عرفه العالم دبلوماسياً ودوداً، منادياً بالسلام ومتحدثاً عن أهميته للأجيال القادمة بخطابات من قبيل: من أجل مستقبل أطفالنا وأطفالهم. حسناً، يغيب بيريز وقد رأى الجميع ما آل إليه مشروع التسوية السياسية من تكريس هيمنة نظام الاحتلال الإسرائيلي على الأرض ومصادرة فرص الشعب الفلسطيني في مستقبل مُشرق أو حتى “دولة قابلة للحياة”.
الواقع أنّ نظام الاحتلال لم يكن في غنى عن سياسي مثل بيريز، فقد صعد بهيئة مدنية في مجتمع الجنرالات المتعاقبين على مواقع القيادة الإسرائيلية. وقد اضطر في خريف عمره إلى قيادة الدبلوماسية الإسرائيلية حتى عندما شغل حقيبة الخارجية وزير أرعن ومتعجرف؛ هو أفيغدور ليبرمان.
حرص بيريز على الظهور في الأروقة الدولية في هيئة قديس سلام، وبدا سياسياً رؤيوياً عند أخذ يتحدث عن المستقبل بأسلوب حالم، ولم يكلّ عن التغني بثقافة الصفح، وقد أراد أن يلتصق اسمه بالسلام عبر أعمال متعددة ليس آخرها مركز باسمه مكرّس لهذا الغرض.
للواقع لغة أخرى غير الشعارات ولغة الجسد. فشيمون بيريز ظل نموذجاً لكبار المسؤولين الإسرائيليين الذين تجاهلوا طوال عقود من تقلُّدهم المسؤوليات الرسمية البارزة، حقوق الشعب الفلسطيني، والقانون الدولي الإنساني، وقرارات الأمم المتحدة، فضربوا عرض الحائط باتفاقيات جنيف وأقدموا على خرقها بشكل مستمر ومتكرر، وبصور صارخة أحياناً كبّدت مدنيين أبرياء حياتهم أو نزعت منهم حقوقهم.
كان بيريز رئيساً للدولة خلال حملات حربية ضد الشعب الفلسطيني، مثلاً العملية العسكرية الإسرائيلية ضد قطاع غزة، المسماة “الرصاص المصبوب” (2008 ـ 2009)، ولم يتنصّل من فظائع اقترفها جيشه بل انبرى لتسويقها في العالم بما ذلك منتدى دافوس.
تولّى بيريز خلال تلك العملية العسكرية الفظيعة، كما فعل قبلها وبعدها، دعم الهجمات الإسرائيلية المروِّعة ضد المدنيين في قطاع غزة وتبريرها بشكل متكرِّر، وقام بدور مركزي في إسناد الدعاية الحربية الإسرائيلية في العالم. ولم يصدر عنه أدنى انتقاد لانتهاكات جسيمة اقترفها جيش دولته.
إلاّ أنّ سجلّ شيمون بيريز يشتمل أيضاً على سوابق عدّة من خلال تقلّده مواقع بارزة في أكثر من حكومة إسرائيلية، بما فيها رئاسة الوزراء. مثلاً؛ كان بيريز رئيساً للحكومة، عندما وجّه بصفته التنفيذية هذه، قوات الجيش الإسرائيلي لخوض حملة عسكرية في لبنان في ربيع سنة 1996 سُميت “عناقيد الغضب”، تضمّنت تنفيذ مجزرة دموية بشعة في موقع للأمم المتحدة أودت بحياة عشرات المدنيين اللبنانيين في لحظة واحدة. كان اعتداء مروعاً ذلك الذي اقترفته قواته يوم 18 نيسان/ أبريل 1996 في مركز قيادة فيجي التابع لقوات الأمم المتحدة في لبنان “يونيفل”، في قرية قانا اللبنانية الجنوبية. قصفت القوات الإسرائيلية مقرّ الأمم المتحدة ذاك بعد لجوء المدنيين إليه هربا من القصف الإسرائيلي. وأدى قصف المقر إلى مقتل 106 من المدنيين وإصابة الكثير بجروح. استمرّ بيريز في موقعه رئيساً للوزراء حتى بعد تلك المجزرة، رغم مسؤوليته العليا عن اقترافها، فصار نموذجاً لحالات الإفلات من العقاب مثل سابقيه ولاحقيه.
