بالرغم من الصورة الذهنية المرسومة للبنانيين في أذهان الكثيرين كونهم أكثر شعوب العالم أناقة ولباقة وجمالًا، فضلًا عن تحول عاصمة بلادهم “بيروت” في كثير من الأوقات إلى قبلة للباحثين عن الرقي والجمال والجاذبية والهدوء، إلا أن الواقع الحقيقي للمجتمع اللبناني ينذر بكارثة مدوية، وزلزال مدمر، إثر بعض الملفات التي تحولت إلى قنابل موقوتة قابلة للاشتعال في أي وقت.
فما بين طائفية مقيتة، ساهمت في تفتيت الشعب اللبناني إلى ثمانية عشر قسمًا، وأزمة إعلام توشك أن تهدد مستقبل التنوير، وتعيد نظام البوق الواحد من جديد، وواقع مشين للمرأة جعلها أسيرة العنف الأسري والتحرش وغياب الضمان الدستوري والقانوني، إضافة إلى آتون الصدام الدموي القابل للاشتعال في أي وقت مع النازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين، يقبع المجتمع اللبناني فوق سطح ساخن من الأزمات، فكيف يسير اللبنانيون فوق هذه الأشواك؟
الطائفية: قدر أم خيار؟
“اللبناني بحكم القانون وبحكم النظام السياسي ولد طائفيًا وسيموت طائفيًا“، بهذه الكلمات استهل الفقيه الدستوري اللبناني الدكتور إدمون رباط، حديثه عن الطائفية في بلاده، مشيرًا أن الطفل اللبناني منذ لحظة ولادته حتى لحظة وفاته كل ما يتأثر به تبعًا للقانون هو قائم على النظام الطائفي الذي يترجم بالقوانين، فبعد الولادة عليه أن يشهر انتماءه الطائفي، وفي ظل القانون اللبناني فإن الانتماء الطائفي للوالد، وبالتالي يوضع في خانة طائفة معينة تبعًا للوالد، وفي حالات الزواج أو الطلاق أو التبني أو في الإرث وحتى في حالة الدفن، ملزم بالتصنيف على أساس طائفي، وأضاف رباط أنه منذ نشأة لبنان سنة 1943، تمّ التركيز على أن التمثيل الشعبي هو تمثيل طائفي، ومن ثم أصبح الزعماء الطائفيون في هذه الحالة في موقع ادعاء المسؤولية عن حياة أبناء الطائفة وعن ترقيهم، وبالتالي أصبح هؤلاء الزعماء الممثلين الشرعيين الوحيدين.
تعود نشأة الطائفية في لبنان إلى عام 1843 نتيجة تضافر عدد من العوامل التي أفرزت هذا المفهوم بمعناه الواسع، فقد شهد أوائل منتصف القرن التاسع عشر تغيرات أساسية في لبنان، أهمها انتفاضات الفلاحين التي بدأت في العام 1820، واستمرت لعدة أعوام، كذلك ما حدث في ثلاثينات القرن التاسع عشر، حين انتهى النظام الإقطاعي بانتهاء نظام الإمارة بفضل ما سمي في ذلك الحين بالاحتلال المصري، حيث جعل هذا الانتهاء من الإقطاعيين أكثر تمسكًا برغباتهم ووجودهم ونفوذهم، إضافة إلى دخول الفرنسيين والبريطانيين إلى جبل لبنان وفرض نفوذهم فيه، كل تلك العوامل مجتمعة ساهمت في تقسيم المجتمع اللبناني إلى طوائف متعددة.
هناك 18 طائفة في لبنان، ثلاثة منها رئيسية يتفرع عنها 15 طائفة أخرى
النظام الطائفي منذ 1943، حتى الحرب الأهلية تحديدًا، أفرز في لبنان تقسيمات شعبية واقتصادية وسياسية زرعت في أذهان البعض بأن الطائفية هي الأفضل بالنسبة للبنانيين وأنها تخدم مصالح الناس، وبالرغم من الأصوات العلمانية والليبرالية والمدنية التي تطالب بإلغاء هذا النظام إلا أنها قوبلت بمقاومة شرسة من المنتفعين بهذا النظام من النخب وغيرها.
