تحول لبنان البلد الذي يناهز عدد سكانه أربعة ملايين نسمة ونيّف والواقع في خاصرة سورية على البحر المتوسط إلى ساحة صراع بين كل من الرياض وطهران طوال السنوات الماضية، علمًا أن الصراع لا يتمثل على الثروات الموجودة فيه بقدر ما يمثل صراعًا طائفيًا تمثله قوى الشيعة المدعومة من قبل إيران وقوى السنة المدعومة من السعودية.
الصراع على لبنان بين إيران والسعودية
العلاقات السعودية اللبنانية ليست وليدة البارحة فالسعودية كانت من البلدان التي بادرت وسعت في حل مشاكل لبنان في الحرب الأهلية، ففي العام 1976 عقدت السعودية لقاء قمة سداسي في الرياض ضم زعماء السعودية ومصر وسورية والكويت ولبنان، بالإضافة إلى منظمة التحرير الفلسطينية بغرض معالجة أحداث القتال الجارية في لبنان بين اللبنانيين أنفسهم وبين اللبنانيين والفلسطينيين من جهة أخرى، سوى أن القتال بين الأطراف سرعان ما كان يعود بعد كل اتفاق، وفشلت كل جهود المصالحة حتى جاء اتفاق الطائف في سبتمبر/أيلول من العام 1989 حيث تم إصدار وثيقة الوفاق الوطني وتم عقد اجتماع استثنائي لمجلس النواب اللبناني في مدينة الطائف وتم إقرار الوثيقة التي صارت تعرف بـ”اتفاق الطائف” الذي أنهت أعمال الاقتتال في البلاد وأكدت على هوية لبنان العربية وجاءت بعدد من الإصلاحات في النظام السياسي اللبناني.
عملت إيران بعد ذلك على تشكيل ما تسميه “محور المقاومة” أو “الهلال الشيعي” الذي يضم لبنان والعراق وسورية وتعتبر الدفاع عن هذا المحور دفاعًا عن أمنها الداخلي، بل تذهب بإلغاء الحدود بين دول المحور بغية تحقيق الوحدة الإسلامية كما تدعي، وأن هذه الدول تشكل جبهة المقاومة المزعومة ضد اسرائيل، وتباهى مسوؤليها في أكثر من مناسبة بالسيطرة على عدة عواصم عربية ومن بينها بيروت ودمشق وصنعاء وبغداد.
بلغت الصادرات اللبنانية إلى إيران 3.2 مليون دولار في العام 2014 بينما بلغت الصادرات إلى السعودية 377.5 مليون دولار في العام نفسه
وتعد حادثة اغتيال رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان المدعوم من قبل السعودية في شباط 2005 حدث بارز في لبنان بالنسبة لإيران، حيث سعت طهران لاستكمال مشروعها العابر عبر السيطرة على القرار السياسي في البلاد، لذا عملت على القضاء على أي منافس لها، وألصقت التهمة بالنظام السوري بغية إنهاء الوجود السوري في لبنان الذي دخل في العام 1976 أيام حافظ الأسد على إثر الحرب الأهلية، استطاع فرض هيمنته على قرار الحكم في لبنان والوقوف حجر عثرة أمام النفوذ الإيراني في المنطقة إذ كان النفوذ السوري حاسمًا في تسمية الرؤساء والحكومات ووصل إلى إقرار قوانين الانتخابات، وعلى الرغم من تحذير حافظ الأسد لولده بشار بحيثيات وتفاصيل الملف اللبناني وأهميته بالنسبة لسورية والمنطقة، إلا أن حزب الله (إيران) استطاع إقناع بشار الأسد بالانسحاب من لبنان في نيسان من العام 2005 لتخلو الساحة بعدها لحزب الله لبسط سيطرته ونفوذه العسكري والسياسي على لبنان وبالتالي نقل القرارات السيادية إلى إيران.
شاركت قوات من حزب الله إلى جانب النظام السوري ضد المعارضة السورية المسلحة
حيث زجت طهران بحليفتها حزب الله في المعركة السياسية وأنشأت تحالف 8 آذار الذي يمثل الأحزاب والقوى الشيعية في لبنان ضد تحالف 14 آذار الذي مثل السنة المدعومة من السعودية. فظهر الصراع في لبنان بين إيران والسعودية من خلال تحالفي 14 آذار و8 آذار.
