لا شك في أن السلفية بموقفها المتشدد والممعن في الطائفية تمثل مشكلة لنفسها ولغيرها من المسلمين داخل الإطار السني وخارجه.
ولا تكمن مشكلة التوجهات السلفية في تبنيها قراءة متشددة للنصوص الدينية بنزعة طهورية مبالغة، فمثل هذا التشدد كان من الممكن التعايش معه لو بقي في حدود القراءة الفقهية التي تخص أفرادا أو مجموعات محددة، ولا تخلو أحوال المجتمعات عامة من وجود أفراد يميلون إلى التشدد والضيق.
المشكلة أن التوجهات السلفية أخذت طابعا حصريا واستبعاديا إزاء مختلف المدارس الكلامية والفقهية الإسلامية بما في ذلك داخل الإطار السني، قبل الحديث عن المذاهب الأخرى. مثل هذه التوجهات بالتأكيد هددت وتهدد الاستقرار المدني وأسس العيش المشترك بين المسلمين وغيرهم، خصوصا في المجتمعات المسلمة ذات الطبيعة المتعددة.
السلفية بمختلف تعبيراتها، وبما في ذلك تلك الموصوفة بالعلمية، تنظر بعين واحدة للنصوص الدينية من دون النظر إلى الواقع وتعقيداته، بينما تتمثل مهمة العالم أو الفقيه الرئيسية في ربط النصوص بالواقع في إطار المقاصد العامة للدين وفقه الموازنات والأولويات.
أما المشكل الثاني فهو اتجاه بعض مكونات السلفية نحو ممارسة العنف الأهوج والقتل العشوائي، ضد المسلمين وغير المسلمين، تحت عنوان الجهاد، وهو المنهج الذي دفعته جماعة القاعدة وداعش وبوكو حرام وغيرها إلى حده الأقصى.
صحيح أن طبيعة المناخ السياسي في المنطقة، من احتلال أجنبي وضغط طائفي على الجهة الأخرى قد حرك هذا النزوع نحو العنف إلى مستويات بعيدة، ولكن المطلع على النصوص السلفية يدرك أن مقولاتها تنطوي على مخزون هائل للعنف الموجه نحو الداخل والخارج.
لقد تواضع جل علماء المسلمين بأنه لا يجوز تكفير أحد من أهل القبلة وأن الجهاد مشروع في حالة الدفاع عن النفس في مواجهة عدوان أجنبي محق، في حين أن الجهاد عند الجماعات السلفية العنيفة مشروع مستمر ضد الداخل والخارج. لذا ساهمت هذه الجماعات العنيفة في مزيد تفكيك وإنهاك الجسم الإسلامي المثخن بجراحه أصلا.
ولكن أن نقول بأن السلفية العنيفة تمثل مشكلة حقيقية في العالم الإسلامي لا يعني قبول أجندة المجموعات الشيعية على الجهة الأخرى. ما فتئت هذه الجماعات تعمل تحت غطاء إيراني على التمدد في المنطقة وتغيير الخارطة الديمغرافية والمذهبية بقوة العنف والتهجير. ففي العراق ترتكب مليشيات الحشد الشعبي مدعومة من الحكومة العراقية عمليات تطهير واسعة النطاق جعلت المكون السني العراقي يعيش محنة مضاعفة بين إرهاب داعش وعنف الحشد الشعبي، وفي سوريا أطلقت أيدي المجموعات الشيعية المستجلبة من إيران ولبنان والباكستان وأفغانستان تقتيلا وتدميرا، أما في اليمن فقد أتيح للحوثيين بسط سيطرتهم وتغيير التوازنات هناك بقوة السلاح بالتحالف مع نظام علي عبد الله صالح. وقد غدا معهودا جدا أن يردد الحوثيون بأن مشكلتهم ليست في اليمن ولا مع اليمنيين، بل مع السعودية ذاتها، ويقصدون بذلك أحقيتهم في بسط اليد على مكة والمدينة.
ولا ينفك العديد من معممي الشيعة في بث ثقافة الطائفية المقيتة عبر الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي بإثارة صراعات الماضي السحيق الممجوجة، من مثل أحقية آل البيت في الولاية، وسب الصحابة وتحميل 85% من المسلمين مسؤولية مقتل الحسين عليه السلام قبل ما يزيد عن أربعة عشر قرنا.
من الواضح اليوم أن إيران تستخدم المجموعات الشيعية المرتبطة بها للتمدد في المنطقة مستغلة حالة الفراغ السياسي القائمة، وتوظف البعد المذهبي الشيعي لتغليف طموحات وحسابات قومية واضحة.
