قبل أن يرجع لي جواز سفري، توعدني أحد المسلحين الذين كان يرتدي زي رجال الشرطة بالترحيل من ليبيا في غضون ساعتين، والسبب ما يلقاه الليبيون المقيمون بتونس من حيف ومن سوء معاملة، وبوصفي تونسيًا فإنني أستحق قطعًا وفقًا لهذا المسلح أن أعامل بالمثل، حصل هذا الموقف في ثاني أيامي في ليبيا عندما استوقفتنا بوابة أمنية بينما كنت وصديقي عمر نستقل سيارة أجرة باتجاه أحد المطاعم، بدد عمر الموقف المتشنج بدبلوماسيته المعهودة قبل أن يسمح لنا بالمرور، وأحدثت ردة فعل هذا المسلح في نفسي شيئًا من الصدمة، حتى إنني فكرت طوال تلك الليلة فيما جئت أفعله في هذا البلد.
حسنًا، كان هذا الموقف هدية الترحاب الأولى في بلد يرى فيه كثر وخاصة هنا في تونس ساحة حرب ملتهبة يعد مفقودًا كل من يغامر بالدخول إليها، تزيد في ترسيخ هذه الفكرة واقعة اختطاف الزميلين سفيان ونذير المختطفين في ليبيا منذ أكثر من سنتين، وعلى العكس تمامًا من هذه الفكرة كنت أعلم بحكم زياراتي السابقة لبلد المختار أن فيها مناطق كثيرة تتوفر على الحد الأدنى من الأمن والهدوء، ربما ليس مطلق الأمن ومطلق الهدوء بفعل عمليات الخطف والسطو التي تحدث من حين لآخر داخل المربعات التي من المفترض أنها آمنة، ولكن ذلك الحد الأدنى الذي كان يكفل تواصل الحياة واستمرار الخدمات بشكل شبه طبيعي.
في الأسابيع الأولى كان لدي هاجس أن أُخطف أو أصف خاصة بوصفي صحفي أجنبي، وكان هذا الهاجس يعلو وينخفض بفعل ما أسمعه عن عمليات الخطف التي تحدث داخل طرابلس رغم أن وتيرتها خفت بشكل ملحوظ مع بدايات العام الحالي، ومع ذلك تحدث عمليات من هذا النوع من حين لآخر، وتستهدف فيما تستهدف العمالة الأجنبية خاصة من يأتون من دول إفريقيا الوسطى، قبل عودتي إلى تونس بحوالي شهر أخبرني أحد العمال التونسيين أن كتيبة قوامها عدد من السيارات المسلحة داهمت منزلاً يأويه وزملاء له كلهم من التونسيين وافتكت كل أموالهم ومتاعهم دون أن يعلموا من هم و لا عند من يتظلمون.
لم يكن التعايش مع هاجس التعرض لمكروه التحدي الوحيد في ليبيا، فقد كانت هناك تحديات أخرى كثيرة أولها كان في استيعاب تراكمات الأحداث والوقائع والتقلبات التي طرأت على المشهد الليبي منذ فبراير 2011 تاريخ اندلاع الثورة الليبية، إلى حدود توقيع الاتفاق السياسي برعاية أممية في ديسمبر 2015، وبحكم أن لكل حدث ومحطة كمًا واسعًا من التفاصيل والجزئيات، بالإضافة إلى خلفيات كثيرة متشعبة ومتناقضة لصناع القرار الجدد في البلاد، فإن استيعابها ومن ثمة فهم كيفية تشكل المشهد الماثل أمامي مع مختلف التراكمات التي أدت إليه كان أمرًا صعبًا نسبيًا، الأصعب منه أن تجد من الإخوة الليبيين من يجمع في الآن ذاته إلى جانب الفهم الجيد للمشهد طول البال للإجابة على كل الأسئلة والاستفهامات التي كانت ما تنفك ترتسم أمامي.