من جهة أخرى كانت السعودية تقدم عشرات المليارات للبنان في إطار المساعدات والمنح للمؤسسات المدنية والعسكرية، ومن جهة أخرى عملت بالتعاون مع سورية على استقرار الوضع في لبنان بوضع حد للحرب الأهلية من خلال اتفاق الطائف عام 1989، ومن ثم ردم الخلاف بعد مقتل الحريري بين الرئيس السوري بشار الأسد وسعد الحريري رئيس تيار المستقبل، حيث عملت بعد اغتيال الحريري على التقارب بين سعد الحريري وبشار الأسد في محاولة لقطع التمدد الإيراني في سورية ولبنان وحشر قوى الشيعة في لبنان.
وحرصت الرياض كذلك على استمرار التنسيق مع دمشق في الشأن اللبناني إلا أن سوريا إبان خروجها من لبنان تحولت من لاعب إقليمي إلى ورقة في الصراع الإقليمي بين السعودية وإيران، حيث سعت الأخيرة للتقارب مع النظام السوري بشتى السبل من خلال التدخل بالوكالة عن طريق حليفها حزب الله في لبنان، الذي أثر بشكل وبآخر على بشار الأسد بإحداث تغييرات في البنية السياسية والعسكرية في سورية ولبنان تمخضت لاستلام عدد من القادة العسكريين المدعومين إيرانيًا وتسلمهم مناصب قيادية في سورية كالعميد إياد المحمود الذي لعب دورًا بارزًا في العلاقات السورية الإيرانية عندما كان في السفارة السورية في طهران، واستبدال غازي كنعان برستم غزالة المقرب من حزب الله وطهران. كما أقنع نصر الله النظام السوري بضرورة تعميق العلاقات مع طهران من خلال السماح بالزيارات الدينية للشيعة إلى سورية وتفعيل الاتفاقات المجمدة بين البلدين، فافتتح بشار الأسد مرحلة جديدة بتعزيز العلاقات مع إيران والدخول في محور الممانعة والمقاومة، لتبدأ طهران توسع نفوذها في سورية مع الوقت أكثر.
الاقتصاد اللبناني بين إيران والسعودية
استمر دعم الرياض للبنان من خلال حلفائها هناك سياسيًا وماليًا حيث تبلغ الودائع الخليجية المعلنة في لبنان ما يقارب الـ 30 مليار دولار و 6 مليارات دولار ودائع لمستثمرين خليجيين وقدرت الاستثمارات السعودية هناك بحوالي 10 مليارات دولار، كما أنفقت السعودية منذ العام 1990 وحتى 2016 أكثر من 70 مليار دولار على لبنان في مجالات شتى، كما تمثل السياحة الخليجية 65% من إجمالي السياحة القادمة إلى لبنان وتستقبل دول الخليج نحو 30% من الصادرات اللبنانية تستقبل السعودية منها نحو 26% وهي صادرات زراعية وصناعية حيث بلغت قيمة الصادرات اللبنانية إلى السعودية في العام 2014 نحو 377.5 مليون دولار، كما تشكل دول الخليج مجتمعة 85% من الاستثمارات الأجنبية في لبنان حيث تسهم بـ 18 مليار دولار في قطاعات متنوعة، ويعمل في السعودية نحو 300 ألف لبناني وبلغت قيمة تحويلات اللبنانين من دول الخليج إلى لبنان 7.5 مليار دولار في العام 2015. في حين بلغت الصادرات اللبنانية إلى إيران في العام 2014 نحو 3.2 مليون دولار فقط.
اعتبار الخليج “حزب الله” منظمة إرهابية جزء من الصراع الدائر بين السعودية وإيران التي باتت تفرض هيمنتها على لبنان
وبينما تحرص إيران على تقديم معونة سنوية لحزب الله تقدر بـ 250 مليون دولار لشراء الأسلحة لتعزيز جبهة المقاومة التي أدخل لبنان في حرب تموز مع اسرائيل عام 2006 قال عنها نفسه أنها حرب “مجنونة” وغير متكافئة حققت مكاسب سياسية لصالح إيران أكثر منها لصالح لبنان. قامت دول الخليج وعلى رأسها السعودية بعد الحرب بتحويل المال للبنان لحماية الليرة وتوافدت الشركات الخليجية والسياحة الخليجية لإنقاذ الاقتصاد اللبناني.