يذكر أن هناك 18 طائفة في لبنان، ثلاثة منها رئيسية يتفرع عنها 15 طائفة أخرى، أولاً: الطائفة الإسلامية وتضم أربعة طوائف فرعية (السنة – الشيعة – العلويون – الإسماعيليون)، ثانيًا: الطائفة المسيحية وتضم 13طائفة فرعية (الموارنة 23% – الروم الأرثوذكس 9% – الروم الكاثوليك 5% – الأرمن الأرثوذكس 3% – الأرمن الكاثوليك 1% – السريان الأرثوذكس – السريان الكاثوليك – الكلدان – اللاتين – الإنجيليون – الأقباط الأرثوذكس – الأقباط الكاثوليك – الأشوريون)، ثالثًا وأخيرًا: الطائفة الدرزية.
تظاهرات للقضاء على الطائفية في لبنان
المرأة ضحية المجتمع الذكوري
على عكس الصورة الذهنية التي رسمت في عقول ملايين العرب من أن المرأة اللبنانية ذات الجمال والجاذبية لا بد وأن تكون خريجة بيت وبيئة مثالية، تعرف جيدًا كيف تتعامل مع المرأة، وكيف تحترمها وتوقرها وتقدر لها حقها، وهو ما أدى في النهاية إلى خروجها بهذه الصورة والكيفية التي تبهر نساء العرب ورجالهم على حد سواء، إلا أن الواقع التي تحياه المرأة في لبنان يجعلها مثار شفقة للجميع، ما بين عنف وقهر وتحرش وسيطرة العقلية الذكورية على المجتمع.
وعلى الرغم من كشف العديد من الدراسات والتقارير لاستفحال ظاهرة العنف ضد النساء، وما ينجم عنها من كلفة اقتصادية واجتماعية وبشرية باهظة، وعلى الرغم من التزام لبنان بجملة من الاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان بصفة عامة والمرأة خاصة، إلا أن واقع المرأة في لبنان أمر مؤسف للغاية، حيث تتقاعس الدولة عن القيام بدورها في حماية النساء من العنف، فضلاً عن مساهمتها في هذا العنف برفضها تعديل القوانين التمييزية بحق النساء واستحداث تشريعات تحمي النساء من العنف الممارس بحقهن.
من جانبها أشارت رئيسة المجلس النسائي اللبناني الدكتورة أمان كبارة شعراني، إلى أن الدراسات التي أجريت في لبنان تشير إلى وجود ظاهرة العنف ضد النساء بأعداد كبيرة، ملفتة إلى أن إحصائيات النيابة العامة تتحدث عن حصول أكثر من 1300 حالة اعتداء على النساء سنويًا، كما أظهرت دراسة على عيّنة من 300 امرأة أن نسبة اللواتي يخضعن للعنف الكلامي 87%، وتتعرض 68% للعنف الجسدي الذي و يتمثل بالضرب بالأيدي والأرجل وحتى باستعمال أدوات التعذيب، أما النساء اللواتي تتعرضن للعنف الجنسي ضمن إطار الزواج تشير شعراني إلى أن 55% تتعرضن للهجر أو استبدالهن بعلاقات خارجية أو شذوذ في الممارسة الجنسية.
أكثر من 1300 حالة اعتداء على النساء اللبنانيات سنويًا، 68% منها عنف جسدي
المعالج النفسي سليم بيرم في حديث سابق له حمّل المرأة اللبنانية المسؤولية الأكبر فيما وصلت إليه، وذلك لتقبلها له واعتبار التسامح والخضوع أو السكوت عليه كرد فعل لذلك، مما يجعل الآخر يأخذ في التمادي والتجرؤ أكثر فأكثر، وقد تتجلى هذه الحالة أكثر عند فقد المرأة من تلجأ إليه، ومن يقوم بحمايتها.
بيرم لفت إلى أسباب عديدة لسكوت المرأة منها ما يعود إلى التربية العنيفة التي ينشأ عليها الفرد التي تجعله يحمل شخصية ضعيفة وتائهة وغير واثقة، وتعود أيضًا إلى الجهل بما يتمتع به الفرد من حقوق وواجبات وعدم معرفة كيفية التعامل مع الغير، إلى جانب العادات والتقاليد.
