كل صباح ينهض جميل باكرًا ليحمل عدته على ظهره، ويتجه نحو كراج المشتل، ليجلس على الرصيف عارضًا مهارته في مسح الأحذية، وبيده فرشاة الأصباغ وعلب الألوان والتلميع، كي يصبغ أحذية الناس مقابل أجر معين، ليعيد إليها بريقها الذي خطفته أتربة الشوارع ومستنقعات الماء، كل هذا ليعين أسرته الكبيرة بما يتحصل من رزق,
كان في بداية مزاولته للمهنة يحس بالحرج، بل عاد باكيًا أول يوم عندما جلس على الرصيف ليمسح أحذية المارة، لكن ماذا يفعل وأبوه توفي وترك كل العالة في رقبة الطفل جميل، وكان في العاشرة فقط، ترك المدرسة ليجلس على الرصيف، يزيت أحذية الموظفين والطلاب والجنود والمتنزهين، نعم إنها مهنة تجعل المجتمع لا يحترم صاحبها وتضيع كرامته، لكن هي أفضل من مهنة الوزير اللص بمعايير العدل والإنصاف، كان جميل دومًا يتهرب من المناسبات الاجتماعية للأقارب، خوفًا من أن يسخر منه البعض باعتباره مجرد صباغ أحذية.
اليوم تعيش فئة كبيرة من المجتمع العراقي ظروفًا قاسية، تدفعهم للعمل في مهنة متعبة وحساسة، باعتبارها مهن مهينة أو تهدر كرامة الإنسان بحسب نظرة المجتمع، فالفقر تسبب بضياع الأحلام لفئة واسعة، مما اضطرهم لترك الأحلام على رفوف النسيان، والانغماس في حياة مهنية غريبة، ومهينة أحيانًا، هم لم يخططوا أن تكون حياتهم بهذا الواقع، بل الظروف الضاغطة هي من فرضها عليهم، لذا نجد البعض لجأ إلى مهن مثل مهنة مسح الأحذية ليسد حاجات أهله، وكي يرد قسوة الحياة، فهي طريق للهروب من الواقع المرير إلى شيء أمر منه.
أحاديث صباغي الأحذية
حاولت أن أفهم عن قرب دوافع العمل كصباغ أحذية، فالتقيت بعدد منهم فكانت هذه الأحاديث:
حدثني شاب (اسمه باسل)، بالسادسة عشر من العمر، في الباب المعظم حيث يفترش الرصيف، ليصبغ أحذية الناس، فقال: منذ كان عمري ثماني سنوات وأنا أتنقل بين الأعمال لأحصل على رزقي، فقدت أبي وأنا في الثامنة من العمر، فدفعت بي أمي للعمل في السوق لأوفر للعائلة المال، فاشتغلت أبيع أكياس النايلون، وحمال أنقل السلع، لكن مردودها قليل جدًا، وعندما أصبحت بسن الـ 13، لجأت لمهنة صبغ الأحذية، ووجدتها أقل جهدًا وأكثر مردودًا، نعم أنا أخجل أن يراني أحد أقاربي وأنا أعمل بهذه المهنة، لكن العمل أفضل من الجلوس في البيت، أنا أعمل ومقابل جهودي أحصل على رزق يسد حاجات أهلي، أتمنى أن تتغير حياتي للأحسن وأحصل على فرصة عمل أفضل.
أما الطفل مهند (11 سنة) كان مبتسمًا وهو يعمل قرب تقاطع “البانزيخانة” في شارع الداخل (مدينة الصدر)، فيقول: منذ سنة وتغيرت حياتي، حيث مرض أبي بالسرطان وما عاد يستطيع المشي، وكان هو أبي هو المعيل الوحيد لعائلتنا، لذا أصبح علي الحمل الثقيل، فأنا أكبر أخوتي، فتركت المدرسة، واشترت لي أمي صندوق صبغ الأحذية، وجلست في باب كراج الداخل، وبدأت أعمل وها هي سنة أنا أعيل أهلي، لكن أتحسر على المدرسة، وأحس بالحزن وأنا أشاهد أصدقاء المدرسة، وهم يذهبون صباحًا للمدرسة، كل حلمي أن أترك هذا العمل وأن أعود للمدرسة.
ثم التقيت بالشاب فراس (25 سنة) في كراج بغداد الجديدة قرب سينما البيضاء والتي تحولت لمخزن حاليًا، فقال: هذه الدنيا لم تريني إلا وجهها القبيح، فالفقر ورثته عن أبي، ونعيش حياة صعبة جدًا منذ أن فتحت عيني على هذه الدنيا، لا أحلم ولا أتمنى أشياءً عظيمة، بل كل تفكيري في كيفية تحصيل ما أجلب به حاجات أهلي، الأيام الجميلة لا توجد في قاموس حياتي، بل هي وجدت لغيرنا، وهذه المهنة تسبب احتقاري نفسي، فإنني أخجل أن أبوح بسرها لأقاربي، فأعمل في مكان بعيد كي لا يعرف الأقارب طبيعة عملي، أعتقد أن العدالة لا تواجد لها في حياتنا، فقط الظلم هو الذي يسود الحياة، هذه المهنة توفر لي بعض المال الذي يمكنني من شراء حاجات عائلتي مع توفير الدواء لأمي المريضة.
