من الطبيعي أن أي اقتصاد قائم على الدعم يتلقى انتكاسات متتابعة ويعاني من الاستمرار فيها، في ظل الاعتماد على إيرادات متأتية من الريع جراء بيع سلعة ناضبة كالنفط والغاز والموارد الطبيعية الأخرى في تمويل الميزانية، مع توقع استمرار بقاء سعر برميل النفط دون الـ 55 دولارًا على المدى المنظور، في الوقت الذي لا تحظى القطاعات الإنتاجية المختلفة بأي اهتمام والتي كانت لترفد الوعاء الضريبي للحكومة بالأموال اللازمة لتغطية نفقات الحكومة من رواتب وبدلات وحوافز وإعانات ودعم للسلع والخدمات الأساسية والنفقات الأخرى.
هذا الكلام ينطبق على السعودية، وهي تبعًا للظروف الحالية عاشت مرحلة مزدهرة في الأعوام الماضية، ولكن ما دام المال كان موجودًا بوفرة بعد ارتفاع أسعار النفط، فلماذا لم يتم استثماره في السنوات الماضية في الإنفاق على قطاعات الإنتاج المختلفة! فهذا الإجراء كان كفيلاً أن يحمي الاقتصاد السعودي من هبوط الأسعار أو من الارتهان للأسواق العالمية، ولو لم تلغ الأثر قلل منه على الأقل.
والسبب هو عدم وجود سياسة إنفاق رشيدة في السعودية تبنتها الحكومة خلال السنوات الماضية، وما زاد الطينة بلة، في مقابل عدم الاهتمام بتنويع إيرادات الميزانية من صناعة وسياحة وزراعة وتوعية المواطن على العمل وعدم التبذير في الموارد، فإن الحكومة راحت ترفع بالرواتب وتعطي البدلات والمكافآت وتدعم السلع والخدمات إلى أبعد حد ممكن، وتنفق على الشركات المحلية للقيام بمشاريع خدمية، وفي كل سنة ترتفع فاتورة التزاماتها المالية تجاه المواطن والشركات وغيرها وبقيت على هذه الحال دون الالتفات للتحذيرات ومآلات تلك الإجراءات، حتى بدأت أسعار النفط بالهبوط، ومن ثم أقحمت نفسها في صراعات طويلة مثل الحرب في اليمن ودعم الثوار في سوريا ودعم حكومة السيسي في مصر فتكلفت تكاليف مالية عالية أضيفت إلى الالتزامات المالية تجاه الشعب والشركات، لذا انتهت مرحلة الرخاء وبدأ الاقتصاد السعودي يعيش مرحلة أخرى وهي مرحلة إعادة التوازن.
ترشيد الإنفاق وإلغاء الدعم وتخفيض الرواتب
تعيش السعودية عنوان مرحلة جديدة منذ هبوط أسعار النفط في منتصف العام 2014 حيث تضررت اقتصاديات كثيرة عربية وأجنبية وبدأت كل حكومة تلملم أضرارها وتحاول إعادة التوازن لاقتصادياتها من خلال القيام بإجراءات عديدة مختلفة، والسعودية من بين تلك الدول، حيث سجلت عجزًا ماليًا بلغ مستوى قياسي بالنسبة لها وصل إلى حدود 98 مليار دولار في العام المالي الماضي، والعجز المالي هو عدم قدرة الميزانية المالية على الإيفاء بكل بنود الإنفاق في الميزانية ما تضطر للاقتراض أو السحب من الاحتياطي أو بيع أصول مالية لها مع بدء مرحلة أخرى لمعالجة ذلك العجز، وقد افتتحت هذه المرحلة في السعودية بحملة لتخفيض الإنفاق طالت الكثير من الأمور.
تستحوذ رواتب موظفي القطاع الحكومي على 50% من ميزانية الدولة بينما تعادل البدلات التي يحصلون عليها 30% من دخل المواطنين العاملين بالقطاع الحكومي
وقد أصدر الملك سلمان في السعودية أمس الإثنين عددًا من الأوامر الملكية بتقليص الرواتب والمزايا المخصصة للوزراء وأعضاء مجلس الشورى، فضلاً عن خفض المكافآت للعاملين في القطاع الحكومي.
