ربما بعد أن قرأت العنوان تعجبت وقلت كيف يستقيم لإنسان أن يفر من نعيم، وهل حقًا هناك ما يسمى نعيم في ظل جماعة اشتهرت بقتلها لتطلعات أفرادها وبفرضها نسق منغلق على الذات، منعزل عن المجتمع، يمارس دور معارض صوري لإكمال الواجهة المراد تصديرها للمجتمع الدولي، وحينما قرر أن يتخطاه أعادته الدولة إلى موقعه مع تغريمة فاتورة باهظة الثمن من دماء وأفراد وأموال.
دعونا نعود إلى موضوعنا، ما هو نعيم الجماعة ولماذا يفر منها الكثيرون؟
أجل، للجماعة نعيم فما هو؟ بحكم أن الجماعة تنظيم سياسي بدرجة كبيرة، فيجري عليها ما يجري على سائر التنظيمات فمن نعيم التنظيمات أنها تكون حاضنة ممتازة في عدة جوانب أهمها الجانب العاطفي، فوجودك في مجتمع إنساني يحمل أفرادة نفس الطبائع والعادات وربما أنماط التفكير يشعرك بحالة من الراحة والصفاء النفسي، فأنت لا تحتاج لكثير من الجهد لتصل إلى حالة التواصل البنّاء مع أفراد هذا المجتمع، كما أنك لا تجد عائقًا في تقبل الآراء الأخرى، فهي تدور في نفس الفضاء المفاهيمي الذي كنت قد تقبلته مسبقًا.
أما الجانب الآخر فالكثير يعده من مساوئ التنظيمات ولكنني أراه على وجهين، إنه انغلاق نسق التنظيم، فهو على وجه يمنع الفرد من التطور ويجعل نظرته للمجتمع المحيط قاصرة على رؤية التنظيم فهو يرى أنه صاحب الحق الوحيد والمطلق وما سواه باطل أو مخطئ على أقل تقدير، وأما الوجه الآخر فهو أن التنظيم يوفر للفرد تصورات جاهزة للمجتمع والنظام الحاكم مما يوفر عليه الكثير من العناء وإرهاق الذات في البحث عن نموذج لتفسير تلك الظواهر.
أما عن لماذا يفر البعض من هذا النعيم فهو أمر يعود لعدة عوامل أهمها في وجهة نظري هو استفاقة الفرد على صدمة استحالة تحقيق اليوتوبيا الأرضية التي يسوق لها التنظيم، فهو يجد نفسه على مدى يزيد عن الثمانين عامًا لم يخط أي خطوة إيجابية في سبيل تحقيق الحُلم المنشود بأستاذية العالم، فلا هو حقق فرد مسلم وإن اقترب من تحقيقه، ولم يحقق مجتمع مسلم ولا استطاع تكوين حتى تصورات لهذا المجتمع وعلاقته مع المجتمعات الأخرى سواء كانت معادية أو مسالمة، فما بالك بالخطوات التالية التي تُعد أكثر صعوبة وخطورة وأقوى مقارنة بالتحديات التي ستجلبها.
أما ثانيها فهي الممارسات السياسية الخاطئة التي قامت بها الجماعة والتي كانت لا تناسب ما يتوقعه الأفراد، فمنذ بداية الثورة وما تلاها من أحداث على الأقل كانت الجماعة تمثل رد الفعل الباحث حثيثًا عن التوافق مع الدولة العميقة والمتعامل ببراجماتية منقطعة النظير، مع عدم توقع للمستقبل وإدراك ما يحاك للثورة من مؤامرات والتعامل مع كل المحطات الانتخابية بعقلية من يتشاجر في حانة ليفوز ببعض النبيذ.
أما الثالث فيعود إلى الشخص ذاته، فبعضهم لا يملك طاقة وجهد ليخوض معارك طواحين الهواء التي تفرض عليه الجماعة أن يخوضها مع التزام أسلوبها في الحركة والمعركة عليه.
ومن العوامل المؤثرة على الفرد وبشدة هو وجود نماذج على الساحة مثل الدولة الإسلامية “داعش” تبنت آليات في المواجة واستطاعت في فترة قصيرة الوصول إلى انتصارات وتحقيق سيطرة على مساحات كبيرة من الأرض وفي خطوط المواجهة مع امتلاكها لآلة تسويقية وإعلامية جبارة قد تجعلك تغض الطرف عن الأخطاء الجسيمة التي قد تقع فيها تلك التنظيمات.
في النهاية يكون الفرد في صراع داخلي مع ذاته فإما أن يفر وينجو من هلكة التنظيم مع تضييع مميزاته، وإما أن يستمر ويدفع ضريبة البقاء في تنظيم مُقطعه أوصاله مهترئة تصوراته مع تحمل فاتورة أعبائه الباهظة.