مر أكثر من عامين على دولة لبنان بدون رئيس جمهورية منذ خروج الرئيس اللبناني السابق ميشال سليمان، من قصر بعبدا، كل يوم مر من هاتين السنتين كان يُعقد الوضع السياسي اللبناني أكثر فأكثر، دون وجود أي حل قريب يلوح في الأفق، في ظل قوى سياسية آثرت أن ترتكن على قوى خارجية تدير اللعبة السياسية في لبنان بمنطق التوازنات الإقليمية.
ليتسبب هذا الصراع السياسي في النهاية، في إبقاء كرسي الرئاسة اللبناني شاغرًا، وهو شغور كان مرشحًا بالفعل منذ بداية الأزمة لأن يمتد ليصبح أطول مدة فراغ في تاريخ الرئاسة اللبنانية منذ فراغ عام 1988 الذي استمر 409 أيام، وهو ما قد كان.
انقسام لم ينته يومًا
لم تنته حالة الانقسام اللبنانية يومًا وفق ما يرى مراقبون، لا قبل الحرب الأهلية ولا بعدها، إذ ما زالت قوى الأمر الواقع الذين كانوا أيام الحرب، أي المليشيات المدعومة خارجيًا، تتحكم بالسلطة، بحسب وصف البعض.
فهذه الحالة السياسية التي تدير لبنان لا تريد سوى رئيس مكبل بلا صلاحيات سوى الانقياد لزعماء هذه التيارات، متخطية هذه الحالة الدستور والقانون، كما أنها ترسخ نظام المحاصصة المصالحية لا الشعبية، والذي أقره اتفاق الطائف في السعودية عام 1989 لإنهاء الحرب الأهلية بأي ثمن.
هذه أطول مدة فراغ في تاريخ الرئاسة اللبنانية منذ فراغ عام 1988 الذي استمر 409 أيام
لذا يعرف لبنان هذه الحالة جيدًا وليست بالغريبة عليه، ففراغ 1988 مع انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل لم ينته سوى بتدخل عسكري سوري لترسيخ اتفاق الطائف، لتسير هذه السنة في لبنان في الفراغ الثاني في أزمة التمديد لولاية الرئيس إميل لحود عام 2004، لتأتي معه حادثة اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري، والتي غادر الجيش السوري على إثرها لبنان.
ويعيش لبنان حاليًا فترة الشغور الثالثة، وقد كان يُلاحظ أن كل أزمة شغور يتلوها حادثة كبيرة في تاريخ دولة لبنان كي تُحل، وفي الوقت الحاضر لم تأت هذه الحادثة منذ أكثر من عامين، وهو ما يجعل المستقبل اللبناني يسير إلى المجهول، تبعًا للحوداث الإقليمية، والهزات الداخلية العنيفة.
مشهد توزيع القوى المتصارعة
اللاعبان الأساسيان في حلبة الصراع على الرئاسة في لبنان هما فريق الـ 8 من آذار الذي يضم حزب الله والقوى والشخصيات المتحالفة معه، وأبرزهم نبيه بري رئيس مجلس النواب اللبناني، ورئيس تكتل التغيير والإصلاح، النائب ميشال عون، ويتلقى هذا الفريق دعمًا إيرانيًا منقطع النظير.
الفريق الآخر هو قوى الـ 14 من آذار بزعامة تيار المستقبل، الذي يترأسه سعد الحريري المدعوم سعوديًا، وهو ما يتضح منه كيف يمكن أن تسير اللعبة بين إيران والسعودية على حلبة لبنان.
البعض ما زال يراهن على فوز محوره الإقليمي بما يؤمن فرص وصوله إلى الرئاسة بالشكل الذي يريد
وهو ما يفسر أيضًا تصلب القوى السياسية الرئيسية في لبنان، وتمترسهم خلف ستار الرئيس القوي، وتارة شعارات أخرى كاستعادة حقوق المسيحيين، وفي الواقع أن الجميع ينتظر المسار الإقليمي ونتائجه التي ستفرزها الاتفاقات الدولية.
إذ إن البعض ما زال يراهن على فوز محوره الإقليمي بما يؤمن فرص وصوله إلى الرئاسة بالشكل الذي يريد، وكذلك من يقف خلف ترشيحات الرئاسة المتباينة يرغب في استمرار التعطيل لأهداف وغايات تخدم مصالحه، بما يجعل الأزمة الرئاسية اللبنانية مرتبطة ارتباطًا عضويًا بالمسار الإقليمي.
محاولات باءت بالفشل
عامان على خلو كرسي الرئاسة اللبناني من خليفة لـ “سليمان” تخللهما أكثر من 40 جلسة برلمانية لاختيار رئيس جديد للبلاد، لكنها باءت جميعًا بالفشل، 5 منهم في فترة الشهرين التي سبقت انتهاء الولاية المحددة من الدستور.