أحاديث الناس عن مهنة صباغي الأحذية
حاولت أن أعرف رأي الناس بهذه المهنة، وما الآراء المنتشرة بين الناس عن المشتغلين بهذه المهنة، فالتقينا ببعض المواطنين لإبداء رأيهم:
يقول المواطن ضياء (من سكان مدينة الصدر): الفقر والحاجة وانعدام فرص العمل للبعض، السبب الرئيسي لاتخاذ البعض من هذه المهنة مصدرًا للرزق، فضغط الفقر هو الدافع للعمل، مع أنني أراها مهنة تهدر كرامة الإنسان، لأنها تتعامل مع أقدام الناس، وحتى طريقة العمل أن تجلس تحت أقدام الناس بها نوع من الإذلال، والأغرب أننا بلد يقال عنه ذو الموازنات الانفجارية، للدلالة عن الأموال الضخمة جدًا التي تصرف سنويًا، من دون وجع قلب من قبل نخبة حاكمة فاسدة، لكن مع الأسف لا يحصل الفقير على دينار واحد، الفقر ينخر بفئة كبيرة ومن دون أي معالجات، الفقير ماذا يفعل فلا فرص للعمل أمامه، فيلجأ لهكذا عمل والذي لا يكلفه أكثر من صندوق خشبي وعلب ألوان وفرش التلميع، لا يحتاج لخبرات أو دورات أو تراخيص عمل، لكن الأثر الأكبر الذي سيحدث لهذا الإنسان هو أثر نفسي سلبي بعد فترة من مزاولة هذا العمل، أتمنى أن يكون هناك طريقة لأداء العمل بشكل يحفظ كرامة الإنسان، مثلاً يستلم الحذاء ويقوم بتلميعه هكذا يكون أفضل له نفسيًا.
هي مهنة أكثر شرفًا من مهنة الرئيس
يضيف المواطن حيدر (طالب جامعي): إنها مهنة توفر مصدر مالي لبعض العوائل الفقيرة، وتساعدهم في تلبيات حاجات بيوتهم، من غذاء بسيط ودواء، لكنها تهدر كرامتهم، فالمجتمع لا يرحم، والحكومة عاطلة فلا تقوم بعمل ما يساعد الفقراء، نعم المهنة شريفة فهي أفضل من التحول إلى الاستجداء طلبًا للرزق، وأفضل من اللجوء للسرقة، فهي رزق مقابل جهد حقيقي، بل اعتبر صباغ الأحذية أكثر شرفًا من رئيس الوزراء، لأنه لا يأخذ ما لا يستحق، أتمنى أن تتغير نظرة الناس لصباغ الأحذية.
ويقول المواطن حسين (من سكان حي أور): عوامل الفقر والبطالة هي الدافع للبعض لمزاولة مهنة صبغ الأحذية في الشارع، والحقيقة هي طوق النجاة لهذه العوائل من الفقر والبطالة، ففي بلد فيه ندرة بالأعمال نتيجة غياب الخطط الاستراتيجية عن دولتنا، لكن الضغط يأتي اجتماعيًا، فهذه الأعمال بنظر المجتمع من الأعمال المهينة، من صنف الأعمال ( الزبال، وعامل تنظيف المياه الثقيلة)، لذا حتى من يعمل بمهنة صبغ الأحذية تجده يخفي نوع عمله عن الناس والأقارب، خوفًا من الفضيحة، وتأثير العمل على مزاوله سلبي نفسيًا، حيث يحس المزاول للمهنة أنه بدأ يفقد الإحساس بالعزة والكرامة، وتؤسس أفكار عن الدونية والنقص والتماهي مع الإحساس بالعيب، أعتقد أننا نحتاج إلى تغيير قيمنا الاجتماعية السلبية، لانتشال طبقة الفقراء والمحتاجين من الإحساس بالعيب، بل يجب تكريمهم.
دعوة لتغيير نمط التفكير
صباغ الأحذية هي مهنة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه عند البعض، بسبب كم الضغوطات المهولة والتي حولت حياتهم إلى جحيم حقيقي، وهي موجودة في أكثر بلدان العالم تطورًا، لكن تأخذ هناك شكلاً آخر يحمي كرامة المشتغل بها، وهي مهنة أفضل من السقوط في حضن الإرهاب أو الفساد، ففي ميزان العدل صباغ الأحذية أكثر شرفُا من وزير فاسد أو مدير عام مرتشٍ، فصباغ الأحذية أشرف من كل مسؤول كبير يهدر المال العام، هؤلاء يحتاجون للدعم المعنوي من قبل المجتمع، وليس التسقيط والاستهجان والسخرية.