منذ الانقلاب العسكري الذي وقع في مصر، في الثالث من يوليو من العام 2013م، بمساعدة قوى سياسية وحزبية عدة، مدنية ودينية على حد سواء، لم تتوقف التساؤلات ولا الدراسات المعمَّقة التي سعت إلى الإجابة على سؤال: لماذا فشلت ثورة الخامس والعشرين من يناير، في الاستمرار، وفي تأسيس دولتها المستقلة.
ولعل التركيز كان في غالبيته منصبًّا على دراسة المؤسسة العسكرية المصرية، ودورها السياسي والاقتصادي، وتفاعلات المدني العسكري، بالإضافة إلى محاولة تفسير أسباب انضمام أقطاب مؤسسية كبرى لها عمقها الاجتماعي، للانقلاب، مثل الأزهر الشريف والكنيسة القبطية، ومجتمع السلفيين، بأطيافه الفكرية والفقهية، وأطره التنظيمية، بالرغم من “حماستها” السابقة للثورة، ولما فرضته من موازين جديدة للقوى ومعادلة الحكم في مصر، وعلى رأسها “الإخوان المسلمون”.
إلا أن القليل للغاية من الدراسات والمقالات المحكَّمة هي التي اهتمت بدراسة ما يمكن أن نطلق عليه الأنثروبولوجية السياسية والاجتماعية للدولة المصرية وتركيبتها، وهو المجال الرئيسي للإجابة على السؤال المحير: لماذا فشلت الثورة على الدولة المصرية “حتى الآن”؟
ونضع “حتى الآن” بين قوسَيْن لباعث مهم، وهو أن فهم واقع الدولة المصرية، هو الخطوة الأولى على طريق تحسين آليات تثوير الجموع التي هي الضمانة الوحيدة – من خلال كل التجارب التاريخية – لإنجاح أي فعل ثوري، حتى ولو في نقطة زمنية ضيقة.
وقبل محاولة رسم صورة مقربة قدر المستطاع لما تطلق عليه هذه الورقة مصطلح “الأنثروبولوجية السياسية والاجتماعية” للدولة المصرية؛ فإنه من الأهمية بمكان الإشارة إلى عاملَيْن مهمَّيْن للغاية لعدم انطلاق الثورات الجماهيرية في نجاحاتها، إلى آفاق نجاح أبعد من نقطة زمنية بعينها، وهي تلكم التي تلي مباشرة الحراك الجماهيري الكاسح.
ولا ينفصل ذلك عن المراد العام لهذا الحديث، حيث إن الغرض الأساسي له، هو محاولة تحسين عملية فهم الثورة وآليات وقوعها، والأهم، آليات نجاحها، حيث قد يكون من السهل – نسبيًّا بطبيعة الحال – أن يتم تنظيم احتجاجات جماهيرية واسعة النطاق، تتحول إلى ثورة شاملة، لكن الأصعب هو الحفاظ على هذه الثورة، وتمكينها سياسيًّا ومؤسسيًّا، أي أن تحكم الثورة، وهو ما لم يتحقق في مصر.
العامل الأول، هو سماح الجماهير للدولة التي قامت الثورة لإسقاطها بالتقاط أنفاسها، والسماح لنظامها بإعادة تنظيم صفوفه، والاندساس من خلال قوى بعينها، إلى الدولة الجديدة التي تحاول الثورة بناءها.
العامل الثاني، هو دخول شركاء الثورة في خلافات على المغانم من دون المغارم، وقبل التمكين الحقيقي لدولة الجماهير التي هي أساس الثورة، والتي يجب أن تعمل أية ثورة لأجلها، ولأجل تحقيق الأهداف التي قاموا بالثورة لكي يحققوها، مثل “العيش والحرية والعدالة الاجتماعية” في حالة ثورة يناير.