تعتمد السعودية على إيرادات النفط لتمويل الموازنة بنسبة 80% تقريبًا
حيث نصت الأوامر الملكية على تخفيض راتب الوزير ومن في مرتبته بنسبة 20% وتخفيض مكافأة عضو مجلس الشورى بنسبة 15% وخفض الإعانة السنوية التي تصرف لكل عضو من أعضاء مجلس الشورى لأغراض السكن والتأثيث بنسبة 15% وخفض المبلغ المقطوع الذي يصرف لعضو مجلس الشورى بنسبة 15% والذي يشمل قيمة السيارة التي تؤمن للعضو وما تتطلبه من قيادة وصيانة ومحروقات خلال فترة العضوية المحددة بأربع سنوات، كما أمر الملك أيضًا بإيقاف تأمين السيارات لكبار مسؤولي الدولة وتحميل الوزير أو من في مرتبته المستحقات المترتبة على تأمين الهواتف الثابتة والمتنقلة المخصصة له من الدولة اعتبارًا من مطلع الشهر المقبل.
كما أقر مجلس الوزراء السعودي أيضًا عدم منح العلاوة السنوية في العام الهجري الجديد وإلغاء عدد من البدلات وإيقاف العمل بعدد آخر مع استثناءات لبعض القطع لعسكرية، وبموجب هذا القرار سيتم إيقاف بدلات طبيعة العمل والعدوى والضرر وبدلات الخطر ومكافأة التفوق للموظف المتفوق في الدورات التدريبية بالداخل وبدل المظهر في الوظائف الدبلوماسية وبدل الإجازة السنوية وبدلات أخرى تابعة للعديد من المؤسسات والمديريات في الدولة.
الأرقام الرسمية تشير أن رواتب موظفي القطاع الحكومي تستحوذ على 50% من ميزانية الدولة بينما تعادل البدلات التي يحصلون عليها 30% من دخل المواطنين العاملين بالقطاع الحكومي.
وبدون الخوض في الانتفاخ الوظيفي الموجود في السعودية وما الحاجة لعدد كبير من الموظفين في غياب الإنتاج، فإننا نكتفي بالقول أن “بند الرواتب والأجور يعتبر أكثر البنود تضخمًا في الموازنة السعودية، ويستأثر على الجزء الأكبر من الإنفاق الحكومي” بحسب أحد الخبراء السعوديين وبمعنى آخر فإن الموظف الحكومي في السعودية من الوزير إلى النائب في المجلس والمدير وحتى أصغر الموظفين في دوائر الدولة ومديرياتها ومرافقها، كان يعيش حياة مرفهة ومدللة حسب منصبه بفضل الراتب المرتفع طردًا بعد كل سنة في الخدمة والعلاوات والمكافآت والبدلات والابتعاث للخارج وحتى السفر يكون على درجة رجال الأعمال، غير نفقات السكن والسيارة والبترول والهاتف وإلى آخره، وأحيانًا دفع القروض المتعثرة لدى الموظف.
رسوم جديدة بانتظار المواطن
سترفع وزارة المالية السعودية بداية الشهر المقبل الدعم عن سبع خدمات حكومية كانت تتحمل 50% من قيمتها بالإضافة إلى بدء تطبيق الرسوم الجديدة ورفع تأشيرات الدخول، حيث توقع خبراء أن تضيف فرض الرسوم الجديدة 12 مليار دولار فيما سيضيف رفع الدعم عن بعض السلع والخدمات 38 مليار دولار لإيرادات الدولة.
وقد سبق صدور قرار مجلس الوزراء في ديسمبر/ كانون الأول 2013 يقضي أن تتحمل الدولة لمدة 3 سنوات 50% من بعض الروسم تتمثل في الموانئ وجوازات السفر ورخص السير ونقل ملكية السيارات والمخالفات المرورية وتجديد رخص الإقامة للعمالة المنزلية والحماية الجمركية لـ 193 سلعة.
السعودية تصدر سنويًا أكثر من 14 مليون تأشيرة متنوعة
فمن ضمن خطة تعزيز الإيرادات تقرر رفع التأشيرات والمخالفات المرورية حيث رفع رسم تأشيرة الدخول للسعودية لتصبح نحو 2133 دولارًا لتأشيرة الدخول المتعدد و1326 دولارًا للتأشيرة التي مدتها سنة و796 دولارًا لتأشيرة الستة أشهر، أما الدخول لمرة واحدة فتم رفع تكلفتها إلى 530 دولارًا فيما تتحمل الدولة هذا الرسم عن القادم للمرة الأولى لأداء الحج والعمرة.
