“كان يكفي إزاحة المنديل عن وجهه كي يلحظوا أنه يشعر بالخجل، وأنه غير مذنب لكونه على تلك الضخامة، وذلك الثقل وتلك الوسامة، وأنه لو كان يعرف أن ذلك سوف يحدث لبحث عن مكان أكثر عزلة ليغرق فيه”.
في عام 1972، نشر الأديب العالمي، وأحد روّاد الواقعية السحرية، جابرييل جارسيا ماركيز، مجموعته القصصية الثالثة: “القصة العجيبة والحزينة لإيرنديرا الساذجة، وجدتها القاسية”، والتي تحتوي على 8 قصص كُتبت في الفترة من عام 1961، وحتى الفترة 1972، والتي كانت قصصها تتميز بالتعمق داخل النفس البشرية، والإبحار عميقًا جدًا نحو الأحاسيس الإنسانية المختلفة، بداية من الجنون ومرورًا بالجشع والشره، والقسوة وغياب الفطنة، وانتهاءً بالإجلال والتعظيم، ولعل بعض قصص هذه المجموعة كانت بشائر لثمار الواقعية السحرية التي أتت أُكلها بعد حين، وتباشير “للعزلة” الماركيزية التي خلبت عقول وألباب القراء حول العالم فيما بعد.
أجمل غريق في العالم
“إستيبان: أجمل غريق في العالم”
في القصة الثالثة في هذه المجموعة القصصية والتي كُتبت عام 1968، كتب ماركيز عن “أجمل غريق في العالم/ El ahogado mas hermoso del mundo”، حيث عزف الأديب العالمي على وتر أثر الجمال على النفوس رقيقة الحال، التي تعاني من ضيق الحال وبؤس المآل، وتسكن القرى الجدباء الفقيرة.
فذات يوم، استيقظ أهل القرية التي تطل على البحر، على رابية داكنة لا ترفع أعلامًا وليس لها صوار، قد رست على شواطئهم، وما إن اقتربوا حتى ظن الأطفال أنها جثة حوت، لفظها البحر، لكن المُفجِع والمذهل، كان عندما اقتربوا أكثر، ليكتشفوا أنها جثة كائن بشري مغطى بالطحالب والطين.
وبينما ذهب الرجال ليتحققوا عما إذا كان أحد قد اختفى من القرى المجاورة، فهذا الغريق ميت غريب عن قريتهم، اكتشفت – نساء القرية بعدما أزلن عنه الوحل وكشطن ما التصق به من قشور الأسماك – أن الغريق كان يحمل الموت بكبرياء، فمظهره ليس متوحدًا مثلما هي ملامح غرقى البحار الآخرين، وليس له قبح القذارة البائسة للغرقى النهريين!
الغريق الجميل الضخم البنية، ألهب خيال النساء في البداية، حتى إنهن ظنن أن وجوده في أي بلد كفيل بتحقيق رغد العيش ونشر الرخاء، لأن سطوته القوية كانت ستمنحه القدرة على إخراج السمك من البحار بمجرد أن يناديها، وأن هامته العظيمة، ستشق الينابيع في قلب الصخور القاسية، وتزرع يديه الكبيرة، النباتات في الجروب البحرية، لكن الحزن الشفيف خيم على قلوبهن، حينما أدركن أنه لا بد وأن عاش محكومًا بالمرور مجانبة عبر الأبواب، وأنه ظل واقفًا في كل زيارة قام بها، لئلا يعاني من حرج تكسر المقاعد تحته، فتعلقن به وغطين وجهه الذي يشع حسنًا وأسمينَهُ “استيبان”، بعدما رأينه ميتًا للأبد، وأعزل تمامًا، وشديد الشبه برجالهن.
مراكب الموت وجماعات الـ Zombies
أحدى مراكب الهجرة غير الشرعية لأوروبا
منذ ما يزيد عن عام، ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بصورة الطفل السوري الجميل “إيلان” وهو مسجى كملاك برئ أمام أحد السواحل التركية، إثر انقلاب قارب كان يقله وأبويه وأخيه، وسوريين آخرين إلى جزيرة كوس اليونانية، هربًا من موت محقق داخل سوريا، إلى موت محتمل قبالة الشواطئ الأوروبية.