هنا يحدث شيءٌ من اثنين، إما استبداد الطرف الأقوى من شركاء الثورة بها وبعملية رسم النظام الجديد – ليس نظام الثورة – كما جرى في الثورة الروسية، في العام 1917م، عندما استبد البلشفيون بها، على حساب طبقات العمال والفلاحين التي كانت وقودها الأساسي، وعلى حساب الأحزاب والقوى الأخرى الإصلاحية الأضعف، مثل تروتسكي ورفاقه، فيتأسس نظام شمولي مستبد أكثر من سابقه.
أو تفشل الثورة بعد أن يتحول هؤلاء الشركاء إلى فرقاء متناحرون، فإما تغرق الدولة بالكامل في حالة من الفوضى طويلة الأمد، أو تستغل الدولة القديمة هذا الظرف، وتعود مرة أخرى.
وهو ما وقع في ثورات عدة في تاريخ مصر نفسها، مثل الثورة العرابية، وفي ثورة 1919م، أو في التاريخ العالمي، مثلما حصل في الثورة الرومانية، وجزئيًّا في الثورة الفرنسية، وهو ما استفادت منه ثورات أخرى ناجحة، مثل الثورة الشيوعية في الصين، التي عملت أول ما عملت على تأسيس نظامها الخاص، ثم دولتها التي انفصلت تمامًا عن الإطار القديم لدولة الإمبراطور، مهما كلفها ذلك من تضحيات حمراء!
ففي حالة الثورة العرابية، استجابت السلطة الحاكمة لبعض المطالب التي خرج عرابي ورفاقه لتحقيقها، وذلك من أجل امتصاص الحالة الثورية، قبل الانقضاض عليها، وهو ما تم في حالة ثورة 1919م؛ حيث سعت سلطات الاحتلال الإنجليزي في ذلك الحين إلى محاولة فصل سعد زغلول ورفاقه، عن قاعدتهم الجماهيرية، ولكن وعي الطليعة الثورية في ذلك الحين، أثمر في منع استمرار هذا المخطط إلى النهاية، فكان دستور 1923م والاستقلال عن بريطانيا، حتى ولو كان إسميًّا، وعاشت مصر بعدها فترة نادرة من تاريخها السياسي، في نظام برلماني دستوري.
أما في حالة الثورة الرومانية، دخل النظام القديم إلى الثورة من خلال رموز تابعة له، أظهرت إخلاصًا للثورة، لأجل اختراقها، ثم توجيهها بالصورة التي ساعدت على تصفيتها بشكل كامل.
وهذا أمرٌ طبيعي، لأن الثورات تقوم بها الجموع غير المتعلمة، أو ذات غير خبرة سياسية كبيرة لتوجيهها بالشكل الرشيد اللازم لإنجاحها، إلا لو كانت لها طليعة نخبوية قوية، وحاكمة لها، توجهها بالشكل السليم – وهو ما تحقق بنسبة في ثورة 1919م – ومن دون أن يكون هناك مجال للاختلاف بينها في مرحلة إعادة البناء، مع إقصاء العناصر التي يمكن أن يُشتم منها ذلك.
أخطاء المرحلة في محاولة تثوير الجماهير
أول هذه الأخطاء في مصر، هو استناد القوى التي لا تزال تحاول استعادة نغمة ثورة يناير، وخصوصًا جمعة الغضب يوم 28 يناير 2011م، والاعتصامات والمظاهرات المليونية التي تلت الأربعاء الأسود يوم 2 فبراير، والذي عُرف بموقعة الجمل، إلى مفاهيم غير صحيحة فيما يخص عملية تثوير الجماهير، مثل الأزمات الاقتصادية وما يتصل بالحالة المعيشية أو شعار “ثورة الجياع” الذي يتصدر المشهد الآن، وكلها أمور نسبيًّا غير سليمة، أو على الأقل غير كافية لإشعال ثورة جماهيرية كاسحة، تقتلع نظامًا ودولة في قوة وتجذر الدولة والنظام الحاليَيْن في مصر.