الجدير بالذكر أن السعودية تصدر سنويًا أكثرمن 14 مليون تأشيرة منها مليوني تأشيرة عمل جديدة ونفس الرقم للعمالة المنزلية التي تقدر رسومها نحو ملياري دولار سنويًا، بينما تتوزع التأشيرات الأخرى على زيارات الخروج والعودة والحج والعمرة وتأشيرة المستثمر الأجنبي.
الأمير محمد بن سلمان أعلن رؤية المملكة 2030 التي تشمل التخلص من الإدمان على النفط
ليست السعودية وحدها التي مرت بهذه المرحلة، فدول متقدمة مرت بمثلها في السنوات الماضية، والخروج من عنق الأزمة لا يعتبر مستحيلاً إذ يتطلب تكاتف الشعب مع الحكومة وتقبل أي تخفيض أو رفع للدعم وخفض في الإنفاق، بينما يكون على كاهل الحكومة الحمل الأكبر في تنويع إيراداتها المالية.
والتنويع لا يكون فقط من خلال رفع الدعم أو زيادة تأشيرات الدخول بل من خلال التحول إلى اقتصاد منتج وتدريب الكفاءات الوطنية لاستلام المناصب الموكلة للأجانب وتغيير ثقافة العمل لدى المواطن ليتقبل العمل في الاختصاصات المختلفة.
صحيح أن هذه المرحلة تتطلب التخطيط الصحيح والمتقن ووضوح الرؤية التي تتجه الحكومة نحوها في المستقبل إلا أن الأهم من التخطيط هو تنفيذ المخطط، فوضع الخطة سهل ولكن تنفيذها صعب، فالقول بالتخلص من إدمان النفط في دولة كالسعودية اعتادت خلال العقود الماضية على تمويل الموازنة من إيرادات النفط أمرًا ليس سهلًا لا من قبل الحكومة ولا من قبل الشعب الذي تعود على الركون والإنفاق.
هذه المرحلة تعد فاصلة ولا مجال للتهاون أو الخطأ فيها، فإما أن ينتصر الشعب والحكومة على الأزمة بلا رجعة، وإلا تبدأ المرحلة الثالثة في علاج الأزمة وهي أشد خطرًا من الثانية حيث تشهد بيع أصول وشركات حكومية وخصخصتها بالكامل للتخلص من عبئها، السحب من الاحتياطي بشكل كبير، فرض رسوم جديدة على كل شيء تقريبًا، ورفع الدعم بشكل كبير عن السلع والخدمات، وخفض الإنفاق العام على المشاريع الحكومية، واقتراض الأموال من المؤسسات الدولية.
التنويع لا يكون فقط من خلال رفع الدعم وفرض الضرائب وزيادة الرسوم بل من خلال التحول إلى اقتصاد منتج
إذا دخلت السعودية في هذه المرحلة فإن ما سينقذ اقتصادها هو عودة ارتفاع أسعار النفط إلى سابق عهدها لتنتعش الميزانية من جديد، وهذا ممكن الحدوث فالأسعار تتقلب كثيرًا وهي رهن سياسات دولية وأزمات عالمية وكوارث طبيعية وحروب ونضوب آبار وأمور أخرى، وفي المقابل فإن التطور المستمر والتكنولوجيا المتقدمة قد يدفن مرحلة النفط والتحول إلى الغاز النظيف والطاقة المتجددة. وإذا لم تحسن إدارة هذه لمرحلة فإنها ستدخل في دوامة القروض والدين وبالتالي تدخل الدول الأجنبية فيها وأمور قد لا يحمد عقباها أبدًا.
لذا لا بد من تغيير الهيكلية التي تعمل بها السعودية والتي تعتمد على النفط بشكل كبير، وهو أمر صعب ولا يتم بين ليلة وضحاها ويحتاج إلى استقرار وثقة في الاقتصاد وموارد بشرية فاعلة تبني وتسد انكشاف الاقتصاد على الخارج في كثير من المجالات، وهو ما لم يتوفر في السعودية حتى الآن على الأقل.