قبل ذلك بسنتين كان بيريز يتقلد جائزة نوبل للسلام، لكن عن ماذا تحديداً؟ عن دوره في صناعة اتفاق أوسلو مع قيادة فلسطينية ضعيفة ومُنهكة. كان اتفاقاً يحتفي بشعارات السلام والأمن، إلا أنه خلا من مصطلحات مهمة مثل حقوق الإنسان والعدالة وإنصاف الشعب الفلسطيني. لا حاجة اليوم لشرح مغزى السلام الإسرائيلي من هذا الاتفاق، لأنّ الواقع على الأرض كفيل بتوضيح الحقائق المذهلة التي انتهى إليها تطبيقه. لقد ثبّت الاحتلال أقدامه وتوسّع في الاستيطان وشيّد نظاماً جديداً من الأبارتهيد (الفصل العنصري) مع تكبيل الجانب الفلسطيني باتقافات مجحفة. تم وضع الفلسطينيين في المصيدة، هكذا باختصار.
كان بيريز رؤيوياً في تصوّره للشرق الأوسط الجديد، كما هو عنوان كتابه الشهير الذي أصدره منتصف التسعينيات. والفكرة التي دارت حولها أطروحته هو أن تسمح المنطقة الملتهبة بأن يشغل نظام الاحتلال الإسرائيلي موقع العقل الذكي، وأن يتحوّل الباقي إلى أطراف تخضع لذلك العقل. هذا تقريباً ما يمكن فهمه بكل ما فيه من إيحاءات استعلائية منمّقة تنسجم مع المنطق الإسرائيلي المؤسس للدولة منذ عهد ديفيد بن غوريون.
ظلّ بيريز بعد ذلك شريكاً ضمنياً، لحكومات إسرائيلية يمينية متطرِّفة تضمّ وزراء تبنّوا سياسات ومواقف فاشية، وتصرّف من موقعه في الرئاسة الإسرائيلية بطريقة تعزِّز برامج تلك الحكومات في مجالات عدة. لم يعارض “قديس السلام” سياسة التوسّع في البناء غير المشروع في المستوطنات الإسرائيلية المقامة في القدس الشرقية والضفة الغربية، رغم الإدانات الدولية لهذه السياسة المتسارعة، بما في ذلك موقف “الرباعية” (الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة، والاتحاد الروسي). وبالمثل، تواطأ بيريز مع تشييد جدار الفصل العنصري الذي أقامته سلطة الاحتلال على أراضي الضفة الغربية والقدس الشرقية، رغم الرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية في لاهاي (2004) وقرار الجمعية العامّة للأمم المتحدة (2005)، ضد إقامة هذا الجدار. وكان بيريز ضالعاً أيضاً في استمرار الحصار المشدد والعقوبات الجماعية والإغلاقات المُسَلطّة على السكان في قطاع غزة، رغم ما تشتمل عليه من انتهاكات جسيمة للقانون الإنساني الدولي وشرعة حقوق الإنسان ومنطق السلام ذاته. وهذا كلّه غيض من فيض مسيرة سياسية مديدة.
ثمة تفاصيل وفيرة قد لا يلحظها بعضهم، منها أنّ بيريز لم يعارض، على سبيل المثال، حزمة القرارات والإجراءات عنصرية الطابع، التي أصدرتها الحكومة الإسرائيلية أو شرّعها البرلمان “الكنيست” بدءاً من سنة 2009، علاوة على قرارات استهدفت تقييد أداء مؤسسات حقوق الإنسان المستقلّة وتكميم أفواه منظمات المجتمع المدني التي تناهض سياسات الاحتلال وترصد انتهاكات السلطات الإسرائيلية.
مع ذلك كله؛ سيحظى بيريز بعد رحيله بكثير من التكريم، وسيتم تمجيده كقدِّيس للسلام، لكن من الإنصاف أن يتم سؤال الفلسطينيين تحديداً عنه قبل تصديق الدعاية الإسرائيلية، أو استذكار ذوي الضحايا اللبنانيين الذين سحقتهم آلته الحربية في موقع الأمم المتحدة، قبل عقدين من رحيله.
هذا المقال مترجم عن مقال “Peres: The Nobel Peace Laureate who was far from peaceful” المنشور على موقع ميدل إيست مونيتور