ولسنا هنا متفقين مع طرح البعض لفكرة أن فشل النظام الحالي في مصر وأخطاءه، قد حرقت مراحل طويلة تقرب من لحظة احتجاج الناس وانفجارها، وغالبًا ما يقصدون الأزمة المعيشية وارتفاع الأسعار.
ولعل بديهة خطأ القياس هنا واضحة، فالناس التي تهرب في قوارب الهجرة غير الشرعية، وهي تعلم تمامًا أن احتمال موتها غرقًا غالبة، لم تحاول أن تقوم بأية مظاهر احتجاجية أو مظاهرات أولاً وتفشل، ثم تلجأ إلى خيار الموت غرقًا هذا.
وذووهم، نجد صورهم وهو يقفون بالطوابير في انتظار جثث أبنائهم على الشاطئ، وسط ضحك وسخرية عساكر الأمن، ووضوح تقاعس القوات المسلحة عن التحرك لإنقاذ الغرقى، من دون أي فعلٍ احتجاجي من جانب هؤلاء الناس.
دليل آخر، من ثورة يناير نفسها، فالثورة لم يقم بها الجياع، ومن تصدروا المشهد في ميدان التحرير، أو حتى كانوا المكون الرئيسي للاعتصام المليوني والمظاهرات المليونية التي تلته، حتى تنحي المخلوع حسني مبارك، كانوا من الشباب المتعلم ومن أبناء الطبقة الوسطى.
الحرافيش لنجيب محفوظ
إذًا القياس خاطئ، لأنه يستند إلى قواعد نوستالجية في التقييم، تستند إلى صورة عتيقة كرستها روايات نجيب محفوظ وأدب يسري الجندي عن الحرافيش وثوراتهم التي تأتي في نهاية مراحل طويلة من الظلم والفساد والجوع، وكل هذا الكلام عن ظهور بطل شعبي يقود الجموع ضد الحاكم المملوكي الظالم الذي يفرض عليهم الإتاوات والضرائب، والذي رسخته روايات وحكاوي شعبية، مثل علي الزيبق والزيني بركات، وغيرها.
هذه الصورة غير صحيحة، أو على الأقل فاتها قطار الزمن عند الحديث عن الدولة المصرية الحالية، والتي أخذت سمات الدولة المركزية التي أسسها الفراعنة قبل آلاف الأعوام، وتستند إلى سلطة الفرعون الأخلاقية والدينية، ومزجتها مع دولة محمد علي باشا الكبير، والتي أطرها مؤسسيًّا الخديوِ (وليس الخديوي) إسماعيل بن محمد علي، ثم كرستها دولة يوليو التي أسسها العسكر بعد عام 1952م كما سوف نرى.
تمامًا مثل الحديث عن الحروب قديمًا بمقاييسها التقليدية، والحديث عن الحروب بعد اختراع البارود، ثم بعد الثورة الصناعية، وظهور ما يُعرف بالحروب الصناعية، التي تعتمد على الآلة والرقميات، فضحايا الحربَيْن العالميتَيْن الأولى والثانية، يفوقون في عديدهم كل ضحايا حروب البشرية منذ فجر التاريخ وحتى القرن العشرين.
كما أن هذه الصورة الرومانسية المثالية، تستند إلى حقائق تاريخية لم تعد قائمة في زمننا الحالي، وأهمها أن النظام الموجود الآن في مصر، مصري، شئنا أم أبينا ذلك، فهو نظام وطني بمعنى الجنسية “National” وليس وطني بمعنى “Patriot”.
ونقطة “مصرية” النظام، مهمة لفهم سلوك الجماهير ضده، فلو أنه كان أجنبيًّا، سيتم الثورة ضده لإخراجه، لكن في حالة النظام الحالي أو الدولة الحالية في مصر، إلى أين سوف تطلب من النظام التوجه حال “اقتلاعه”؟!