بعد أسابيع قليلة وبفعل جهد متواصل وبحث وإصرار أذعنت استفهامات وأسئلة كثيرة وتحولت إلى معطيات مهمة استفدت منها وأوردتها في تقاريري ومقالاتي سهلت على كثير من المهتمين والمتابعين فهم وجهة الأحداث وحيثياتها رغم المغالطات والتزييف التي ما فتئت أبواق كثيرة تطلقها بعلم أو بدون علم.
في تونس كما في دول أخرى كثيرة تعودنا تفكيك الشأن العام والتطرق إليه من خلال أدوات ومداخل معينة منها التاريخي ومنها الموضوعي، من يستعملون نفس هذه الأدوات في فهم المشهد الليبي يسقطون في خطأ جسيم وتكون غالب نتائج محاولاتهم صفرية، فعلى سبيل المثال لا وجود في ليبيا لمنظمة نقابية عريقة وقوية تلعب دورًا في تحديد السياسات العامة للبلاد ويلجأ إليها الفرقاء كلما اشتد بهم الخلاف، كما لا وجود لخلاف إيديولوجي صرف بين فرقاء السياسة والسلاح، إذ إن الخلاف بين هؤلاء سياسي بامتياز رغم أن الحياة الحزبية في ليبيا كانت مقفرة في عهد القذافي، ورغم انعكاس هذا الأمر على جدية وتماسك الأحزاب التي نشأت بعد الثورة وباستثناء حزبين أو ثلاثة لا تأثير مطلقًا ولا ذكر للأحزاب السياسية.
مع ذلك يمكن الحديث عن تيارات مثل الإسلاميين أو الليبراليين أو ما تبقى من نظام القذافي ويصعب في هذا السياق وضع تيار على حساب آخر في خانة الثورة أو القوى المضادة لها، فباستثناء المحسوبين على نظام القذافي الذين عاد بعضهم إلى المشهد بشكل وقح وفج فإنه يصعب تصنيف باقي التيارات حسب معيار الثورة، فهناك من هذا التيار أو ذاك من بدأ ثائرًا وانتهى منقلبًا على الثورة، وهناك أيضًا من كان على علاقة بنظام القذافي، فلما قامت الثورة دعمها من ألفها إلى يائها وبين هذه التصنيفات والتقسيمات تتمدد القبلية والمناطقية لتكون البعد الأهم في أثافي الأزمة الليبية، فلا يمكن استيعاب التشظي الكبير الحاصل في جارتنا الشرقية دون الحديث عن تنازع القبائل السلطة والموارد والأموال ودون فهم التنافس التاريخي بين أقاليم ليبيا الثلاثة برقة وفزان وطرابلس، وتنافس يتنزل الآن سياسيًا في دعوات ما فتئ صوتها يعلو مطالبة تارة بنظام حكم فدرالي وتارة أخرى بالانفصال عن ليبيا، في هذا الموضوع بالذات تزكم رائحة التدخل الأجنبي المصطبغة بسواد النفط الأنوف.
لم أستغرب غداة استقراري في ليبيا من شيء بقدر استغرابي غياب الجرائد اليومية والأسبوعية، ولم تكن حتى تلك التي كانت تصدر بشكل شبه منتظم ذا قيمة كبيرة، على الأقل بالنسبة لي كأجنبي، إذ غابت عنها المقالات التحليلية التي كنت أمني النفس بالاعتماد عليها لفهم واقع الأمور، كما غابت عنها المقالات الفكرية غيابًا مطبقًا وحضرت فيها الأخطاء اللغوية والتركيبية بشكل فظيع.
سبب لي ذلك خيبة أمل كبرى وطرحت السؤال على بعض الأصدقاء أكثر من مرة، كيف يعقل ألا تكون هناك جرائد يومية وكيف يستقيم أن ندخل المقهى صباح كل يوم دون أن نجد من بين الجالسين من يقلب صفحات الجريدة، وكيف يمكن لبلد كانت له في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين حركة أدبية ومسرحية وثقافية ثرية ومحترمة أن تكون صحافته المكتوبة بمثل هذا الضعف والترهل.
