جاء مؤتمر جروزني الذي انعقد لتحديد من هم أهل السنة باعثًا لثارات ونزاعات، بين مادح وناقد ومؤيد ومعارض، وقد ذهب كل فريق مذاهب شتى تخرج عن موضوعه وتنحو به جهة اهتمام كل منهم بإحدى زواياه أو أبعاده، مما يعتمد في الغالب على انتماء المادح أو الناقد وتوجهاته، وإن كان ينبغي أن يتم التفريق بين إعلان الانتماء لمذهب فكري أو ديني وبين انحيازات صاحب كل مذهب ومواقفه، فاتِّبَاع فكرة أو منهج لا يسحب حركة صاحبها وموافقه على تقرير تأييد أو معارضة لها، ولكن حقيقة الفكرة ذاتها، وصمودها أمام الاعتراضات والانتقادات، وقدرتها على التأثير في حياة الخلق هي التي تحدد مقدار هذا التأييد من عدمه.
(1)
لقد أعاد هذا المؤتمر إلى الواجهة قضايا الصراع بين (الأشاعرة والماتريدية والصوفية) من جهة و(السلفية) من جهة أخرى حول مسائل اعتقادية، والحق أن هذا النزاع لم يكن قد توقف حتى يستعيده المؤتمر، فإنه دائمٌ مستمرٌ ما بقيت هذه المدارس، وكما استمر بقاؤها طيلة قرون ماضية، فإنه لا يلوح في أي أفق قريب انتهاء هذا التنافس بانتصار أحد أطرافه وانهيار طرف آخر، وكما يقول شيخ الأزهر الدكتور عبد الحليم محمود
“استمرت الخصومة بين: النصيين.. والبصيريين.. والعقليين.. ومن غريب الأمر أن أية قوة من هذه القوى لم تخر صريعة، بل بقيت قوية، واستمرت في كفاح ونضال حتى يومنا هذا.. لا تزال تلك القوى الثلاث تتصارع حتى عهدنا هذا، ونعتقد أنها ستستمر، ذلك أنها تُمثِّل نزعات فطرية في بني الإنسان: فبعضهم، واقعي يتجه إلى النص، ولا يريد أو لا يمكنه أن يسير إلى أبعد منه. وبعضهم: يحتفظ بشخصيته قوية جارفة لا تلين، فهو عقلي أو اعتزالي. وبعضهم رقيق الشعور، مرهف الحس، ملائكي النزعة، فهو بصيري أو صوفي. هذه الفطر ستستمر في بني البشر ما دام على وجه الأرض، أفراد من النوع الإنساني، ومن هنا كان خطأ هؤلاء الذين يحاربون التصوف، أو الاعتزال، أو النصيين، على أمل أن يقضوا على هذه الاتجاهات قضاءً تامًّا” [د/ عبد الحليم محمود: قضية التصوف.. المنقذ من الضلال، ط. دار المعارف ص232 : 234 باختصار].
(2)
والحق أنه لا جديد أعلنه أنصار هذا المؤتمر ومعارضوه فيما يتعلق بموقف كل طرف من الآخر، فهي مواقف معلنة مسبقًا بل ومستقرة أيضًا في أذهان جميع المعنيِّين بموضوعه، ولعل الجديد هنا هو الظرف والمناخ الذي يُقرأ في ظلالهما انعقاد مؤتمر كهذا، من جهة تحرك الأطراف المشاركة فيه مع داعميه وأيضًا مضيِّفيه، هنا حبكة الرواية وعقدتها، هنا المتن والباقي حواش.
ولا شك أن بعض ما كُتِبَ تعليقًا على هذا المؤتمر فيه بخسٌ لأهمية موضوعه وتقليلٌ من آثار هذه الأهمية، فليس صحيحًا أن هذا النقاش حول مسائل عقيدية كالاستواء والنزول والتجسيم والتشبيه من الأمور التافهة أو الباردة كما وصفها البعض، بل إنها جزء من منظومة متكاملة من الضوابط المحددة لطبيعة المنهج الذي يتخذ منه المرءُ مسارًا يدرك به كُنْهَ هذا الكون وحقيقة الوجود، وهذه نماذج لتجلياتها في الإدراك، وهو أمر جِدُّ خطير، تبدو بعض نقاشات هذه المسائل مغرقة في التنظير، غير أنه النظر المحدِّدُ للماهية، الضابط لمجال الحركة والسلوك، المجيب عن اعتراضات الأذهان وتساؤلات العقول، بل إن كثيرًا من مزالق موجة الإلحاد المعاصر تَصْدُرُ في كثير من بواعثها عن نقص وتقصير في تحصيل هذا الباب.
ومن جهة بعض أنصاره ومنظميه فقد كان جليًّا حضور الدعاية السياسية، وإن شئت الدقة فقل المكايدة السياسية في حديثهم عنه، وردِّهم على انتقادات خصومه، بشكل يُفقد المؤتمر منزلة موضوعه السامية، ويفرغه من مضمونه العلمي، وينزع به نحو استغلال دعائي لخدمة طرف ضد مناوئيه.
(3)
لذا نؤكد أن الانعكاسات على غير المجال العقيدي لهذا المؤتمر هي المظهر الأجلى له، سواء كانت على التحالفات القائمة وطبيعة الصراعات داخلها، أم على تحركات القوى الخارجية واستخدامها للعقيدة بهذا المستوى من الوضوح في صراعاتها، أم من تفاعل بعض مؤسسات وتيارات الداخل معها، وحدود الحركة المسموح بها وتلك المقدور عليها لهذه الفواعل المختلفة.
إن أدنى ما يمكن أن يقال عن انعقاد مؤتمر كهذا بتركيبة المؤسسات المشاركة والأطراف الداعمة له أنه يؤشر على أن الاستخدام السياسي له في الصراعات الدائرة في الإقليم هو المحرك الأساسي لتمويله ودعمه، وأنه لن يؤثر على مجال العقيدة، إذ لا جديد قدَّمه في هذا الباب، وغاية أثره تكمن في مدى ما يمكن أن يكون قد أوصله من رسائل تحركات الأطراف الداعمة له إلى أطراف محجوبة عنه وموجَّه ضدَّها، وفي النهاية ستظل قواعد الحركة السياسية أكثر تأثيرًا وفاعلية من توجُّهات مؤتمر كان عبارة عن أداة بيد من دعمه وموَّله وأضافه على أرضه أو أرض تابعيه.
(4)
إن أسلم طريق لهذه الأمة في ظل ما تمُرُّ به من أزمات ونكبات أن تبقى هذه النقاشات التنظيرية الفلسفية مستمرة في قاعات الدرس ونقاشات المتخصصين، أما النزول بها لمستوى المؤتمرات الصحفية التي تتم تغطيتها في نشرات الأخبار فلن يفيد منها العامة علمًا بالعقيدة يُذْكَر، فلن ترد على شبهة، ولن تقوِّم اعوجاجًا في المنهج والمعتقد، وسيكون تأثر العامة الأكبر بمن يدرك مشكلاتهم الحقيقية ويسعى لحلها، بمن ينصرهم لا بمن ينصر عليهم، وبمن يستقي أدوات من مناهج النظر هذه في الكون والوجود والخلق والحياة والممات والحساب والجزاء لتقرير قيم العدل والحرية والكرامة والمساواة في المجتمع، هذا هو الأبقى أثرًا، والأوْلى بالاعتناء، والأقنع للألباب، وليحذر من يتساهلون في استخدام العقيدة في صراعات إقليمية ودولية من تبعاته الجسام وعواقبه الوخيمة.