ولم يعد خافيا أن طموحات إيران للسيطرة بلغت حد المراهنة على انتزاع مكة والمدينة لاكتساب الزعامة الدينية في العالم الإسلامي بحجة الوقوف في وجه الوهابية السعودية. إيران امتنعت عن إرسال حجيجها هذه السنة بعد كيل الاتهامات والانتقادات للرياض والتشكيك في أهليتها للإشراف على شعيرة الحج.
ثم قامت بتحويل وجهة هؤلاء باتجاه النجف في العراق لتنظيم ما يشبه الحج الموازي الذي يستنسخ كل طقوس وشعائر الحج إلى البيت الحرام. أي أن الطموح الإيراني لم يعد يقف عند حدود قيادة الأقليات الشيعية في العالم الإسلامي بل أضحت تراهن على استلام قيادة العالم الإسلامي بغلاف شيعي ثوري.
نعم، كنت ذكرت مرات كثيرة بأن إخواننا الشيعة يمثلون مكونا حقيقيا في الجسم الإسلامي الكبير والمتنوع، كما أن إيران ليست عدوا بل هي بلد مجاور يجب بذل كل الوسع لحل الخلافات معه بالحوار والتفاهم، وأن من مصلحة الجميع أن يتم البحث عن أسس التعاون والعيش المشترك بين دول المنطقة بعيدا عن التدخلات الأجنبية. كما شددت في مناسبات عديدة على ضرورة الوقوف في وجه الدعوات التكفيرية لإخواننا الشيعة والسياسات المضللة لبعض دول الخليج التي تراهن على نسج علاقات تحالف مع إسرائيل واللوبيات الصهيونية تحت عنوان “متحدون في مواجهة المشروع النووي الإيراني”، بعدما عاثت هذه الأطراف ذاتها فسادا في الفضاء العربي السني نفسه بحجة الوقوف في وجه الإسلام السياسي، كما حصل في مصر وليبيا وتونس وسوريا وغيرها.
إن أعظم مصيبة تعانيها الدول العربية هي ضياع البوصلة والرؤية، في ظل سياسات أقرب إلى الخبط العشوائي، لا تدري من هم خصومها ولا من هم حلفاؤها. في الأثناء تنزل إيران بكامل ثقلها المالي والعسكري والاستراتيجي لدعم حلفائها وحدهم بكل عناصر القوة.
مع هذا، لا أحد يقبل أن تستلم إيران زعامة المنطقة بحساباتها المذهبية القومية الضيقة. لا أحد يرضى سيطرة المجموعات الشيعية الطائفية وتسلطها على الأغلبية السنية في العالم العربي.
نعم، إن المشروع الطائفي من الطرفين مقيت مرفوض، ويجب أن نعمل شعوبا ونخبا على ترسيخ التعايش المذهبي وحل النزاعات بين المسلمين بالحسنى والحوار. ولكن على الجهة الأخرى الكف عن تلك السياسات الرعناء التي تعمل على تسليط الأقليات الشيعية على الجسم العربي والإسلامي، وعن إطلاق التهديدات المستمرة من القادة الإيرانيين ضد المملكة العربية السعودية، والتي تخفي وراءها تصميما على انتزاع مركز القيادة الروحية في العالم الإسلامي وتغيير الخارطة المذهبية والسياسية في المنطقة.
ليس من قبيل الصدفة أن يكون الإسلام السني هو الرافعة الكبرى والحامل الرئيسي للإسلام الجامع. الفكر السني يحمل تصورا إجماعيا وتوحيديا للجسم الإسلامي الكبير و يجمع بين مختلف الصحابة ويستنكف عن الانخراط في صراعات التاريخ البعيد، مع إجلال كل أهل البيت.
في المقابل، يبدو تصور الأقلية الشيعية حصريا واستبعاديا وغائرا في دراما التاريخ السحيق ولا يحمل مقومات وحدة المسلمين، فأنّى للمسلمين أن يجتمعوا أو يتوحدوا على اللطم والندب وسب الصحابة؟
السبيل للخروج من هذه الدوامة المدمرة يمر عبر التخلي عن نزوعات السيطرة والسياسات الطائفية الضيقة والاعتراف بالتعدد والتنوع المذهبي، من أجل إعادة التوازن إلى واقع المسلمين ووعيهم.
نُشر هذا الموضوع لأول مرة في عربي 21