ونأتي بعد ذلك إلى نقطة “اقتلاعه” هذه؛ حيث إنها كلمة مضحكة للغاية في حال استعمالها ووضعها كهدف لأية ثورة جماهيرية في مصر، لأنها تستند إلى رؤية خاطئة وقاصرة للغاية للدولة المصرية كما سوف نرى.
فالدولة والنظام في مصر أمرٌ مختلفٌ تمامًا عن شخصية الحاكم، وفي مصر الدولة يقدَّر تعدادها رسميًّا بحوالي ستة الملايين، وهؤلاء الملايين الستة، يسيطرون بدورهم على أسر تضم أكثر من أربعين مليون مواطن.
كما أن الدولة المصرية تخضع لقانون مهم للغاية في مجال توصيف الفساد المؤسسي، وهو أن الكل أكبر من مجموع أجزائه، حيث هي مجتمع متكامل متآلف ومتضامن مع بعضه البعض، ويتداعى لنفسه بالسهر والحمى بالمعنى الحرفي.
فالمجاملات والخدمات تتم حتى بين من لا يعرفون بعضهم البعض، من الجهاز الأمني والإداري، تتم بوفرة، لضمان أن يقوم غيره بخدمته، وهذا هو المبدأ الذي أسَّس لمافيا الفساد الحالية.
فلو أنك عزلت موظفًا عامًّا بتهمة الرشوة، فإن الباقيين من الممكن أن يتآمروا لكي يسقطوا المؤسسات الرقابية نفسها، واتهامها من خلال الأذرع الإعلامية الخادمة، بأنها تسعى إلى تنفيذ أجندات تضر بمصالح الدولة، وهو أمر صحيح في منطقه، لأنهم هم الدولة، وأي إضرار بمصالحهم يعني الإضرار بمصالح الدولة بالفعل!
كما أن هناك أخطاء في تصور مفهوم الثورة وبواعثه، ومن بين أهم هذه الأخطاء القصور الحاصل في فهم آليات تحريك الجماهير لدى النخبة الثورية في مصر، حيث هي قاصرة جدًّا، وعاطفية جدًّا وأدبية جدًّا كما تقدم.
ولنضرب على ذلك أمثلة، في رومانيا الثورة على نيكولاي شاوشيسكو لم تكن لأي سبب اقتصادي ولا حتى سياسي حقوقي، حيث ظل شاوشيسكو في الحكم يمارس شتى ألوان الفساد والاستبداد والقمع، طيلة عقود طويلة، ولم تحدث الثورة عليه لأسباب اقتصادية لأن رومانيا كانت بلدًا من بلدان العالم الثاني، وكان المستوى المعيشي للمواطن الروماني ما بين متوسط إلى جيد.
الثورة على شاوشيسكو، كانت لظرف إقليمي ودولي سمح للجماهير أنها تتحرك، فلو كان الاتحاد السوفييتي السابق في ذلك الحين في نفس مستوى قوته في الخمسينات والستينات، وكذلك الظرف الإقليمي والدولي، فلم تكن الثورة الرومانية قد نجحت في عزل شاوشيسكو.
وهو ما حدث في دول أخرى في الكتلة الشرقية التي كان يقودها الاتحاد السوفييتي في فترة الحرب الباردة، حيث تم قمع ثورات مماثلة بالقوة المسلحة، في المجر عام 1956م، وتشيكوسلوفاكيا عام 1968م، فيما عرف بـ “ربيع براغ”، ولكن ضعف قبضة السوفييت على الكتلة الشرقية سمح بما جرى في بولندا في مطلع الثمانينات أن يواصل حركة الدومينو أو التفاعل المتسلسل الذي أدى إلى تفكك الاتحاد السوفييتي نفسه!
