كالعادة ، كانت الاتهامات جاهزة ضد الضحية، ولئن كان هناك دلالة لذلك؛ فإن قواعد علم النفس تؤكد أن المصريين يشعرون بتأنيب ضمير؛ لذلك لجأ بعضهم إلى هذه الحيلة الدفاعية، لتقليل وطأة ما جرى على نفوسهم؛ فاتهموا الضحية بالوقوف أمام العربة المسرعة.
وهو نموذج شائع في دراسات علم النفس؛ حيث كثيرًا ما يلجأ بعض المرضى النفسيين إلى قتل ضحايا لمجرد أنهم يشعرونهم بتأنيب ضمير، أو أن الضحية تشعرهم بالضعف!
فالمصريون لا يمكنهم المجاهرة بما يشعرون به من مشاعر إزاء الجريمة التي جرت، في ظل كون النظام الحاكم الذي وصل إلى مستوىً غير مسبوق من القمع والإذلال لشعبه، فوجهوا مشاعرهم السلبية هذه تجاه الضحية التي وضعتهم في هذا المأزق الإنساني!
هذا كان في عجالة التفسير النفسي لحالة الهجوم التي شنتها أوساط عديدة من المصريين واللعنات التي استمطروها على ضحايا مركب رشيد للهجرة “غير المشروعة” التي سوف نكتشف حالاً أنها ليست غير مشروعة ولا أي شيء؛ وإنما هي نتيجة طبيعية للأوضاع التي يعيشها المصريون.
بطبيعة الحال؛ كان جزءٌ من هذا الهجوم قادمًا كقصف جبهة من جانب إعلام الدولة ومؤيدي النظام في مصر، ولكن في الغالب الأهم؛ أن الكارثة والردود عليها تعكس الكثير من المعالم النفسية والاجتماعية.
ولا يقف هذا الأمر عند تفسير الهجوم؛ حيث إن الجانب النفسي والاجتماعي هو التفسير الأهم للحادث ولما أقدم عليه ضحايا مركب الموت.
بدايةً؛ فإن أسوأ ما يمكن أن يقع فيه المتابعون والمحللون، هو أنهم عندما يعملون على تقييم الأمور؛ أن يتم تقييمها من زاوية الحدث المباشِرة.
وأهكم خطأ وقع فيه بعض المحللين والمتابعين في تقييم الكارثة التي وقعت، هي أنهم طرحوا الأمر في تفسيره المادي، وبالتالي؛ فإنه عند النظر إلى تكلفة رحلة الموت، ونجد أنها قد تصل إلى خمسين ألف جنيه؛ فإن التفسير القريب والمباشر للأمر؛ سوف يدين بكل تأكيد الضحايا؛ حيث المبلغ يمكنه أن يكون بداية لأي جهد اقتصادي يصلح الحال ولو مؤقتًا.
وبالفعل؛ فإن هناك عدد كبير، بعشرات الآلاف من اللاجئين السوريين، قدموا إلى مصر – ونخص مصر بالذكر لأنها صحابة الظرف والحالة – وبدأوا بمبالغ أقل من ذلك، ونجحوا في حياتهم المهنية والاجتماعية، بل بعضهم بدأ بجهده اليدوي فقط، ونجح واستطاع تحقيق ذاته، وتجاوز فكرة كونه “لاجئ”.
كذلك اقترب البعض من الأزمة بطرح تفسير كونهم من بيئات اجتماعية عشوائية، وغير متعلمين، فكان من السهل “الضحك” عليهم، و”التغرير” بهم في هذا الأمر.
وهو بدوره تفسير ناقص للحدث؛ حيث إن التقارير الإعلامية والرسمية عن الكارثة التي وقعت، تقول أمرَيْن يبطلان هذا التفسير تمامًا، الأمر الأول، أن نسبة كبيرة من ركاب المركب كانوا من الشباب المتعلمين.