حزب الله “منظمة إرهابية” في الخليج
أوصلت إيران لبنان إلى مرحلة سيطرت فيه على السياسات اللبنانية من خلال حزب الله حتى أصبح تحت الوصاية الإيرانية بحيث يتحكم نصر الله والسفير الإيراني بمستقبل لبنان وبعلاقاته الخارجية. وانقسمت البلد إلى كتلتين كبيرتين قوى 14 آذار المدعومة من السعودية وقوى 8 آذار المدعومة من إيران ما يجعل الحكومة عاجزة عن اتخاذ أي قرار وعجز القوى السياسية حتى الآن في انتخاب رئيس للبلاد كما تأزم المشهد السياسي هناك بعد النزاع السوري حيث تدخل حزب الله في سورية عسكريًا بزج عناصره إلى جانب الجيش السوري ضد قوات المعارضة السورية التي تدعمها السعودية ضد بشار الأسد، في حين أن الجهة الأخرى في لبنان تنادي بالنأي بالنفس عن الصراع في سورية ويرى أن “اللبنانيون غير قادرين على خوض حرب السعودية في المنطقة”.
انعكست السيطرة الإيرانية على لبنان على علاقته مع الرياض بشكل كبير، حيث يوجد في دول الخليج نحو 550 ألف لبناني منهم 60 ألفًا من اللبنانيين الشيعة ويتواجد في السعودية نحو 350 ألفًا وقد بدأ حزب الله يتدخل في الشأن الخليجي ويثير النعرات الطائفية ويقوم بأعمال مشبوهة من قبيل التجسس وتهريب السلاح وغسل الأموال وهذا ما أثار حفيظة السعودية عليه وعلى لبنان الذي بات مرتهنًا للقرار الإيراني.
اعتبر مجلس التعاون الخليجي حزب الله “منظمة إرهابية”
اتخذت الرياض جملة من الإجراءات ضد لبنان محملة حزب الله ومن ورائها إيران على تردي العلاقات بين البلدين لحقتها بعد ذلك الدول الخليجية، وقرر مجلس التعاون الخليجي على اعتبار “حزب الله” منظمة إرهابية ودعت كل من السعودية والبحرين والكويت والإمارات رعاياها بعدم التوجه إلى لبنان حفاظًا على أمنهم وسلامتهم، وطلبت منهم الامتناع عن السفر إلى هناك إلا للضرورة القصوى.
تبعها إيقاف الرياض للمساعدات السنوية التي تقدمها للجيش والأمن اللبناني والتي تقدر بـ 3 مليارات دولار. وتعتبر هذه الإجراءات ردًا واضحًا من الرياض على طهران يدفع ثمنه اللبنانيون، وجزء من النزاع الإقليمي بين السعودية وإيران.
فتوقيع إيران مع الدول الكبرى الاتفاق النووي ودخولها عسكريًا مع روسيا في سورية فضلا عن تدخلاتها في دول المنطقة أظهر السعودية في مأزق كبير، لذا اعتبرت السعودية أن قطع العلاقة مع لبنان يعد ردًا على إيران وتدخلاتها فيه، وقد حاولت حكومة تمام سلام وسعد الحريري لإعادة التقارب مع السعودية والتصالح معها، ولكن كل المحاولات باءت بالفشل.
والمحصلة أن لبنان تحول إلى أرض للصراع بين إيران والسعودية أثر على بنية الدولة السياسية واقتصادها وسيبقى هذا الصراع السني – الشيعي مخيمًا على لبنان مادام هذا الخلاف باقيًا بين الدولتين وتعزز الصراع أكثر بينهما في سورية الذي سيكون حسم الصراع فيها لصالح أي من الطرفين حسمًا للخلاف الموجود في لبنان ليكون الحل في سورية بوابة الحل في لبنان أيضًا.