بعد أسابيع قليلة من تمكن المجتمع الدولي من فرض واقع حكومة الوفاق على الداخل الليبي، وأيدتها الولايات المتحدة بضربات موجعة لتنظيم داعش الإرهابي والجماعات المسلحة بالبلاد، تخطت الخمسين ضربة في سرت، عادت قوات الجيش الليبي بقيادة اللواء خليفة حفتر لتهيمن على الهلال النفطي بالبلاد بالإضافة إلى مواني التصدير، واستئناف تصدير النفط من ميناء رأس لانوف في الشرق عبر ناقلة محملة بالنفط إلى إيطاليا، وهي أول شحنة يجري تصديرها من هذا الميناء منذ المعارك التي شهدتها منطقة الهلال النفطي في نهاية 2014 بين جماعات ليبية متنازعة، ليضع المجتمع الدولي خصوصًا الحكومات الغربية والأوروبية بالأخص في مأزق بين القبول بالأمر الواقع، من هيمنة قوات حفتر مقابل استمرار ضخ النفط، أو اللجوء للحل العسكري الذي يراه كثيرون سيقوي شوكة داعش بالبلاد من جديد، وخلفها الجماعات المسلحة الكثيرة المنتشرة بليبيا.
أزمة الهلال النفطي
الأزمة بدأت حينما حاولت قوات حرس المنشآت النفطية المؤيدة لحكومة الوفاق الوطني مطلع الأسبوع الجاري انتزاع ما فقدته من مواني “رأس لانوف والسدر والبريقة”، على يد قوات خليفة حفتر الذي قرر أن يقلب الطاولة فجأة ،إلا أنها فشلت في ذلك، بل سنحت الفرصة لجنود حفتر بالسيطرة على كامل الهلال النفطي عصب الاقتصاد الليبي ومركز اهتمام الغرب.
الأخطر في الأمر أن دعوة المجتمع الدولي الذي طارد جيش حفتر بالانتقادات اللاذعة، بالانسحاب الفوري من المواني التي سيطر عليها، أصبحت في موقف أصعب بعد مقابلة حفتر الدعوة بمزيد من السيطرة، ولم يجد المجتمع الدولي أمامه سوى الرضوخ لحفتر؛ حرصًا على تدفق البترول أو جعله جزءًا من أي معادلة سياسية قادمة في ليبيا، خصوصًا وأن حقول النفط تعد إحدى أهم بؤر الصراع بين الفصائل المتنازعة في ليبيا منذ الإطاحة بمعمر القذافي في 2011، وهو مصدر الدخل الذي مثّل قبل اندلاع الثورة الليبية 95% من عائدات الصادرات الليبية.
براجماتية الغرب
برؤى المراقبين فإن ما سيحكم طريقة تعامل الغرب مع حفتر خلال الفترة المقبلة هو التطورات على الأرض، لكن الأقرب للواقع هو عدم التسليم له، لأن الغرب منقسم على نفسه، وربما ترحب فرنسا بقبول حفتر، لكن بقية الدول ستحتج وعلى رأسها أمريكا، التي تخشى النفوذ المتصاعد لحفتر، لأن وضعه قوي في ليبيا كونه يسطر الآن على الآبار والمواني معًا، ما يزيد قوته، ولأنه يحظى بدعم كبير من مصر، ما يعني أن الحل العسكري وليس السياسي بات مطروحًا وبقوة.