الأمر الثاني، أن تكلفة الرحلة تم جمعها من خلال عدد من الأطراف والدوائر الأسرية والعائلية التي يرتبط بها الشباب المهاجر، ولن يعدم الأمر أن يكون في هذه الأطراف والدوائر، أشخاص متعلمون ينصحون ويوجهون أو يعترضون، ولكن من المستحيل تقريبًا أن يكون التغرير خلف إرادة المهاجر وخلف إرادة مَن ساعده بالمال، خصوصًا وأن المال الذي يتم جمعه في مثل هذه الحالات، يتم من خلال بيع أصول مثل بيوت أو أراضٍ أو ذهب الأم والزوجة.
وفي هذه الأمور لابد من وجود بعض المتعلمين أو كبار العائلة لفحص سبب التصرف في هذه الأصول، وفق ما هو متعارف عليه في العائلات والأسر المصرية، ولاسيما في موضوع بيع الأرض.
كما أن هذه التفسيرات القاصرة المطروحة للموقف، باعتبار أن ما جرى؛ إنما تم لبواعث اقتصادية أو راجع لضعف مستوى التعليم؛ لا تفسر إصرار مجموعات من الشباب الناجي من هذه المحرقة – هي محرقة بصورة أو بأخرى بالفعل – على تكرار ذات الموقف، وتأكيدهم على ذلك أمام وسائل الإعلام.
مواطنون لهم مظالم أم مجرمون معتقلون؟!
إذًا نحن أمام جوانب أكبر وأعمق للأمر.
هذه الجوانب هي نفسية واجتماعية عامة بالأساس، تتعلق بالحالة العامة التي يعيشها المجتمع المصري في الوقت الراهن، والتي تجعل الكثيرين يفضلون إلقاء أنفسهم في هذه المحرقة، حتى ولو كان تحت أيديهم 50 ألفًا أو 100 ألف، أو كان لديه مليون دولار وليس جنيه فحسب.
إذًا؛ ما التفسير؟!
حقيقة تفسير الأمر ما بين شيئَيْن أساسيَّيْن آخرَيْن مختلفَيْن تمامًا.
الأول هو الرغبة في الفرار من وضع سيء بالكامل.
فالفارون لم يفروا من الفقر أو بحثًا عن حياة أفضل في أوروبا، فكثيرون منهم يعلمون أن آخر ما سوف يصلون إليها هو منحة لجوء وربما يتم ترحيلهم إلى مصر مجددًا، فبببساطة بعضهم لا يجيد أصلاً القراءة والكتابة حتى بالعربية، ولا يملك أية مهارات في أي مجال؛ فكيف سوف يقدم أي شيء لسوق العمل في أوروبا؟!
يتعلق الأمر بالمستوى المرعب الذي وصلت إليه حالة الوطن، وبالتالي؛ فقد المواطنون – حتى المقيمين منهم في مصر – أي أمل في مستقبل أفضل لهم أو لأولادهم، في ظل هكذا وضع؛ حيث سلطة غاشمة تسيطر على الوطن ومقدراته بالحديد والنار، وتسرق ثرواته لصالحها، بينما الأفق لا يحمل أي بادرة أمل أو تفاؤل.
انتحار جماعي في عرض البحر
وجزء من هذه المشكلة، يعود في سببه – وهو لإحقاق الحق – بسبب سلوك مختلف الأطراف السياسية المعارضة في مصر، والتي تصدرت المشهد بعد ثورة يناير 2011م، وأساءت في إدارة المرحلة الانتقالية، مما قاد إلى فشل الثورة، وفقدان المواطن للثقة في نخبته والقوى التي تطرح نفسها كبديل للحكم، بما في ذلك الإخوان المسلمون، مع دخول هذه القوى في صراعات بينية أصلاً، سادتها لغة التخوين.
هذا الفشل للثورة، ولما تبعه من مشهد الصراعات الداخلية للقوى التي تصدرت المشهد الثوري، أدى إلى يأس المواطن المصري من أي إمكانية لتغيير الأوضاع التي يعيشها، والتي باتت جحيمية بالفعل، والتي جعلت مبلغ مائة ألف جنيه؛ أمرًا مثير للضحك، ولا يعبر عن أي جاه أو ثروة، فكيف الحال بأسرة استطاعت بعد لأيٍ وجهدٍ جهيدَيْن، أن توفر 30 ألف جنيه، باعت في سبيلها أثاث منازلها أصلاً؟!..
