“الخدعة هنا مزدوجة، قبل كل شئ، يعطى البرنامج إحساسا للمشاهدين أن هناك حدث ما يحدث، حدث حقيقي، ليس فقط مجرد ثرثرة، بل هناك أخيرا حدث، وهذا ما يعطي للبرنامج كل تلك الشعبية، ثانيا: يتم دفع الجماهير إلى الاعتقاد أنهم يلعبون دورا ما في السلطة الفعلية، أنه مسموح لهم بالمشاركة فيها، ولأن هذه الأحداث تحديدا تقع ضمن ما يهتمون به فعلا، أي الجرائم. رجل العصابات الذي سنقبض عليه اليوم لن يقلقنا غدا”
في سنة ١٩٦٨، كتبت ماري ماينهوف (وهي صحفية يسارية ألمانية ساهمت في تأسيس منظمة الجيش الأحمر) عن برنامج تليفزيوني ألماني اسمه “الملف المجهول” يطلب من المواطنين الألمان أن يكونوا جزءا من عملية البحث عن المجرمين الهاربين والمطلوبين لدى الشرطة.
كانت ماينهوف ترى في ذلك البرنامج أنه مجرد عملية خداع كبرى لإيهام الجماهير أنهم جزء من السلطة الحاكمة وأنهم الآن يمتلكون القدرة على أن يغضبوا، وأن يضربوا الطاولة بعنف.
هذا بالتحديد هو ما يحدث في مصر هذه الأيام!
حالة من الهيستيريا تجتاح القطر المصري من أقصاه إلى أقصاه، الهيستيريا لم تبدأ منذ الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو/ تموز الماضي، لكنها اندلعت منذ الأشهر الأولى بعد الإطاحة بمبارك من رأس السلطة في مصر. الهيستيريا التي بدأت بحملة من التشويه المتعمد لثوار يناير والتي قادها إعلامي مغمور حينها يُدعى توفيق عكاشة على قناة ضعيفة المشاهدة اسمها الفراعين، لم يُتخذ حيالها أي موقف من حكام مصر سواء كانوا من العسكر أو من الدكتور محمد مرسي الذي تسلم منهم السلطة قبل أن ينتزعوها منه مرة أخرى بعد عام.
لكن الهيستيريا بلغت ذروتها بعد الانقلاب العسكري والإطاحة بمرسي. كان بإمكانك أن تضحك ملء فيك قبل أشهر إن أخبرك أحد ما أن هناك لاعب كرة سيُمنع من اللعب لسنتين بعد أن أشار بقبضته بعلامة ما، لا يُجرمها القانون ولا تحمل أي معنى مسيء. وقطعا لم يكن بإمكانك التصديق أن طفلة في العاشرة من عمرها ستُحال إلى القضاء بتهمة رسم يد تشير بأربع أصابع على كراسة محاضراتها، أو أن طفلا في الخامسة عشرة أو حواليها سيُسجن مع أبيه لأسابيع بعد أن حمل مسطرة عليها ذات الشعار.
هذا ليس كل شيء، لقد أفردت الصحف المصرية صفحات للحديث عن بطة “جاسوسة” اصطادها مواطن وأبلغ عنها المخابرات الحربية التي سارعت بالقبض عليها وأودعتها السجن، وعن الطالب الذي كرمته المدرسة التي يدرس بها بعد أن صمم شعارا يظهر يدا بثلاث أصابع يمثل شيئا ما. ولم ينته الأمر بالحديث عن قيام شاب جامعي متعلم من مدينة جنوب القاهرة بتغيير اسمه ليحاكي اسم الضابط الذي نفذ الانقلاب العسكري، الذي تبعه قتل المئات في أكبر عملية قتل جماعي تشهدها البلاد في تاريخها.
هناك العديد من الأخبار الهيستيرية من هذا النوع، والمشتركات بين تلك الأخبار كثيرة، لكن أبرز مشترك بينها هو أن المواطن المصري ظهر في المشهد هذه المرة، المواطن الذي كما تقول ماينهوف أنه يعتقد أنه في السلطة، يقدم البلاغات، ويعتقل الأشخاص، ويهدد بالقتل، أو يقتل بالفعل!
