تعددت منذ القدم الحقوق التي استخدمتها رؤوس السلطة وسدنتها في المجتمعات المختلفة من (جمهوريات/ ملكيات/ قبليات) بغرض حكم البشر وتنظيم شؤونهم وإدارة مواردهم من حقوقٍ قبلية بحق رئيس القبيلة أو عاداتها وأعرافها، وحقوق الملوك الإلهية في الحكم باعتبارهم اختيار قدسي وأولادهم لقيادة المملكة وأهلها نحو الرخاء أو الفناء!
الحقوق المدنية التي بمقتضاها يتساوى البشر أمام القانون ومؤسساته في المجتمعات الحديثة، الحقوق القومية الملزمة لأفراد وجماعات تجاه قومية أو عرقية تاريخية وحقوق النواميس الإلهية المفروضة على جماعة “المؤمنين” المعتنقة لديانةٍ أو مذهب، والتي يرتكز على صحتها ويرفع لوائها نفرٌ من “المطبقين” لهذا الناموس لتدعيم ملكهم وبسط سلطانهم (وطبعًا لا يفوتنا بيان جام الاختلاف بين التطبيق والنصأ فلم يحدث أن تطابقا إلا مراتٍ قليلة لا يركز عليها التاريخ قدر تركيزه على الفشل).
انجرفت بعض هذه الحقوق بحكم الزمن أو الفشل أمام التحديات أو الهزائم الفكرية والعسكرية، وتباين تأثيرها في أمم العالم قاطبة إلا أن وقف المؤرخون طويلًا أمام تأثير الدين باعتباره العامل الأطول انتشارًا والأكثر تأثيرًا عبر الحقب المختلفة، فكم من مظالمٍ رسخت أقدامها وحقوقٍ خسرها أصحابها نتيجة لأفعال باسم الدين وهو منها نقاءٌ براء!
روح القانون لمونتسكيو
وفي هذا الصدد يقول المفكر السياسى والمشرّع شارل دو مونتسكيو مستهلًا في “روح القوانين”:
“يسيطر على الناس بأنواع مختلفة من القوانين، يسيطر عليهم بالحقوق الطبيعية، وبالحقوق الإلهية التي هي حقوق الدين، وبالحقوق الكنسية أو القانونية كما كانت تسمى التي هي ضابطة حقوق الدين، وبحقوق الأمم التي يمكن أن تعدّ حقوق العالم المدنية ضمن المعنى الذي يكون به كلّ شعب مواطنًا، وبالحقوق السياسية العامة التي يقوم موضوعها على تلك الحكمة الإنسانية التي أقامت جميع المجتمعات، وبالحقوق السياسية الخاصة التي تعنى بكل مجتمع وبحقوق المجتمع المدنية التي يستطيع بها المواطن أن يدافع عن أمواله وحياته تجاه مواطنٍ آخر، ثم بالحقوق المنزلية القائمة على تقسيم المجتمع إلى أسرٍ مختلفةٍ محتاجةٍ إلى حكومة خاصة.
يوجد للقوانين إذن مراتب مختلفة ويقوم سمو العقل البشري على معرفة أية هذه المراتب التي يتعلق بها مبدئيًا ما يجب أن يقضي فيه من الأمور وعلى عدم جعل ارتباكٍ في المبادئ التي يجب أن تسيطر على الناس”.
وبتتابع مراتب القوانين واختلافها، وقع الكثيرون في لغط الخلط بين سلطاتها وتأثيرها من ناحية وبين طبيعة عملها في المجتمع من الناحية الأخرى، بمعنى أن لكل قانون سلطة وتأثير في المجتمع يختلف باتساع أو ضيق النطاقات التي تطّبق فيها مواده وتصبح قيد التفعيل، واتفق القول عند أغلب المشرعين على ضرورة إيجاد قانون ثابت لا إحلال فيه حتى يتسنى لمن هم في السلطة تنظيم علاقتهم بمرؤسيهم، بتحديد المحمودات والنواهي وإيضاح آلية دائمة للثواب والعقاب، وإذا باتت نصوص القوانين جمعاء بمعزل عن الواقع وجب على المشرعين وضع أو تبني قانون بديل حتى لا تستشري الفوضى ويمضي الناس بلا وازعٍ ولا رادع.
وهنا يشير مونتسكيو إلى ضرورة الاستعاضة بسلطان وقوانين الدين “من الدول ما لا تكون القوانين فيها شيئًا، أو لا تكون غير إرادة هوائية مؤقتة لوليّ أمر، وإذا كانت لقوانين الدين في هذه الدول طبيعة القوانين البشرية لم تعد قوانين الدين شيئًا مذكورًا، فمن الضروري للمجتمع على الخصوص أن ينطوي على شيء ثابت والدين هو هذا الشيء الثابت”، ويضيف في موضع آخر موضحًا إطراد العلاقة بين الدين والقانون، “بما أن على الدين والقوانين المدنية أن يهدفا إلى جعل الناس مواطنين صالحين مبدئيًا فإنه يرى أن أحدهما إذا ما ابتعد عن هذا الهدف وجب على الآخر أن يميل إليه أكثر من ذي قبل وأن الدين كلّما قلّ ردعه وجب على القوانين المدنية أن تزيد زجرًا والعكس”.
ويبرر الفيلسوف سطوة الدين على النفوس وقوة وقعه فيها بقوله: “إن الدين ولو كان باطلًا هو أحسن ضامنٍ يمكن للناس أن ينالوه عن صدق الناس” (والبطلان المقصود هنا هو بطلانه في نفس من يدّعيه لا صحة هذا الدين من عدمها).