وتابع أن المرأة المعرضة للعنف تواجه مصاعب جمة تعيق محاولتها وضع حد لمعاناتها، بدءًا من الثقافة التقليدية التي تسارع إلى تحميل المرأة أسباب العنف، وصولاً إلى قصور القوانين المرعية وأجهزة العدالة عن تحديد العنف وإيجاد الآليات الرادعة له.
ويغيب هذا الموضوع عن التداول في المستويات الرسمية، وتغيب كذلك المؤسسات والمراكز التي تهتم برعاية النساء المعنفات، وإذا وُجدت فلا تستوعب أعدادهن الكثيرة، لذا لا يجدن مأوى لهن باستثناء بعض الأديرة كأديرة الراعي الصالح وجمعية دار الأمل وبعض العلماء والمشايخ الذين يحاولون تخفيف المشكلات على صعيد فردي، كما تشح القوانين والتشريعات الرادعة التي تحفظ حق النساء في الأسرة بما فيها حقهن في رعاية الأولاد وحضانتهم سوى ما تعلق بالمحاكم الشرعية التي تطبق الشريعة الإسلامية.
كما أن هناك العديد من الدراسات والتقارير التي تشير إلى زيادة جرائم التحرش ضد المرأة في المجتمع بصورة غير مسبوقة، إضافة إلى تفضيل الرجال على النساء في كثير من الوظائف العامة بما يخل بمواثيق الأمم المتحدة، وبات الحديث عن المساواة في الأوساط اللبنانية حديث إفك يؤخذ صاحبه بالنواصي والأقدام.
العنف ضد المرأة واقع تغض الحكومة اللبنانية الطرف عنه
الإعلام: تساقط منابر التنوير
تعاني منظومة الإعلام في لبنان من أزمات طاحنة توشك أن تطيح بها بعدما تربعت في كثير من الأوقات على عرش الإعلام العربي والشرق أوسطي لما كانت تتمتع به من مهنية وتخطيط وموضوعية غير مسبوقة في صحافة المنطقة بأسرها.
ومؤخرًا منيت الصحافة اللبنانية بهزات عنيفة، حيث اتخذت صحيفة “السفير” التي تأسست العام 1974، قبل سنة واحدة من بدء الحرب الأهلية (1975-1990)، قرارًا بالتوقف عن الصدور أبلغته إلى العاملين فيها، لتعود فتتراجع عنه وتقرر خفض عدد صفحاتها من 18 إلى 12، فيما مصير 159 موظفًا على المحك.
كما تناقلت بعض المصادر أنباء عن غلق وشيك لصحيفة “النهار”، منافسة “السفير” والصحيفة الأعرق في لبنان (تأسست العام 1933)، لا سيما وأن موظفي النهار لا يتقاضون رواتبهم منذ حوالي عام كامل، وكذلك هو الحال بالنسبة إلى صحف ومحطات تلفزيونية أخرى، بينها مؤسسات تابعة لرئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري.
بحسب ما أكده صحفيون وخبراء فإن أزمة الإعلام تعود في المقام الأول إلى الجمود السياسي، وتراجع التمويل الداخلي والعربي، وهو ما أكد عليه طلال سلمان، مؤسس ورئيس تحرير صحيفة السفير ذات الميول اليسارية، بقوله “نبحث حاليًا عن شريك لتعزيز رأسمال مع ضغط المصروف، سنبذل أقصى جهد ممكن وحتى آخر قرش”.
وتابع رئيس تحرير السفير: “لم تمر الصحافة في لبنان الذي لطالما كان رائدًا على الساحة الإعلامية العربية، بأزمة بهذه الشدة من قبل، إنها أسوأ الأزمات على الإطلاق التي تشل حركة الإعلام”.
أزمة الإعلام تعود في المقام الأول إلى الجمود السياسي، وتراجع التمويل الداخلي والعربي
بينما يرى عميد كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية جورج صدقة أن أحد أهم أسباب أزمة الصحافة اليوم يكمن في “تراجع المال السياسي والدعم من الأنظمة العربية اللذين كانا يمولان قسمًا كبيرًا من الإعلام اللبناني”، مضيفًا أن الأزمة السورية لعبت دورًا سلبيًا في تعميق الانقسامات الداخلية ومن ثم شلل المؤسسات الإعلامية.
