إن الإرادة التي تلهب الحماسة في الشعوب تجعله يقهر كل مستحيل قد يعوق مسيرته ورغبته في التقدم، حتى لو كان يتقدم نحو الهلاك، طالما وجدت العزيمة فستصل بصاحبها حتمًا إلى ما يسعى إليه، ولنا في افتتاح قناة السويس الجديدة كما تسميها الحكومة المصرية المثل، فالجموع التي احتفلت حول القنال وفي المحافظات المختلفة لم تخبر الحكومة أي منهم بماهية أو فائدة هذا المشروع، غير كلامٍ يطلق جزافًا على شاشات الفضائيات.
من ازدواج ممر القناة إلى زيادة مدى استيعاب القناة للسفن والتقليل من ساعات انتظار السفن في البحيرات المرة، وأُخبرنا بأن هذا سيؤدي إلى رفع دخل القناة 265% وذلك بسبب تلافي مشكلة انتظار قافلة الشمال مرور السفن القادمة من السويس من ثمان إلى عشر ساعات، أما الآن يزعم القائمون على المشروع أن هذه المشكلة انتهت، فلن تحتاج السفن إلى الانتظار بعد اليوم وسيكون السير متواصلاً حتى بلوغ الناحية الأخرى من القناة.
هذا الكلام رائع من الناحية النظرية، ولكن ليس بالضرورة أن يرفع ذلك دخل القناة جنيهًا واحدًا، فمسألة زيادة الدخل من عدمه لا يعتمد فقط على سعة القناة ولكن أيضًا على حجم التجارة العالمية، خصوصًا وأن معدل التجارة العالمية آخذ في الانخفاض خلال العقدين الماضيين حسب تقارير صندوق النقد الدولي والذي يتوقع أن يصل إلى 3.4% حتى العام القادم.
غير ذلك، أن القناة لم تستخدم سعتها الكاملة منذ الأزمة الاقتصادية عام 2009، وأن معدل السفن المارة بقناة السويس حاليًا تشغل 20% فقط من سعة القناة، وذلك حسب تقرير مؤسسة بانشيرو كوستا بروكريج، وأشارت بلومبرج إلى أن الحكومة المصرية لم تصدر دراسات جدوى حول كيفية كسب عائدات من القناة الجديدة التي تكلفت استثماراتها 8.2 مليار دولار، حيث قال مهاب مميش، رئيس هيئة قناة السويس، إن التوسيع يلبي الطلب في المستقبل، مع توقع مضاعفة حركة المرور إلى 97 سفينة يوميًا بحلول العام 2023، بينما توقع أن يزيد عدد السفن بعد الافتتاح إلى 45 سفينة يوميًا.
المجرى الملاحي خلال العام 2013 كانت 16596، أي بمعدل 45 سفينة يوميًا، وهو الجديد الذى لم يضفه مميش ولا قناته الجديدة إلى الجمهور، غير أن هيئة قناة السويس أعلنت عن عبور 11 سفينة خلال الأسبوع الأول من افتتاح التفريعة الجديدة
وحسب إحصائيات، فإن عدد السفن التي مرت في المجرى الملاحي خلال العام 2013 كانت 16596، أي بمعدل 45 سفينة يوميًا، وهو الجديد الذي لم يضفه مميش ولا قناته الجديدة إلى الجمهور، غير أن هيئة قناة السويس أعلنت عن عبور 11 سفينة خلال الأسبوع الأول من افتتاح التفريعة الجديدة، وهو ما يتفق مع التقارير المذكورة سابقًا والتي تحدثت عن انخفاض معدل التجارة العالمية وكذلك عدم شغل كل سعة القناة.
واستشهدت الوكالة بما ذكرته وحدة الأبحاث البريطانية كابيتال ايكونوميكس، في تقريرها العام المنصرم من أن حجم التجارة العالمية يحتاج للارتفاع بنحو 9% كل عام لبلوغ حركة المرور في قناة السويس المعدل المأمول، مرجحة عدم التوصل لهذا الهدف، ونستنتج أن مشروع قناة السويس الجديدة جميل في ظاهره، كُفتة في باطنه، فهو ليس ذا جدوى على الأقل خلال عقود قادمة، ففيم إذن انفقت 46 مليار جنيه مصري انتزعت من جيوب المصريين انتزاعًا؟
أما الحكومة المصرية فهي تتكلم عن انطلاق عدة مشروعات جديدة استنادًا إلى مشروع قناة السويس الجديدة، في الوقت الذي صرح فيه رئيس الوزراء بأن زمن الوظائف انتهى وعلى الشباب العمل على “توكتوك”؛ مما يجعلني أميل إلى الرأي الذي يقول بأن أهداف هذا المشروع سياسية، أو دعائية بمعنى أدق، في الأساس، وإذا نظرنا في استراتيجة الحكم العسكرى في الفترة الأخيرة وحتى في عهود سابقة.
فسنجد أن الركيزة الأساسية التي تتوكأ عليها الحكومات العسكرية هي البروبجندا الشعبية، وتصدير المشاريع القومية الضخمة، وخلق حالة من الطموح الجامح والرخاء المنتظر الذي يأتي بفضل تعليمات وتوجيهات السيد الرئيس صفةَ، ولذلك دلالات عديدة: أولاً استخدام مصطلح “قناة السويس الجديدة” وقلنا سابقًا إنها تفريعة 35 كم، كان يمكن تسميتها تفريعة السيسي مثلاً، أو تفريعة الدفرسوار وهو الاسم القديم للمشروع، ولكن تصدير هذا المسمى الضخم يزيد من حالة انبهار الشعب المصري بما قدمه سيادته من معجزة تنم حنكة وقيادة، ويرسخ في أذهان البسطاء تصورًا حول مضاعفة المجرى الملاحي أو حفر قناة موازية، وهذا كفيل بصرف الناس عن الأزمات الحقيقية التي يعجز العسكر عن حلها أو تجاوزها، حتى وإن كان عمل كهذا ليس له فائدة على الإطلاق.
ثانيًا، الإصرار على أن حفر تفريعة 35 كم في سنة معجزة لم يسبق لها مثيل، على الرغم من حفر خمس تفريعات سابقة لنفس المجرى الملاحي منها ثلاث تفريعات تمت في عام واحد في عهد الرئيس عبد الناصر.
غير أن القناة نفسها، 193 كم، تم حفرها بمعاول بسيطة وفي غياب التكنولوجيا العصرية المتقدمة، في عشر سنوات، ولم تشهد أي من التفريعات القديمة هذا الصخب الذي ملأت به الحكومة المصرية أرجاء الدنيا احتفالاً بما قدمته مصر للعالم من عمل هو غير مُجد في الأساس، وأهمها وأطولها تفريعة بورسعيد التي تم حفرها في عهد الرئيس السادات وتبلغ 40 كم شرق القناة والتي قلصت حقًا من طول ممر القناة وساعات المرور.