في إسبانيا لدينا نموذج آخر مهم للغاية، وهو نموذج فرانكو فرانشيسكو، أكبر ديكتاتور عرفته أوروبا حكم في تاريخها، وتسبب في حرب أهلية مات فيها ما يقرب من مليون إسباني، وتعاون مع النظام النازي الهتلري في الحرب العالمية الثانية، ورغم ذلك، ورغم أنه تسبب في أن تتخلف إسبانيا عن ركب التقدم الاقتصادي الأوروبي في معدلات التنمية وخلافه، فإنه ظل في الحكم حتى مات على فراشه، وله ملايين المؤيدين بالرغم من كل ما تسبب فيه من خراب اقتصادي وجرائم في مجال حقوق الإنسان.
إذًا، ونكرر، فإن الحديث الآن عن ثورة جياع في مصر، أمرٌ قاصر، لأن الأمور أكبر من الباعث الاقتصادي بكثير، حيث هناك – على سبيل المثال – الحاجة إلى الأمن، وهي أهم في سلم الحاجات الإنسانية من الحاجة إلى الطعام نفسه.
أضف لذلك في الحالة المصرية، أن هناك نتيجة غائبة عن ذهنية المخططين لثورة جديدة في مصر، وهي أن قرون الحكم الفردي الطويلة وعقود الفساد المركزي الذي ترك يتفاعل في الأفرع لضمان بقاء المركز الفاسد، وهو ما سوف نتطرق له بوضوح أكثر في موضع تالٍ، أدت إلى أن تصطبغ نفسية كل مصري بنفس الطبيعة المستبدة.
فانظر إلى سلوك الزوج أو الأب في بيته؟! سوف تجد عسكريًّا ولكن بشكل آخر!
كما يغفل هؤلاء كذلك طبيعة الشعب المصري الأميل إلى الدعة، وحالة “الانبساط” والتي كرست حاجته لها، ضيق المعيشة، وانغلاق سبل التغيير غير المكلِّف.
فلو أننا نظرنا إلى تناول المصريين لما يقوله الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، من عبارات تدخل في باب الطُّرف، فسوف نجد أنها تجعله أقرب إلى المصريين من شخص جاد يجلس معهم ليحدثهم في معالي الأمور، وفي مصالحهم وحقوقهم المنهوبة!
أنثروبولوجية الدولة المصرية: رؤية معمقة “نسبيًّا”
مثلما تم مع نظام معمر القذافي في ليبيا، والأسد في سوريا، هناك قياسات خاطئة في توصيف واقع النظام المصري والدولة المصرية، وهذا هو الأهم، حيث النظرة لها على أنها بعض الكيانات والشخصيات المعزولة غير المتجذرة مؤسسيًّا ومجتمعيًّا، كما تمتاز الدولة المصرية بخصوصية حالة عن مثيلاتها في الدول العربية، في الأصل.
وأول ملمح تختلف به الدولة المصرية عن مثيلاتها في العالم العربي، من الدول التي تحكمها أنظمة عسكرية أو ملكية مستبدة، هي أن الدولة هي التي تفرز النظام، أي أنها فوق النظام، وفي الوقت الحالي، هناك مؤسسات بعينها، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية، وأجهزة الأمن السيادية، تمثل الدولة.
وكما أشرنا سلفًا؛ فلقد تكونت هذه “الدولة” على المستوى المؤسسي منذ آلاف السنين، فهي وريثة دولة فرعون بشكل موضوعي بحت، في صورتها المركزية، وفي سطوة الحاكم، وسلطته التي صارت أبوية بعدما كانت دينية كذلك قبل دخول المسيحية إلى مصر.
ثم تأسس ذراعها التنفيذي القوي، أو ما يُعرف بالبيروقراطية والجهاز الحكومي الذي صار هو رويدًا رويدًا المعبِّر الأساسي عن الدولة المصرية أمام مواطنيها، في عهد محمد علي، وأطره الخديوِ إسماعيل.
