.
للمرة الثانية أرتكب نفس الحماقة وأسأل إحداهن عنبر رقم كام؟ هذه المرة لزمت الحكمة ولم أقل زوجك أو ولدك لكن وللمرة الثانية يصدمني الرد حين قالت: ولدي في عنبر الإعدام.
كانت الجملة نشاز على أذني، والتسليم الذي قالتها به كان أشد على قلبي من أي شيء آخر، هذه الأم تأتي لرؤية ولدها في المحاكمات وترضى بنظرة بعيدة من خلف قفص زجاجي محاط بالعساكر لأنها لم تتمكن من زيارته في سجن العقرب خلال عام كامل سوى مرة واحدة.
كانت الآية المعلقة أعلى هيئة القضاء لا تتماشى مع حال المسجونين وسجانيهم حيث كتبوا بخط عريض لوحة بالآية القرآنية الكريمة {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً}.
في وقت بلا شرف ولا أمانة ولا امتثال لأمر الله ولا عدالة في الحكم يكتبونها أعلى القاعة كأنهم يسخرون من العقول.
هؤلاء الحفنة من شرفاء الوطن وأغلبهم من أستاذة وطلبة كليات القمة يحاكمون فقط لأن عقولهم لا تتماشي مع عقل الحاكم.
عدت لبيتي متخمة بالألم من ثورة رأيت مرجلها يغلي في عيون الفئة الأشد معاناة على الوطن ليطالعني مشهد الجثث المنتفخة لعشرات الشباب والأطفال والشيوخ اللذين خرجوا هربًا من جحيم المواطنة إلى مخاطر الهجرة غير الشرعية على مركب متهالك في عرض البحر.
أحلام الحرية التي نزل بها كل من ثاروا في الميادين والهجرة التي مارسها المصريون منذ عشرات السنين في وطن يغتال أحلامهم وحقهم في حياة كالحياة، كانت تطفو هناك في رشيد.
انقلاب زورق للعمال المهاجرين في رشيد والضحايا يتجاوزون المائة
ووالد أحد الضحايا يهذي بأعلى صوته: “لم ينجدهم أحد، تركوا ولدي للموت، لم ينتشل الجثث سوى العيال الصيادين الغلابة بشباك صيدهم”.
فتحت الفيديو ولم أصدق المشهد، الجثث تنتشل من حفنة صيادين جدعان وبشباك رزقهم أيضًا، وهناك في صوان العزاء المعقود فوق الموج يرددون في حزن وتسليم لا إله إلا الله، وهم يلمحون كل دقيقة جثة تطفو من اتجاه، وعلى الشاطئ مشهد آخر لمقبرة كالتي رأيناها منذ مدة لأطفال سوريا المهاجرين وقوالب الثلج تعلوا الأكياس السوداء، وهذه الأم تضم ولدها الشاب وتمنحه عناق صبرها الأخير، هي لم تربه ثائرًا بطلاً كأم المعتقل في طرة، هي حلمت بأن يعيش فقط قبل الغروب في مشهد بدا مستحيلاً، لم نعد نميز المهزلة تلك من هذه، لأن المهازل في هذا الزمان قد صارت كابوسًا بواحًا يجثم بظلامه فوق أنفاس مصر.
جمع من أبناء الوطن يحتشدون على الشاطئ واجمين في مشهد جنائزي، ومن حالفه الحظ ونجا من الموت غرقًا تعرض للاعتقال من فوره وتم تقييدهم على أسرة المستشفيات، لا أعرف ما هي إدانتهم، هل النجاة من الموت أم البقاء في سجن بلادنا.
ما بين طرة الثائرة ورشيد الحرة طريق واحد قد ازهرت جنباته من دم وروح الوطن، راقبت تحليق الجماعات فوق السحاب ولمحت شكل أجنحتهم البيضاء التي رزقوها رغم أنف الظلام وحلقوا بها أخيرًا نحو النور خارج هذا العالم، وصلّيت لأجل أن يكتب حلمهم النازف على دروب الوطن سطرًا جديدًا في ملحمة الثورة ما دمنا أحياءً نتنفس، فلا دام الظلم ولا عاش الجلاد.