أوضح مثال على إشعار المواطن أنه في السلطة وأن سقوطها يمثل خطرا حقيقيا عليه هو التفويض الذي طلبه وزير الدفاع المصري، لقد دعا السيسي المصريين للنزول لدعم قراره بقتل الناس، ونزلوا بالفعل! صاروا مشاركين بالفعل في عملية القتل حتى لو لم يحملوا سلاحا! وباتوا يعتقدون أن سقوط النظام يعني سقوطهم!
ومع المزيد من الدماء، زادت الهيستيريا أكتر، القنوات الفضائية في مصر، وبعد إعلان الإخوان جماعة إرهابية بشكل هزلي، قامت بعرض أرقام هواتف الأجهزة الأمنية للإبلاغ عن كل عضو يُشتبه في كونه من الإخوان، شارك الناس أيضا هذه المرة في الإبلاغ عن أصدقائهم أو عن معارفهم.
هذه فقط البداية، ففي خلال الأيام الماضية قام شخص سيء السمعة يقدم برنامجا على قناة فضائحية معروفة، قام بنشر تسجيلات لمكالمات هاتفية، وظهر في كل حلقاته موجها كلماته للجمهور بأساليب مثل “ها .. ما رأيكم؟ ماذا سنفعل حيال ذلك؟”
https://www.youtube.com/watch?v=hlw0q6oLuts
التسجيلات التي حصل عليها عبدالرحيم علي من أجهزة أمنية مصرية، لا يمكن أن تتم بدون علم شركات الاتصالات، وبمجرد أن أعلن النشطاء والمتضررين من نشر التسجيلات عن إطلاق حملة لمقاضاة تلك الشركات لموقفها غير الأخلاقي الذي برز في السماح للأجهزة الأمنية بمراقبة اتصالات النشطاء وتسجيلها ثم إذاعة تلك التسجيلات على وسائط إعلامية. بمجرد أن أعلن النشطاء عن تلك الحملة ظهرت حملة أخرى كوميدية في ظاهرها إلا أنها شديدة التراجيدية في معناها وفي التأثير الذي تركته وفي طبيعتها.
فقد قام شاب ممن قادوا حملة التشويه منذ بدايتها اسمه أحمد وأطلق على نفسه اسم سبايدر (العنكبوت، ويبدو أنه استلهم الاسم من شخصية الرجل العنكبوت، هذا الاسم يخبرك الكثير عن مستوى النمو العقلي لهذا الشخص) بإطلاق حملة مضادة ضد شركة فودافون للاتصالات، متهما إياها ببث رسائل مبطنة لجماعة الإخوان المسلمين الإرهابية عبر إعلاناتها التي ظهرت فيها شخصية كارتونية (عروس ماريونيت) اسمها أبلة فاهيتا
https://www.youtube.com/watch?v=k3kE6Ze6nqo
#من_وحي_التحقيق pic.twitter.com/AKoiuuzdUh
— ابلة فاهيتا (@AblaFahita) January 1, 2014
هجوم سبايدر صار حديث الساعة في مصر، وتقوم نيابة أمن الدولة العليا بالتحقيق في بلاغه الذي تقدم به للنائب العام الذي اهتم بالموضوع شخصيا!
https://www.youtube.com/watch?v=xbs0NB1Hads
مجلة الإيكونوميست البريطانية أسمت ما يحدث “موسم السخافة في مصر”، إلا أن الأمر يبدو أخطر من ذلك كثيرا! فالهيستيريا التي تجتاح مصر، وحالة الخوف المرضي، والربط بين المواطنين والسلطة في وقت يعمل فيه الكثير من المصريين على إسقاط تلك السلطة لن يؤدي إلى إسقاط السلطة فحسب، لكنه سيؤدي قطعا لحالة من الصراع الأهلي، لن تكون مضحكة أبدا كتلك القضايا التي يتم التحقيق فيها.