وكان هذا الجهاز في البداية مكونًا من الأتراك، ثم الأوربيين والأرمن، قبل أن يعتمد محمد علي وورثته من بعده، على المصريين الذين جاءوا من رافدَيْن أساسيَّيْن، الرافد الأول، المصريون الذين تلقوا تعليمهم في الغرب، والثاني، من الجيش بعد اعتماد محمد علي باشا الكبير، نظام التجنيد الإجباري.
ويصف روبرت هنتر في كتابه المهم “مصر الخديوية (1805 – 1879).. نشأة البيروقراطية الحديثة”، [صدرت طبعة عربية منه عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ترجمة بدر الرفاعي]، هذا الوضع من السيطرة للجهاز الإداري للدولة، بالقول أنه فيما بين عامَيْ 1806م، و1879م [بداية حكم محمد علي ونهاية حكم إسماعيل]، مرت مصر بدورة كاملة شهدت خلالها قيام وتفكك نظام حكم شخصي على قدر كبير من المركزية، ولم يكن هذا النظام ليستمر طيلة هذه الفترة، إلا من خلال بنية سياسية مركزية قوية، ممثلة في كيان إداري، امتدت سلطته إلى كل شبر من أراضي البلاد.
إلى هنا، انتهى كلام هنتر، ثم بعد ذلك، كرَّس الحكم الذي أسسته النخبة العسكرية التي قامت بحركة يوليو عام 1952م، وجود العسكر في مؤسسات الدولة الإدارية وجهازها الحكومي والبيروقراطي، سواء في الوزارات، أو في المحليات، وخصوصًا في مستوى المحافظين ومديري المديريات التابعة للوزارات في المحافظات.
وعبر العقود الماضية، وفي ظل تحول الفساد في الدولة، إلى النمط المؤسسي، تحولت الدولة المصرية إلى لا مركزيات صغيرة تتحرك تحت سلطة إسمية للحاكم، وإن مارس كل صاحب سلطة، سلطته بشكل مستقل في موضع سلطته.
وكان ذلك مقصودًا في عهد حكومات الحزب الوطني المنحل على وجه الخصوص، حيث إن ذلك يسهِّل – كما قال الكواكبي في “طبائع الاستبداد” – من مهمة الفاسد والمستبد الأكبر في ممارسة فساده واستبداده، لأنه يستنسخ نفسه في كل مكان، فيضمن عدم ظهور أي شرفاء في أي منصب يمثلوا جبهة ممانعة له، مع مشاركته للطبقات الأدنى كذلك في جانب من الغنائم، ولو كان ضئيلاً، بحيث لا يتحولون ضده.
وبالتالي، ومع الاعتراف بمركزية المؤسسة العسكرية في هذا الكيان كله، فبعد تأسيس حركة يوليو لدولتها الخاصة – وهي، إن اتفقت أو اختلفت مع دولة يوليو، فنقول إن القائمين عليها أخذوا السبيل الصحيح وفق القوانين الحاكمة لمثل هذه الحركات كما تقدَّم – استعانةً بمؤسسية دولة محمد علي في جانبها الإداري والسياسي الشديد المركزية، وطبيعة دولة فرعون، بسلطته الأبوية، وربما “الإلهية” كذلك، فإن الدولة المصرية تحولت إلى كيان هلامي ضخم ذاتي الحركة، يتبع اسميًّا فقط، رأس السلطة، وإن عجز هو شخصيًّا عن التدخل أو “التطفل” بمعنى أدق، على المستويات الأصغر في هذا الكيان.