وقتئذ وبرغم كم التعليقات الوضيعة التي تداولها مؤيدو النظام الحاكم في مصر، ووصفهم لـ “إيلان” بأنه “طفل فقد جيشه”، بينما يرفل الأطفال المصريين في نعيم حماية الجيش لهم، بدا لي أن “إيلان” هو “أجمل غريق في العالم”.
لكن مراكب الموت لم تتوقف بعد غرق “إيلان”، وواصلت عملها بدأب وهمة، بل امتلأت على آخرها بمصريين، يأملون في الهرب من موت محتمل – بفعل الفقر والمرض – إلى موت أقل احتمالاً على شواطئ أوروبا، حتى جاءت #مركب_رشيد، لتفجع من عض بنواجذه على بعض من إنسانيته، وهو يرى الشهداء، نائمين بلا حول أو قوة، داخل أكياس بلاستيكية سوداء، يعلوها قطع كبيرة من الثلج، تحت الشمس اللاهبة.
ليخرج أهل “رشيد” عن بكرة أبيهم، لانتشال جثامين الغرقى، محاولين التعرف عليهم، وحصد ما طرحه البحر.
لكن أهل رشيد، لم يكونوا الوحيدين الذين خرجوا، فجماعة الأحياء الأموات/ zombies، وما أكثرهم في بلادنا، خرجوا من توابيتِهم العفنة، وبدأوا نشازهم في جوقة واحدة، لا تنفك تلوم وتسبّ وتعلن الشماتة، فيمن حاول الهرب من جحيم الفقر وضيق ذات اليد والدفن بالحياة.
هناك قرية “إستيبان”
قرية إستيبان
وعلى العكس تمامًا، كان أهل قرية “غريق” ماركيز، الذين أعدوا أكبر جنازة يمكن تخيلها لغريقٍ دون هوية، ففي اللحظات الأخيرة تألّم سكانُ القرية من فكرة إرسال الغريق إلى البحر مثل اليتيم، فاختاروا له أمًا وأبًا من أخيارهم، وسرعان ما أعلن آخرون أنهم أخوته، وآخرون أنهم أعمامه، حتى تحول كل سكّان القرية إلى أقاربه.
وبينما كان الناس يتنافسون في نقل الجسد الضخم فوق أكتافهم عبر المنحدر غير المعبّد، المؤدّي إلى الجرف، لاحظ سكان القرية ضيق شوارعهم وجفاف أرضهم ودناءة أفكارهم مقارنة بجمالِ “استيبان”.
وقرر الرجال قبل قذفه في الماء، ألا يربطوا جسده إلى ثقل، لكي يعود إليهم كيفما يشاء، وفي تلك اللحظة التي نزل فيها “إستيبان” إلى الأعماق، حبسوا أنفاسهم، وأحسوا أنهم فقدوا أحد سكّان قريتهم، وأدركوا حينها، أن العديد من الأشياء لا بد وأن تتغير في قريتهم، كي يليقوا بجمال “غريقهم”.
ومنذ ذلك اليوم، قرر سكّان القرية دهن بيوتهم بألوان زاهية احترامًا لذكراه، واتفقوا على أن ينهكوا ظهورهم في حفر الآبار، وفي زرع الورود، كي يستيقظ بحارةُ السفنِ المارةِ في فجرِ السنواتِ القادمة على رائحة الحدائق، ولكي يضطر القبطان للنزول من أعلى السفينةِ حاملاً اسطرلابه ونجمتَه القطبية ويقول مشيرًا إلى الجبلِ الذي ينشر زهورَه الورديةَ نحو الأفق وفي كلّ لغاتِ العالم: “انظروا إلى هناك حيث هدوء الريح وحيث ضوء الشمس، هناك قرية إستيبان!”.
لكن ماركيز، لا يعلم ولن يعلم أبدًا، أن أجمل غريق في العالم، ليس غريقه، بل هو واحد من هؤلاء المهاجرين المثقلين بالفقر والديّن، الذين غرقوا أمام شواطئ ظنوا أنها تحمل لهم طوق نجاة.