على صعيدٍ آخر نوّه المؤرخ وعالم الاجتماع العربى بن خلدون إلى أهمية الدين في قيام وسقوط الدول، مصرّحًا أن العرب لن يشتد لهم بأس ولا يدعم شوكتهم غير الدين، لكونه مذهبًا لذميم طباعهم ودميم شمائلهم وما يكتنفها من توحشٍ واستكبار، فالدين وفقًا له “إذا كان بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم فسهل انقيادهم واجتماعهم وذلك بما يشملهم من الدين المذهب للغلظة والأنفة الوازع عن التحاسد والتنافس.
فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله ويذهب عنهم مذمومات الأخلاق ويأخذهم بمحمودها ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق تم اجتماعهم وحصل لهم التغلب والملك، وشيد لهم الدين السياسة بالشريعة وأحكامها المراعية لمصالح العمران ظاهرًا وباطنًا وتتابع فيها الخلفاء فعظم حينئذ ملكهم وقوي سلطانهم”.
قيل قديمًا إن السباحة مع التيار من حسن الفطن، وقالت العرب كما أورد الميدانى في حكمه إذا كنت في قومٍ فاحلب في إنائهم وهو قولٌ حميد في موافقة الناس نهجًا ومسايرتهم رأيًا ومذهبًا، وفي الصدد عينه قالت الروم في روما افعل كما يفعل الرومان، ومطلع العصر الحديث أكد الفيلسوف السياسى ماكيافيللي الأمر بحثّه الأمير على الإذعان للديانة القائمة والأعراف السائدة حال أراد الأخير أن يستتب له الأمر وتكتب له الغلبة على المعارضين وأن ينادى باسمه وفضائل حكمه في الميادين فقال “يتوجب على حكام أية جمهورية أو مملكة أن يحافظوا على المبادئ الأساسية للديانة التي تصون لهم وجودهم وإذا ما عملوا هذا سهل عليهم أن يصونوا تدين دولتهم مما يؤدى إلى الحفاظ عليها متحدة طيبة، وعليهم أيضًا أن يسندوا وأن يشجعوا كل ما يمكن له أن يساعدهم على تحقيق هذه الغاية، حتى لو كانوا غير مقتنعين بصحة غايتهم هذه”.
فلم يفرض ماكيافيللي على الحاكم إيمانًا جبريًا بما يعتنقه الناس ولا إفرادًا وتمييزًا له في قرارة نفسه، إنما أجبره على احترام ما يبجله الناس، بل وتخطى هذا إلى عدّ إجلال مظاهر التدين والترفيات اللاحقة به من العناية بدور العبادة وإحياء المراسم والمناسبات الدينية من شواهد رخاء جمهورية أو مملكة، وعلى النقيض اعتبر أن إهمال دور العبادة وتضييع الشعائر من علامات الانهيار ونذر الدمار.
كتاب الأمير لميكافيلي
وذكر تأييدًا لذلك في مطارحاته أن “احترام العبادة السماوية يكون مصدر العظمة في الجمهوريات، وأن إهمال هذه العبادة يؤدي إلى خرابها، فمن المعروف أنه حيث يوجد الافتقار إلى الخوف من الله تكون المملكة إما قد أصابها الخراب أو سيطر عليها الخوف من الأمير وهو خوف يستعاض به عن الافتقار إلى الدين ولمّا كانت أعمار الأمراء قصيرة، فقد يحدث كثيرًا عندما تفقد المملكة أميرها أن تفقد أيضًا الفضيلة التي كان يتحلى بها، وهكذا فإن الممالك التي ترتكز إلى فضيلة رجل واحد لا يقدّر لها أن تعمر طويلًا، إذ إنها تزول بموت هذا الرجل”.
وهكذا ارتكزت الفضائل وفشا الخير وذاع في المجتمعات بوجود قانون ثابت أو لنقل ببساطة طالت مدد وآماد الاستقرار (بغض النظر عن ماهيته سواء حمل خيرًا أو خلّف شرًا) بثبوت هذا القانون واستحكام أواصر الإيمان بصحته في نفوس الناس، وهو ما وعاه حكامنا العرب (من ملوكٍ ورؤساء) وبشيء من الغدر الذي ينطوي على المكر جيء بعرفاء مجندين لحربٍ ضروس أملها الجهالة والتغييب.
ثم جمعت لهم بمعية الحكام الأحبار والقراطيس فانتجوا نصوصًا عاطلة من معانيها، مقتطعة من سياقاتها، مجردة من أحكامها، معزولة عن مواضع التطبيق وأسباب النزول، وبتعدد الخطابات وتنوع الآليات، طفقوا يملأون الأرجاء نداءً بالتبتل والسيطرة على الغرائز الجسدية طلبًا لصفاء النفس، يطالبون الجموع بالقناعة والصمت، وينهون عن السؤال ويحرّمون الكلام.
يروجون لعزوفٍ تام عن خوض غمار الحياة باسم القدر وستار الدين، ينشرون بين السواد الأعظم تدينًا هروبيًا يأخذهم من ممارسات الحياة العامة، ينتزعهم نزعًا من الوعي بالحق السياسي والاجتماعي والواجب الاقتصادي للحكومات تجاههم، ويلقيهم في غيابة الجب تاركًا إياهم حبساء الوهم اللذيذ الذي ينطوي عليه التدين الهوائي الذي يقوم على توجيه الأهواء تجاه الخيالات والخرف، حيث لا سمو إلا في الإلهاء ولا ارتقاء إلا في مهادنة الأوضاع القائمة ولا صلاة بغير السمع والطاعة.