عندما قرأت رائعة إليزابيث جيلبيرت “طعام صلاة حب” وددت لو مررت بالتَجربةِ نفسها، السفر، الأكل، الصلاة، الوقوع في الحب.
تلك المرأة التي فقدت كل شيء (زوجها وثروتها) ثم بدأت من الصفر، في بلد غريب، تأكل وتسمن وتتعلم لغة جديدة.
لم أكن بحاجة وقتها لتعلم لغة جديدة، الأكل، أو الوقوع في الحب. إنها تلك الفترة من حياتك التي ينتابك فيها الرضا لمدة قصيرة جدًا، ثم بعدها يتداعى عالمك تمامًا .
فجأة تجد نفسك وحدك تمامًا وأمام رحلة مجهولة إلى بلد أسيوي تجهل عنه كل شيء، وقتها كل طموحاتك بالسفر تنكمش وتتقلص وتشعر برغبة شديد في البقاء داخل حجرتك الآمنة.
وكان هذا البلد “ماليزيا” العاصمة الماليزية كوالالمبور على وجه التحديد.
(أظن أنني أستحق شيئًّا لطيفًا)
إليزابيث جيلبرت – طعام صلاة حب
الرحلة
أتت لي فرصة السفر إلى ماليزيا. كفتاة عربية لم تخطو وحدها خارج حدود طريق “القاهرة – الإسكندرية” الصحراوي حان وقت صعودها وحدها على طائرة.
تلك الفتاة التي تخشى المرتفعات، تهاب ركوب السيارات وتفضل القطارات سوف تصعد وحدها عابرة عدة بلدان من أجل الوصول إلى رقعة لا تعرف عنها أي شيء، بل لم تحلم بزيارتها قط.
ترددت كثيرًا حول السفر لكنني بالنهاية فعلتها، ظللت أتحدث إلى أصدقائي الذين مروا بتجربة السفر، اسألهم الكثير من الأسئلة حول: كيف هو المطار؟ كيف هو الصعود إلى الطائرة؟ هل سأموت؟ هل سيتم اغتصابي في أحد الأزقة؟
لكنني سافرت بالنهاية، ولم تكن رحلة الطائرة ألطف ما مررت به!
لم تستغرق الرحلة الأولى من القاهرة إلى مطار أبو ظبي سوى ثلاث ساعات، أكلت خلالها ما تم تقديمه لي وشربت ما شربته، وراقبت الفتاة الأسيوية والفتى الهندي اللذان جلسا إلى جواري، تناولت الفتاة وجبة فطورها السيئة ثم غطت وجهها ونامت
في الرحلة الثانية التي استغرقت حوالي ست ساعات جلس إلى جواري رجلان يبدوان من الرحالة، يتحدثان الفرنسية لكنهم لم يبدوا كفرنسيين، ولا تسأل “كيف يبدو الفرنسي فرنسي” لا أعلم فقط الأمر كان كذلك.
حاولت فتح أحد الأحاديث مع الشخص المجاور لي، وكان هذا خطأ عمري، عندما أخبرته أنها مرتي الأولى على الطائرة. بدوت على درجة كبيرة من السذاجة والبلاهة وأنا أسأله عن كيفية عمل الشاشة المعلقة أمامي، فأراني كيفية العثور على الخريطة وتتبع الوقت المتبقي في الرحلة، كنت أراقب الطائرة وهي تطير، وعداد الدقائق يمر بشكل سريع.
غفوت قليلًا، ثم شعرت بيد ذلك الرجل تتسلل لتوضع فوق ردفي، انفضت فسحب يده سريعًا.
لم يعتذر وبدا مرتبكًا، ثم تظاهر بالنوم.
جلست في مقعدي متسمرة، أمامي حوالي أربع ساعات على الوصول، ذلك الرجل حاول التحرش بي وأنا نائمة، أقنعت نفسي أنه يجب أن أتحرك، إن لم أستطع تقديم شكوى ما على أقل تقدير يجب أن أنتقل من مكاني.
“أنا لست في مصر” هكذا رددت.