الجمود السياسي أبرز أسباب أزمة الصحافة اللبنانية
النازحون: الصدام المرتقب
في ظل الواقع المعيشي المتردي الذي يحياه اللبنانيون منذ سنوات عديدة نتيجة الصراعات والحروب، جاء اللاجئون الفلسطينيون والنازحون السوريون ليزيدوا الوضع تأزمًا، فحسب إحصاء أجرته وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل الفلسطينيين (الأونروا) لعدد الفلسطينيين المتواجدين بلبنان، ثبت أن هناك ما يقرب من 280 ألف فلسطيني، 66.4% من الفقراء، أي أنهم عاجزون عن تلبية الحد الأدنى من حاجاتهم الغذائية وغير الغذائية الضرورية (مقابل 35% في أوساط اللبنانيين).
إضافة إلى أن الفقر أعلى في أوساط اللاجئين المقيمين داخل المخيمات منه في أوساط اللاجئين المقيمين في التجمعات، في ظل أن 56% من الفلسطينيين عاطلون عن العمل، بما ينذر بصدامات يومية بين اللبنانيين والفلسطينيين في الصراع على لقمة العيش لا سيما بعد انتشار البطالة بين اللبنانيين أيضًا، وهو ما ينعكس بصورة سلبية على المجتمع اللبناني برمته.
ومن جهة أخرى هناك ما يقرب من مليون و700 ألف نازح سوري في لبنان، ما ساهم بشكل كبير في إرهاق موارد المجتمع بصورة كبيرة، وهو ما أشار إليه الكاتب الصحفي إيلي القصيفي، في مقال له، قائلاً: من الواضح أن أزمة النزوح السوري في لبنان دخلت مرحلة جديدة سمتها الأساسي تصلّب الاحتقان بين النازحين و”المجتمع المضيف”، مشيرًا أنه من الضروري التذكير بأنّ أزمة النزوح السوري عمرها اليوم أكثر من خمس سنوات، وهذا وحده كاف، في ظل غياب الآليات الواضحة والإمكانات اللازمة لمعالجة هذه الأزمة اقتصاديًا وأمنيًا واجتماعيًا، إلى تفاقم الحساسيات بين اللبنانيين والنازحين السوريين.
أزمة النزوح السوري في لبنان دخلت مرحلة جديدة سمتها الأساسي تصلّب الاحتقان بين النازحين و”المجتمع المضيف”
وأضاف القصيفي أن الهاجس الأمني المتعاظم في لبنان بعد تفجيرات القاع وما تلاها من إشارات متكررة، وغالبًا من دون أدلة دامغة، إلى وجود خطر إرهابي في تجمعات النازحين، أصاف بعدًا آخر إلى الأزمة مؤداه الخوف والريبة لدى فئات واسعة من اللبنانيين من “الوجود السوري في لبنان”، ناهيك عن المخاوف الديموغرافية اللبنانية من طول إقامة النازحين السوريين في لبنان بعد تعذر رجوعهم إلى بلادهم بفعل استمرار الحرب فيها، وهذه مخاوف لم تكن بالحجم نفسه في المرحلة الأولى من النزوح السوري.
مخيم للنازحين السوريين بلبنان
الكاتب اختتم مقاله بأن المجتمع اللبناني بات في أزمة خطيرة ليس بسبب النزوح بذاته بالضرورة وإنما بردات الفعل التي يولدّه، سواء لجهة التحريض من فئات لبنانية ضدّ النازحين ما يؤدي في النهاية إلى ممارسات عدائية أهلية و”رسمية” بحقهم، أو لجهة المكابرة من جانب فئات ومجموعات لبنانية وكذلك سورية، في لبنان وخارجه، على وجود مشكلة تتعلق بعدم قدرة لبنان على احتواء نحو نصف عدد سكانه من النازحين، في وقت يعاني هذا البلد أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية غير مسبوقة حتى في أحلك “الأزمنة اللبنانية”.
مما سبق يتضح أن المجتمع اللبناني يرقد فوق فوهة بركان هائل قابل للانفجار في أي وقت، وإن لم يعد القائمون على أمور هذه الدولة النظر في هذه الملفات التي تحولت إلى قنابل موقوتة ستتفاقم الأمور بما لا يمكن السيطرة عليها لاحقًا، فهل يعي اللبنانيون خطورة ما يواجهونه؟ وهل لا زالوا بعد هذا العرض محل غبطة وحسد من أشقائهم العرب في كل مكان؟