في الخامس والعشرين من أبريل من العام 1869 افتتح الخديو إسماعيل قناة السويس في حفل مهيب وبميزانية ضخمة، حيث تم دعوة أكثر من ستة آلاف مدعو، واُستخدم خمسمائة طاهٍ، دُعى إلى الحفل ملوك وأمراء ورجال دين في مصر وأوروبا وغيرها، وفرشت السجاجيد وأطلقت المدافع ونصبت المنصات واصطف المصريون على جانبي القناة، صعايدة وفلاحون وسودانيون، رجالهم ونساؤهم وأطفالهم، ولم يشفع عند الخديو فقر الناس أو مرضهم أو حتى خلو الخزانة إلا من الفئران حتى يتنازل عن هذا البزخ والإسراف الذي لا عائد منه ولا طائل، بل لجأ إلى الاستدانة من دول أوروبا ليقيم هذه الاحتفالات ويُشهد عليها المصريون الذين لم يجف عرق مليون منهم عملوا سخرة في شق القناة، ولا دماء مائة وعشرون ألفًا ماتوا أثناء الحر جوعًا وعطشًا وغرقًا ومرضًا.
السؤال الذي تستحق الإجابة عنه العناء: ما الذي عاد على المصريين شعبًا أو حتى حكومةَ من كل ذلك ؟ لا شيء، غير أن الخديو الذي تم في عهده حفر القناة قرر بيع حصة مصر من القناة تسديدًا لقيمة الاحتفالات التي تداينت بها الحكومة المصرية من خزانات الأجانب، والتي سارع السفير البريطاني إلى شرائها حتى قبل أن يستأذن الملكة في بريطانيا خوفًا من أن يسبقه غيره إليها، ولهذا دلالة واضحة على مدى سفه وعشوائية اتخاذ القرار سواء بالمغالاة في الاحتفال أو ببيع القناة، وفي النهاية احتفل المصريون، احتفلوا رغم الدماء، رغم العناء، رغم الوباء الذي انتشر في تلك الآونة، والمحصلة صفر، وكنت لأسأل هل حقًا كانوا يحتفلون، لولا أن الأيام أجابت عن هذا السؤال، فما أشبه اليوم بالبارحة.
وفي العام 1956 أعلن الرئيس جمال عبد الناصر – من باب البروباجندا – عن تأميم قناة السويس وسط حشد شعبي بمدينة الإسكندرية، لم يكن قرارًاعشوائيًا، بل كان ردًا على فشل بروباجندا أخرى كانت لتضيع على ناصر آنذاك بسبب تعنت الولايات المتحدة وبريطانيا والبنك الدولي أمام تمويل مشروع بناء السد العالي، لم يكن غريبًا على هذه الحكومات رفض دعم الحكومة المصرية التي كانت تسعى إلى اعتماد نظام اشتراكي يعادى السوق الحرة الغربية، الغريب أن عبد الناصر لم يتقبل ذلك، وردًا على تعنتهم، قرر ناصر تأميم القنال التي تبقى لها اثنى عشر عامًا وتصير ملكًا كاملاً للمصريين دون غيرهم باعتراف بريطانيا وفرنسا والعالم كله.
الإعلام المصري يحتفل بتأميم القناة
التأميم – للأسف – لم يكن ضربة من المعلم كما صورت الأغاني، بل كانت السقطة التي لم يتوقعها العدو، فلم تكتف بريطانيا وفرنسا بتجميد أموال المصريين لديهم، وكانت تقدر بنحو 135 مليون جنيه إسترلينى كانت ديون مستحقة لمصر منذ الحربين العالميتين، وتلك القيمة المقرر تجميدها كانت تفوق القيمة المالية لقناة السويس، ولا الولايات المتحدة بدورها بتجميد 43 مليون دولار كانت أيضًا مستحقة لمصر، بل أيقظت هذه الخطوة الحمقاء إلى المستعمر الإنجليزى آمال مد الامتياز لخمسين سنة والتي كان قد تصدى لها المصريون في العام 1910 وقتل على إثرها بطرس باشا غالي الذي كان يسعى لمد الامتياز لصالح الإنجليز.