بطبيعة الحال نسبة كبيرة من الفتيات المصريات عندما يواجهن حادث تحرش يصمتن، ينتقلن من مكانهن، يكتفين بالتهزيق. من تحاول سباب المتحرش، ضربه، اللاقتراب منه تجد مليون يد تعترضها، تضربها، تتحرش بها، تخبرها ببساطة ألا تفضح نفسها. تتفحصها لتلقي اللوم عليها، هذا ما أصبح عليه الشعب المصري “مجموعة من الزومبي” وأصبحت المرأة كائن مفزوع مروع.
تملكتني الشجاعة أخيرًا وتحركت ناحية ركن المضيفين وطلبت من أحدهم تبديل مقعدي. كنت مرتبكة، مفزوعة، والشعور بالوحدة والندم يأكلني.
عندما سألني المضيف عن السبب أخبرته بصوت مختنق أن أحدهم حاول التحرش بي.
ثم انفجرت بكاءً، احتضنتني مضيفة كورية كانت ابتسمت لي عندما ناولتني فنجان قهوة وشكرتها بالكورية “كامساهاميدا”.
وبين عروض غسيل الوجه وشرب الماء والجلوس لأهدئ في ركن المضيفات تولت المضيفة الكورية نقل حقيبتي الصغيرة التي وضعتها تحت مقعدي وكتابي “جنوب الحدود غرب الشمس” رفيقي الوحيد في الرحلة.
سألتي إحدى المضيفات التي لم أستطع تبين جنسيتها من شكلها أو لكنتها من أين أنا، أخبرتها أنني من “مصر”، فرأيت نظرة امتعاض على وجهها وهي تجيبني: آه، كنت هناك مرة، يا له من بلد جميل”.
امتعاضها الواضح أشعرني بالتقلص، لكن ذلك الشعور لم يستمر لأني نقلت نفسي بعيدًا عن ذلك الرجل الغريب، أخذت حقيبتي التي وجدتها “مفتوحة”! وكتابي، وجلست إلى جوار فتاة شابة جميلة تقرأ وتشرب الشاي الأخضر، سألتني الفتاة إن كنت بخير وعرضت علي غطاء ومخدة، بينما سألتني امرأة أخرى -تبدو مماثلة لها لكنها أكبر سنًا- إن كان هناك شخص ما ينتظرني أم أنا بحاجة إلى مرافق.
وقتها بدأت أهدأ بشكل ما، أو لعلي لم أهدئ، كنت أحدق بالفراغ، لا أستطيع القراءة، التفكير في أي شيء،
لا تعتذر عن بكائك، تلك المشاعر التي نملكها نحن بدونها كالربوتات
إليزابيث جيلبرت – طعام صلاة حب
وصلت إلى ماليزيا، وركبت ذلك القطار الصغير الذي نقلني من مكان الهبوط إلى المكان الخاص بالخروج، انتظرت حقيبتي الصغيرة حتى ظهرت، ثم بحثت عيناي عن الصديق المعني بمقابلتي، للمرة الأولى بحياتي ظللت 12 ساعة دون سماع كلمة واحدة عربية أو التحدث بكلمة واحدة عربية، ما أن رأيت ذلك الصديق حتى تعلقت به كالأطفال، حاول إقناعي بالذهاب والشكوى لكنني طلبت منه أخذي بعيدًا عن المطار، أنا أريد فقط الاختباء في أحد الأركان الآمنة.
كوالالمبور العاصمة الخضراء
وصلت ليلًا فلم أر من الطريق شيئًا سوى الكثير من الخضرة.
أنت لن تدرك حق حاجتك إلى المساحات الخضراء إلا عندما تحيط بك، في العاصمة الماليزية قابلت الكثير من المساحات الخضراء، على عكس قاهرة المعز ذات الهواء الثقيل أصبح تنفسي أفضل في “كوالا”، ولم تعد تنتابني نوبات السعال الشديدة.
وبسبب بعض الأمور التي تتعلق بشخصيتي الانعزالية، وشعوري بالراحة لم أستقر في “كابيتول هوتيل” بل استقر بي الأمر في أكثر الأماكن التي رأيتها هدوءًا وأمانًا وجمالًا Riana Green.
ما لم أستطع نسيانه حتى الآن هو استيقاظي صباحًا والتحديق إلى تلك الكتلة الخضراء التي تطل عليها نافذتي، الراحة، الشعور وكأنه بإمكانك الموت بسلام الآن، رغبتك في توقف كل شيء والاستمرار فقط في التحديق إلى تلك الكتلة الخضراء للأبد.
