عالقون بين قدرين كلاهما غربة، بين غربة الوطن وغربة المنفى مخيرون، مخيرون! هم في الواقع لا خيار لهم، تسيرهم الحياة إلى جرف بنهايته منحدر سقوط لا فكاك منه، طال الأمد أم قصر!
عالقون بين جدائل الأمل والألم المعقودة فوق أعناق الرجال المنهكين من الفرار، عالقون بين خيوط الوهم، وهْم الخلاص القريب، فإن كان بعد كل هذا خلاص ما، فهو خلاص من أنفسنا التي لم نعد نعرف! لقد أكلت منا السنون ما أكلت، فلم يبق لنا من ذواتنا غير خواء بشر!
نحن: من نحن!؟
نحن على هامش النص، حاشية متن وزيادة، منسيون خلف سطور الحكاية، على حافة النسيان، عالقون بين خيوط الوهم والوهن، عاجزون عن الفعل، مفعول بنا دون رد، محاصرون بين خنجر في الظهر ورصاصة في الصدر، دماؤنا أنهار، جهودنا سدى، أعمارنا ضائعة في ظلام الأسر وشتات الغربة، لا خيار لنا على الإطلاق.
نحن الذين انقلبت حياتهم بين ليلة وضحاها، نحن الذين عبرنا مسافة النور مجبرين إلى عالم الظلام، نحن الذين بيننا وبين أحلامنا مسافة كبيرة لم تبلغها خطانا المجهدة، نحن أنبياء هذا الزمان لكن بلا معجزة أو نبوة!
نحن “سيزيف “، لكن لم تزل على أكتافنا الصخرة، نحن الذين يولدون في مخادع الرقيق، نحن الذين يتجدد فرارنا كل صباح، نحن لزوم ما يلزم!
نحن الذين قال فينا أمل وسرور شعرهما، نحن الذين نحفظ أبياتهما لا لشيء إلا لأنها تحكي عنا وعما انحبس بين صمتنا الاختياري وانسحابنا الجبري.
نحن المشردون في رحلة بلا دليل ولا زاد، رحلة الذات، في فضاء البحث عن المعنى لكل هذا الذي حدث ويحدث!
نحن نقاتل في الظلام وحيدين، نسير في صحراء قاحلة بلا دليل أو وجهة معلومة، لا رجاء لنا إلا أن يقبضنا الله ونحن نسعى بين صفا الحلم ومروة الغاية ، نسعى ويلفحنا لهيب الصحراء والشوق للراحلين سرباً سرباً !
أحلامنا التي سقيناها بالدم والعرق انهارت أمام أعيننا ولم نحرك ساكنًا، لم نرفع سيفًا أو قلمًا، لم نصرخ، لم نفعل شيئًا!
نحن أضعف من أن نفعل شيئًا ذا ثقل يغير كفة المعركة المائلة علينا، فنحن في الكفة الأخف الأوهن مقابل كفة مثقلة بفجر الأعداء وأشلاء الأحباب وحماقة الحلفاء، نحن وحدنا تمامًا فريسةً مستساغةً ينهشها الهم والغم والعجز والقتل والسجن وفقدان الأمل وشعث القلب وخذلانات متكررة صباح كل فرصة جديدة تلوح في الأفق!
نحن قوم قابضون على جمر الحق بكلتا أيدينا – حين نزع الناس عنه أيديهم وفق قاعدة جلب المنفعة ودفع الضرر الأثيرة لقلوب الخوارين -، قبضنا بقوة، فأحرقنا جمره أيدينا وأحرقنا، فجذذنا بأنيابنا على أطرافه كي لا ينفلت منا، فصرنا لا نستطيع الكلام ولا الصراخ، فقط نأن كأنين ناي حزين فقد لحنه وعازفه!
نحن ذو الموت إذا الموت انتسب، نحن ذو الفقد إذا الفقد طلب! نحن الذين كل يوم نفقد رفيقًا بين القدرين المحتومين: إما هجرة وإما أسر، وفي كلا الحالين نفس الحال “عالقون” ولا سبيل!
عالقون حتى نهاية الخذلان، عالقون حتى نهاية الأنفاس، عالقون حتى نهاية العالم، أو ربما لما بعد النهاية بقليل!
لعنات الله تترى على الظالمين، لعنات الله تترى على القوم الفاسقين، لعنات الله تترى على الشائخين، لعنات الله تترى على كل من خذل وخذل، لعنات الله تترى على من تركنا وأحلامنا في العراء، لعنات الله تترى على من ترك أولئك الأطهار للكلاب مرتعًا، والرحمن المستعان!