لم لا وقد تعدت الحكومة المصرية على حقوق دول عظمى مما أجج إلى حرب لم يكن للمصريين قِبلا بها لولا أن شاءت الأقدار غير ذلك، بروباجندا جديدة، حرب لم يحاربها الجيش المصري، وراح ضحيتها مدنيين كثر، وخلقت طموحًا جديدًا لعدو جديد قديم، إسرائيل، التي ركبت موجة الحرب ودخلت إلى سيناء ولم تنسحب إلا مشترطة حق الملاحة في الممرات الدولية، والأمر الذي كلفنا إغلاقها بعد ذلك خسارة سيناء بأكملها، إلى الآن، ولم تجن مصر من وسط كل هذه الخسارات الفادحة إلا 35% من قيمة الأرباح من وقت تأميمها إلى إغلاقها بسبب احتلال سيناء وحتى افتتاحها عام 1975، بالإضافة إلى اتفاق التسوية بين مصر وفرنسا الذي انتهى بمصر إلى دفع تعويضات إلى المساهمين في الشركة بسعر السهم الحقيقي، ودفع معاشات الموظفين القدامى، وكذلك تحمل ديون القنال، وإلزام مصر بدفع مبلغ جزافي للشركة القديمة يقدر بثماني وعشرين مليون جنيه مصري يتم سدادهم على أربعة أقساط، إلا أن المصريين حتى اللحظة مازالوا يحتفلون بتأميم القنال، يحتفلون بخسارة مصر مقدراتها في الخارج وثلاثة حروب وخسارة الأرض بالإضافة إلى الديون الجديدة التي أضيفت إلى أعباء المواطن المصري مقابل لا شىء.
على اليمين قناة السويس الجديدة والقديمة، وعلى اليسار القديمة
ما تم الأمس وأول أمس لا يختلف كثيرًا عما يجري اليوم، افتتاح لقناة سويس جديدة، وما هي بقناة ولا هي بجديدة، وما من أحد منا يخفى عليه أن المشروع كله ما هو إلا تفريعة 35 كم، لم يرفع لها معول ولا أسقط إلا لتغييب وعي هذا الشعب وصرفه عن حقيقة الأمر، وحقيقة الأمر أن قناة السويس التي يبلغ طولها 193 كم والتى كانت تدر لمصر خمسة مليارات سنويًا، لم تكن لترفع تفريعة الخمسة وثلاثين كيلو دخلها إلى مائة مليار.
وعلى الرغم من أن خبراء موالون للسلطة كانوا قد تحدثوا عن أرقام معقولة نسبيًا، إلا أن الخطاب الرسمي كان ولازال يصر على تصدير أرقام خيالية يتغنى بها البسطاء والحالمون بمستقبل أفضل، وإن كان تسمية المشروع بـ”قناة السويس الجديدة” لهو خير دليل على إصرار الحكومة على استغفال الناس والاستخفاف بعقولهم، وعلى الرغم من غلاء الأسعار وانخفاض مستوى المعيشة بشكل ملحوظ، والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية الجمة التي تشهدها البلاد، إلا أن ذلك لن يثنينا عن الاحتفال، الاحتفال هو المراد أصلاً، فلو طالت الحكومة أن تحتفل كل يوم بسبب وبغير سبب، بقناة أو بغير قناة فستفعل، لتسقي الأمة كل يوم ألوانًا من الغيبوبة والغفلة، ولكن إلى متى؟
ولم أقصد التكلم عن قناة السويس نفسها، قناة السويس خيط رفيع يقود إلى شبكة صيد كبيرة حيث المصريين، ألا وهي سياسة البروباجندا، بحيث يتم اقتياد الشعب إلى الحياة في عالم موازٍ، جميل، ليس بعد، تطول بالناس فيه الآمال، تملأه كلمات، القادم، غدًا، المستقبل، كلها لا تقر بالواقع، تجعلهم سعداءً، أو مغيين، أو بما يجمع الاثنين، سكارى، ولكن الألم الذي مازال يملأ ضلوع المظلومين والفقراء والتعساء الذين لن تتم دعوتهم إلى احتفالات القنال، لا يسكّنه أمل ولا تنفعه بروباجندا، ولا يداويه إلا العدالة.