ماذا فعلت هناك؟
لم أفعل أي شيء سوى تناول الطعام، الاستمتاع بالأكل وكسب المزيد من الوزن، كنت أفعل كما فعلت إليزابيث جيلبيرت بالضبط، أتناول الكثير من الطعام وأخبر نفسي ببساطة: سوف نحل هذه المشكلة في المستقبل.
دائما ما وجدت في الطعام رفيق الروح، جابر كسور الأحلام والقلوب، إنه الصديق الذي لا يخذلك أبدًا ولا يتخلى عنك مهما حدث؛ لهذا استمريت في تناول الطعام بشراهة.
شراب جوز الهند من أكثر المشروبات انتشارًا في ماليزيا، رخيص الثمن ومتوافر في الشوارع بشكل كبير، تجد العديد من الأشخاص يقومون بتقشير جوز الهند، يجعلونك تشربه وتأكله مستمتعًا بطعمه البشع!
نعم، تلك كانت مرتي الأولى التي تناولت بها جوز الهند الطازج وقد كرهته للأبد.
مهما أخبرني أحدهم أنه صحي، أنه رائع، هو فقط بشع ولا أرغب بتجربته مرة أخرى.
كعادة أي بلد أسيوي الشاي جزء لا يتجزأ من روتين مشروباته اليومي، عليك تجربة أنواع الشاي المثلج التي يقدموها خصوصا “الشاي باللبن”، “الشاي باللبن المثلج” بالنسبة لأهل ماليزيا يعتبر من مشروباتهم المقدسة، سوف يحاولون إبهارك بمدى روعة مشروباتهم المحلية، ما أن تتذوقها حتى تجدها مجرد “شاي بلبن مثلج”!
لكن الأمر يستحق التجربة على كل حال.
ستجد في ماليزيا الكثير من المطاعم الرخيصة، الطعام رخيص في ماليزيا وجودته عالية، كذلك ستتمكن من التواصل بسهولة مع أهل البلد فنسبة كبيرة منهم تتحدث الإنجليزية.
لم أحتك بالكثير من الماليزيين في سفري، كنت أتناول الكثير من الأطعمة وأتأمل المساحات الخضراء، لم أذهب إلى أحد المتاحف أو المعابد أو أي شيء على سبيل السياحة، فقط كنت أتناول الطعام وأحدق في المساحات الخضراء.
العودة
أكثر ما افتقدته عند عودتي إلى القاهرة الهدوء الماليزي، الأمر لا يتعلق بهدوء الشوارع أو أي شيء من هذا القبيل، الأمر يتعلق بالأشخاص، لم ينظر لي أي شخص طوال الرحلة، شعرت بكوني غير مرئية، لم أصادف عائلات تحدث ضوضاء كبعض االعائلات العربية، في الوقت الذي يلتزم به سكان البلد بالوقوف في جانب واحد من السلالم المتحركة تاركين مساحة لأي شخص على عجلة من أمره، نجد بعض العرب يقفون بعشوائية، أمام السلالم المتحركة، يصيحون بأعلى صوتهم، يسخرون ويتفحصون فيمن حولهم.
كذلك افتقدت تلك الابتسامة التي يقدمها لي أي بائع عندما أشتري أي شيء منه، الطريقة التي يقولون بها Have a nice day.
عندما تعود إلى بيتك بعد فترة طالت أو قصرت سوف تشعر بتغير العديد من الأشياء، ستظل فترة تتحدث فيها عن تجربتك بينما جميع من حولك يحدقون إليك بنظرات فارغة على سبيل “أوجعت رأسنا”، لن تتلقى الكثير من الابتسامات، ولن تجد تلك الأشياء المجانية التي يضيفها الباعة إلى طعامك، أو الخصم الذي يعطونه إليك لمجرد أنك اشتريت أكثر من قطعة شوكولاتة، ستفتقد الكثير من الأطعمة التي كرهتها، كما أفتقد شراب جوز الهند غريب الطعم هذا، وكما أفتقد خبز الكاري، والسمك الحلو والحار، والأرز المقلي، وعصير قصب السكر البارد.
السفر سيجعلك تحن إلى تلك الفترة التي كنت فيها غريبا، أجنبينا يتلقاك الجميع بابتسامة، ويهزون إليك رأسهم عندما تنظر إليهم.