وكما قلنا؛ فلا علاقة للأمر بفقر أو عدمه، فمن بين “الهاربين” – هم هاربون فعلاً في التوصيف الدقيق للوضع – متعلمون ومن الطبقة الوسطى، وليسوا كلهم بالكامل من المعدمين والأميين، بالعكس؛ الفئة الأولى – الطبقة الوسطى والمتعلمين – هي الأكثر تأثُّرًا على المستوى النفسي بالأوضاع، فالمعدم والأمي لا يصل إلى هذا المستوى من القرارات المميتة بل القاتلة، ليس لأنه أدنى في إنسانيته، ولكن لأنه أدنى في إحساسه بالوضع، مع تعوده إياه، واختلاف تركيبته الفكرية عن نظرائه المتعلمين.
نقول كانوا يريدون الفرار من الإطار العام الذي نعيشه جميعًا في مصر.
أما الشيء أو الأمر الثاني؛ فهو رغبة داخلية، حتى وإن لم يعترفوا بها في دواخلهم، في الانتحار!
فبعضهم كان يعلم أن هذا مصيره، وذهب إليه؛ رغبة كذلك في الفرار ولكن إلى أعلى!..
ولعلنا لسنا مبالغين في وصف هذه الصورة؛ حيث هناك واقع أنثروبولوجي مهم للغاية يؤكد أن الأمور قد وصلت إلى مستوى الانتحار الذاتي مثل الحيتان والافيال عندما تفقد أي أمل في الحياة السوية، وفي الغد.
فمن المعروف أن الشعب المصري، من أكثر شعوب الأرض ارتباطًا بأرضهم، ويعرف التاريخ ظواهر عدة فضَّل المصريون فيها الموت على أن يتركوا أرضهم للغزاة، أو لأعدائهم، أو لظروف الفاقة والفقر.
فالتاريخ المصري حافل بمختلف الظواهر الإنسانية السلبية، منذ عهد الفراعنة وحتى الآن، بما في ذلك المجاعات والأوبئة التي قلصت عدد السكان بالملايين من أدنى مبالغة، ففي بعض فترات المجاعات والأوبئة، انخفض عدد سكان مصر من عشرة ملايين نسمة إلى أربعة ملايين فقط.
إلا أن التاريخ المصري يخلو تمامًا من أية هجرات جماعية، حتى في الفترات التي سادت فيها العقوبات العشرة التي استنزلها الله تعالى على المصريين وقت سيدنا موسى (عليه السلام)، بما في ذلك القمل والضفادع والدم والظلام الدامس، ولم يروِ القرآن الكريم، وحتى المصادر اليهودية، أية معلومات حول هروب جماعي للمصريين من أرضهم.
كما لم يثبُت عبر التاريخ، أن المصريين كانوا يهجرون أرضهم وقت أن يغرقها الفيضان بانتظار انحساره؛ حيث يقبع الفلاح المصري في بيته لثلاثة أشهر بالكامل من دون أي حراك مكتفيًا بما ادخره من حبوب وخضروات للغذاء، حتى ينحسر الفيضان؛ فيبدأ في زراعة أرضه.
إذًا؛ نحن أمام ظاهرة بالفعل – خصوصًا ونؤكد أن كثيرين سوف يجربون رحلة الموت هذه مرة ومرات كما قالوا وكما فعل بعض الشباب بالفعل – استثنائية في تاريخ مصر والمصريين الطويل، والذي يصل إلى عمق تاريخ الإنسانية نفسها؛ حيث يعود أصول المصريين إلى مصراييم، وهو أحد أبناء سيدنا نوح (عليه السلام)، ممن نجوا من الطوفان نفسه، وهو ما يشير إلى استثنائية الظرف بشكل لم تعرفه مصر عبر تاريخها.
هذا هو باختصار غير مخلٍّ بالمعنى، وغير متجنٍّن على أحد، هو حقيقة المشهد المعقد الذي يقف خلف صورة المشهد المؤسِّي الذي عرضته لنا شاشات التلفاز؛ حيث يقف آلاف المصريين صامتين، في انتظار جثث أبنائهم لكي يدفنوها في صمت، في مشهد جنائزي ملمحي، وكأنه قادم من أعماق التاريخ!