ما يدعم تصور الحل العسكري هو أن ميزان القوى في ليبيا لم يحسم بعد، وبالتالي الغرب لم ولن يحدد في الوقت الحالي على من يراهن، خصوصًا وأن قوات حفتر فشلت مسبقًا في معارك عديدة، مع الوضع في الاعتبار أنه استطاع مؤخرًا أن يعيد ترتيب صفوف قواته، وتلقى دعمًا من عدة دول عربية وإقليمية ليقف على قدميه من جديد، حتى إن نبرته في التعاطي مع الغرب تغيرت، بعد سيطرته الكاملة على الهلال النفطي، وتحولت من مهادنة الغرب بالتنويه بأنه لم يدخل معركة المواني النفطية ضد حكومة الوفاق لمكسب سياسي، ولكن من أجل تأمين ثروة الليبيين من جماعات الإرهاب المنتشرة بالبلاد، إلى الهجوم على المبعوث الأممي إلى ليبيا مارتن كوبلر، ووصفه بأنه “يحشر أنفه في قضايا حساسة لا علاقة لمهمته بها”، وهنا سيتوقف الأمر على قدرة الأطراف الأخرى على تجميع نفسها، والتوحد ضد حفتر، وكم الأسلحة التي سيتلقونها حينها لكي يتمكنوا من استرداد الهلال النفطي، أو خسارته لفترة طويلة.
أزمة حكومة السراج
فايز السراج رئيس الحكومة الليبية
ميدانيًا غيرت هيمنة حفتر على آبار النفط موازين القوة بالبلاد، التي تحوي ما لا يقل عن 22 مليون قطعة سلاح منتشرة في الأراضي الليبية، تكفي لتسليح 7 دول إفريقية، وأزمت موقف حكومة السراج التي يراها جزء كبير في ليبيا أنها “حكومة وصايا غربية”، خصوصًا بعدما رحبت حكومات غربية كانت قد هاجمت حفتر مسبقًا، بخطوة نقل إدارة المنشآت النفطية في الهلال النفطي إلى المؤسسة الوطنية للنفط، وخطط زيادة الإنتاج والصادرات، ما قد يدفع باتجاه تحقيق انفراجة بين معسكرين متنافسين يتألف كل منهما من تحالفات هشة أحدهما مع حفتر، والآخر مع حكومة الوفاق، مع الوضع في الاعتبار أن المجلس الرئاسي ليس لديه الكثير من البدائل، ولا يملك هامشًا كبيرًا للمناورة، وبات في وضع يفرض عليه التحرك من أجل حل سلمي عبر المفاوضات، يقبله الشعب الذي نفد صبره تمامًا، خصوصًا وأن أي تحرك عسكري مضاد في الوقت الحالي سيزيد من شعبية حفتر.
مكسب سياسي
البعض يرى في تحركات حفتر الأخيرة للهيمنة على آبار النفط والمواني الخاصة بالتصدير، هدفها الرئيس هو التأكيد على أن القوات المسلحة تحت قيادته لا تزال لاعبًا أساسيًا في ليبيا، وحفتر نفسه يرغب في احتلال موقع الصدارة في حكومة وحدة متوقعة، بما يعطيه السيطرة على القوات المسلحة والسلطات التنفيذية، كما يرغب في أن تنأى حكومة الوفاق بنفسها عن مجموعات إسلامية مثل “فجر ليبيا” و”مغاوير مصراتة”، اللتين يعتبرهما حفتر غير شرعيتين.
في حال سار الأمر في هذا المسار، ستقوض طموحات حفتر الاتفاق السياسي الليبي، الذي تم برعاية الأمم المتحدة “الصخيرات”، وفي حالة عقد صفقة مع حفتر، ربما يتراجع الفصيل الذي يقوم بحماية المجلس الرئاسي في طرابلس عن توفير تلك الحماية.
الخلاصة، الحل العسكري وارد وبشدة، والتوافق والمساومة السياسية حاضرة أيضًا، وتتعلق هنا بالموقف الغربي وتعاطيه من عدمه مع “نفط حفتر”، وحكومة الوفاق التي تمكنت من تأسيس نفسها في طرابلس، عليها أن تكتسب سريعًا دعم باقي المناطق في ليبيا؛ لتصبح قادرة على تطبيق الاتفاق السياسي الذي رعته الأمم المتحدة، وبتوقعات المتشائمين فإن سيطرة حفتر على المواني البترولية الآن ربما تكون المسمار الأخير في نعش تلك الاتفاقية.