لم ينجح أي أحد في المرة الأولى بتأمين أغلبية الثلثين المطلوبة – يتطلب انتخاب رئيس حضور ثلثي أعضاء مجلس النواب (86 من أصل 128) – لفوز أحد المرشحين بينما عجز في المرات اللاحقة عن الالتئام بسبب عدم اكتمال نصاب الجلسات المحدد بغالبية الثلثين، والجلسات الأخرى التي عقدها البرلمان بعد انتهاء الولاية لانتخاب رئيس من مرشحين اثنين يلقيان دعمًا من كتل نيابية رئيسية، هما مؤسس التيار الوطني الحر النائب ميشال عون، ورئيس تيار المردة النائب سليمان فرنجية، لكن دون أي نتيجة تذكر.
في حين يحمل طرف حزب الله المسؤولية عن تعطيل الانتخابات الرئاسية بزعم أن الحزب يأخذ تعليماته من طهران بأن يبقى الوضع كما هو عليه لأطول فترة ممكنة، ومن ثم يرفض كافة الترشيحات المقدمة.
وكذلك تطال الاتهامات بإفشال مجلس النواب في انتخاب رئيس جديد للبلاد، التيار الوطني الحر الذي يريد أن يكون الزعيم المسيحي الماروني ميشال عون هو الرئيس، بينما يتفق مع حزب الله بهذا الشأن، وهو مصلحتهم بعدم انتخاب رئيس جديد للبنان حتى الآن.
أزمة الفراغ الرئاسي في لبنان لم تجد حلًا عمليًا بعد، على الرغم من كثرة الأطروحات والمقاربات بشأنها داخل لبنان وخارجه
هذا الصراع الذي أخر انتخاب رئيس جديد للبنان طوال هذه الفترة، هو أمر لا ينكره الساسة اللبنانيون الذين رأى بعضهم بكل صراحة أن الحل في تدخل الولايات المتحدة للضغط على الدول الإقليمية المؤثرة في الوضع اللبناني لإنهاء حالة الفوضى السياسية في الحال.
حتى محاولات التوافق على المرشح سليمان فرنجية بين تيار المستقبل وغيره، لم تكلل بالنجاح، رغم موافقة طرف السعودية، التي تغاضت عن ميول فرنجية الأسدية في القضية السورية، إلا أن الجناحات الأخرى المؤثرة في قوى الـ 8 من آذار تمسكت بموقفها للنهاية.
وكذلك كانت نتيجة محاولات الوفود المختلفة التي تعاقبت على لبنان من جهات دولية وإقليمية كثيرة، لمحاولة حلحلة الوضع القائم، إلا أنها باءت جميعها بالفشل.
وهو ما أكده رئيس الحكومة اللبنانية تمام سلام مؤخرًا، أن أزمة الفراغ الرئاسي في لبنان لم تجد حلًا عمليًا بعد، على الرغم من كثرة الأطروحات والمقاربات بشأنها داخل لبنان وخارجه.
المستقبل الغامض بيد خصوم المنطقة
لا تخفي المصادر المختلفة أنه لا حلول للأزمة الرئاسية اللبنانية في المدى المنظور، إلا إذا طرأ ما يقلب المعطيات المتحكمة بالمشهد الإقليمي، حتى الزيارات الخارجية التي قصدت لبنان على مدار عامين في محاولة لحل الأزمة، واستمعت إلى ما لدى المسؤولين والقادة السياسيين من أفكار ومخارج للأزمة الحالية، أكدوا بأنهم لم يسمعوا أجوبة مقنعة حول سؤالهم عن أسباب التعطيل والشلل وخلفيات النزاع السياسي الذي تسبب بالفراغ الرئاسي منذ أكثر من عامين.
يحمل طرف حزب الله المسؤولية عن تعطيل الانتخابات الرئاسية بزعم أن الحزب يأخذ تعليماته من طهران بأن يبقى الوضع كما هو عليه لأطول فترة ممكنة
ويتوقع من هذه الحالة أن تستمر مرحلة الانتظار، التي قد تكون طويلة قبل جلاء المشهد الإقليمي ورسم التوازنات والفرز السياسي والديموغرافي، أما على الصعيد اللبناني فسيبقى المشهد دائرًا فيما يُعرف بفلك “الستاتيكو” القائم، والذي يعني الحفاظ على الاستقرار الأمني والسياسي قدر المستطاع إلى حين تفرز له الدول الكبرى والأطراف الإقليمية حيزًا أكبر للاهتمام ومعالجة أزماته، في ظل سطوة القضية السورية حاليًا.