وهو وضع مريح طالما أنه يؤمن له الاستمرار في منصبه، ولا يتصور أحدٌ أن ذلك كان يقلق مبارك الذي ترسَّخت هذه الصورة وهذه الأوضاع في عهده؛ حيث منعت كاريزما عبد الناصر وسلطويته الشديدة، أن يكون هذا الوضع قائمًا في عهده، باسثناء الجيش وقت عبد الحكيم عامر، الذي كان يحكم سيطرته عليه، وجعله مؤسسة مغلقة عليه وعلى حاشيته، حتى إزاء عبد الناصر، بينما منعت ظروف الحرب وضعف الفترة التي قضاها في الحكم، أن يسود هذا الوضع في عهد أنور السادات.
إلأ أننا نؤكد في هذا السياق على أن المؤسسة العسكرية ظلت في الخلفية هي العمود الأكبر للدولة المصرية سياسيًّا ومؤسسيًّا، حتى وإن لم يعترف لها الدستور أو القانون بذلك الوضع، ولكنها كانت تدرك أن الجهاز البيروقراطي – بالذات في عهد مبارك – قد تحول إلى كيان ذاتي الحركة، فلذلك سعت إلى أن تتواجد فيه وتسيطر عليه من خلال التعيينات في المناصب الكبرى، وإن ظل الحزب الوطني صاحب السطوة الأكبر في المستويات المركزية والفرعية الوسيطة والمحلية الأصغر.
وهنا نقف أمام مصطلح شديد الأهمية في هذا الصدد، وهو مصطلح “الدولة العميقة” الذي هو يوصِّف الدولة المصرية بالأساس، وأخذته أدبيات سياسية وأكاديمية عربية في عمومه لوصف الدولة في المركزيات الجمهورية التي تحكمها عسكريتاريا أو أحزاب أيديولوجية على غرار سوريا والعراق في عهد البعث.
وتُعرَّف “الدولة العميقة” على أنها التنظيم أو التركيبة الحقيقية الفاعلة داخل الدولة، وتعمل بعيدًا عن الأطر المؤسسية الرسمية أو القانونية بمعنى أدق، ولها النفوذ والتأثير الحقيقيَيْن على النظام السياسي والعام داخل المجتمع، بعيدًا عن سلطات المؤسسات المنتخبة، كالبرلمانات، وتتكون من عدد من المؤسسات التي تملك القدرة على التأثير، سواء من خلال المال أو السلطة المطلقة سواء التي تمارسها بحكم الأمر الواقع، أو يكفلها لها القانون.
وغالبًا ما تتكون من شبكة من تحالفات المصالح، لأطراف نافذة، مناهضة للديمقراطية في الغالب، باعتبار أن الديمقراطية تعني في أبسط معانيها التداول السلمي للسلطة، من خلال صناديق الاقتراع، مما يهدد قواعد المؤسسات والأشخاص الموجودين في الحكم من الدولة العميقة.
ويستند قسم مهم من هؤلاء، مثل قيادات أجهزة المخابرات، والأمن السياسي، والقوات المسلحة، والقضاة، وكبار رجال الأجهزة البيروقراطية، في نفوذهم وقوتهم، وبالتالي تأثيرهم، إلى ما يمنحهم إياه القانون من سلطات وصلاحيات، يحمون بها باقي أجزاء الدولة العميقة من أصحاب المصالح، الذين يتشاطرونهم المصالح الاقتصادية والسياسية، والتي تتتلخص في أمرَيْن أساسيَّيْن، الثروة والنفوذ، مثل رجال الأعمال وأصحاب الملكيات الزراعية الكبرى، وغيرها من الفئات صاحبة الثروة وبالتالي، النفوذ.
ويمكن لهذه المؤسسات، بمنتهى البساطة أن تزيح الحاكم، متى خرج عن السياق العام الذي تسير في إطاره الدولة، حتى ولو ترتب على ذلك الأمر، بتر جزء من مؤسسات هذه الدولة، لو تمرد عن النسق العام الذي تتحرك في إطاره، تمامًا كما تم مع مبارك ونجلَيْه والحزب الوطني وجهاز مباحث أمن الدولة، وكل الدوائر الأمنية والسياسية التي كانت تدعم مشروع التوريث الذي كان سوف يخرج الدولة من سيطرة المؤسسة العسكرية بشكل كامل، ويهدد نفوذها السياسي، وبالتالي مصالحها الاقتصادية، وهذه مقدرة بعشرات إن لم يكن بمئات المليارات من الدولارات.