يجيب أصدقائي الليبيين بأن القذافي قضى على كل نفس ثقافي فكري خارج أطر نظامه، كما أضعف العملية التعليمية بشكل شبه ممنهج، وهو ما انعكس ضعفًا عامًا على قطاعات عدة أهمها وأبرزها الخدمات الطبية التي يلجأ الليبيون إلى دول الجوار أفواجًا طلبًا لها رغم ما يكلفهم هذا ذلك من مشقة وأموال، كما لا يخرج الضعف العام للمجال الإعلامي وافتقاده للكوادر وللخبرات عن هذا السياق.
يكابد الليبيون منذ سنوات مشقة الحصول على العلاج في تونس ومصر وتركيا ودول أخرى لمن استطاع إلى ذلك سبيلا ويزداد الوضع سوءًا بفعل نقص السيولة في المصارف وارتفاع قيمة الدولار مقابل العملية المحلية، ومنذ سنة ونصف تقريبًا يزدحم الليبيون بشكل كبير أمام المصارف طلبًا للسيولة، فلا ينالون منها إلا قدرًا بسيطًا لا يسد احتياجاتهم وفيهم من يقضي الجزء الأخير من الليل أمام المصرف، تجنبًا للطوابير الطويلة في أولى ساعات النهار وللعراك والمناوشات التي تحدث بين المنتظرين من حين لآخر والتي أدى بعضها إلى حوادث قتل مؤسفة.
ليس كل ما سبق إلا جزءًا من معاناة الليبيين، فالكهرباء تنقطع بين ثلاث واثنتا عشرة ساعة بشكل شبه يومي، ومع الارتفاع الكبير لدرجات الحرارة خاصة في مناطق ليبيا الداخلية ومع الحصار الذي تفرضه أصوات المولدات المزعجة في كل ركن وزاوية يصبح الخناق مطبقًا والمعاناة مضاعفة.
في الأول من مايو الماضي أطلقت القوات التابعة للمجلس الرئاسي (أعلى سلطة تنفيذية بموجب الاتفاق السياسي) بإسناد من مختلف كتائب الثوار في المنطقة الغربية عملية البنيان المرصوص بهدف تحرير مدينة سرت من قبضة تنظيم الدولة ودفع الليبيون إلى حدود اليوم زهاء 500 شهيد من أبنائهم في حربهم ضد الإرهاب، كما فقد آخرون أطرافهم وأعينهم و قدرتهم على التحرك بشكل طبيعي و بالرغم من كل هذه التضحيات العظيمة فلا كبير أثرٍ في الإعلام العالمي لهذه المعركة المصيرية بالنسبة لليبيا وبالنسبة للاستقرار في شمال إفريقيا وجنوب أوروبا، هذا التجاهل الإعلامي البين لا تفسير له إلا محاولة قوى غربية وعربية بعينها تقزيم هذا الإنجاز وإنكاره على الثورة والثوار، نفس هذه القوى كانت تحاول جاهدة في محطات سابقة وصم الثورة والثوار بالإرهاب
في ليبيا مقومات كثيرة لبلد قوي ومؤثر إقليميًا ودوليًا ربما هذا ما يجعل قوى بعينها جد متحمسة لرؤية أبناء الوطن الواحد يرزحون تحت التجهيل والحروب والانقسامات والانقسام، هو ما عمل أعداء ليبيا والثورات على تكريسه وإنهائه هو العنوان الأول والأساسي والأخير في أي مسار ينشد إحلال السلام والاستقرار في بلد سيكون على أعتاب نهضة عظيمة لو قدر للرياح الداخلية والخارجية أن تلائم أشرعته.