وهنا نقف أمام سمة مهمة للدولة المصرية، تتضح من هذا العرض، وهي أنه لا يوجد فيها مفهوم الفصل بين السلطات، ولا توجد أي حدود بين هذه السلطات، فكلهم متضامنون معًا، وكلهم ينتمون إلى ذات الإطار، سواء الحزب الوطني فيما مضى، رسميًّا من خلال العضوية، أو من خلال شبكة مصالح فعلية تتضمن الكثير من الأموال التي تُدفع، أو المؤسسة العسكرية، كما تجلى بكل وضوح في مرحلة ما بعد انقلاب 2013م.
كما يدعم من ذلك شبكة هائلة من الإعلام، بما فيها الإعلام القومي، تتحرك في ذات النسق الدقيق الذي تمثله هذه القنوات ويتقاطع في مصالحه ومصالح أصحابه مع مصالح هؤلاء، في مجال الثروة والنفوذ.
ما الحل؟!
نحن إذًا أمام واقع مختلف، يحتاج إلى تطوير في آليات الخطاب الإعلامي والفعل السياسي الراميَيْن إلى تثوير الجماهير، بل هو بحاجة إلى آليات مختلفة تمامًا عن تلك المتبعة في الوقت الراهن.
وأهم ما هو مطلوب في هذا الصدد، هو البحث عن حل لعقدة مركزية المؤسسة العسكرية في عملية التغيير في مصر، حيث إن استبعادها غير ممكن، لأنها ليست بمؤسسة سياسية أو أيديولوجية، بل إنها مكون مجتمعي وسياسي واقتصادي أساسي في مصر، ولا شيء يمكن أن يلزمها بالتخلي عن مكتسبات عقود طويلة مضت، حتى وإن اعترفنا أنها قد اكتسبتها بالفساد.
ويبدو – في وجهة نظرٍ خاصة – أن الحل الوحيد يكمن في حراك جماهيري واسع تخشى معه المؤسسة العسكرية والدولة بشكل عام من حالة خراب عام، تطيح بمكتسباتها أو تطيح بها هي وبتمساكها.
تكرار هذا المشهد بحاجة إلى طليعة ثورية بعشرات الآلاف
وهذا الحراك لن يمكن الوصول إليه إلا من خلال تحرُّك نخبة واسعة من مختلف أطياف الشعب المصري؛ حيث إن هذه النخبة الكبيرة سوف تكون ضمانة تحرك الجماهير معها كما تم في الثامن والعشرين من يناير 2011م وما تلاه.
وأهم دليل على ذلك، هو إضراب سائقي هيئة النقل العام بالقاهرة، الأخير الذي لم يتم، حيث إن السائقين والمحصلين تضامنوا مع زملائهم من قيادات الإضراب، حتى تم اعتقال هؤلاء، فعاد العمال إلى عملهم بشكل طبيعي، فلو أن النخبة الداعية للإضراب كانت قد تعاملت مع الموقف الأمني بشكل منع الاعتقالات – تم اعتقالهم فجرًا من الجراجات التابعة للهيئة – وجعلهم في موضع حركة، لنجح الإضراب.
هذا الأمر، لن يمكن تحقيقه في مصر على المستوى الزمني القريب؛ حيث يتطلب إعدادًا طويل المدى، يتضمن وثيقة مفصلة بما سوف يتم في المرحلة الانتقالية وكيف سيتم تفادي الأخطاء التي تمت بعد نجاح ثورة يناير في تنحية مبارك؛ لأن الشعب المصري لا يحب أن يكون من الغارمين!