لم يكن اللقاء الذي جمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ونظيره الصيني شي جين بينغ، على هامش اجتماع رؤساء دول مجموعة “بريكس” (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا) في مدينة أوفا الروسية، يونيو الماضي، لقاءً عاديًا، بل وضع اللمسات النهائية نحو تدشين تحالف دولي جديد في مواجهة سياسة القطب الأوحد.
اللقاء الذي لم يستغرق أكثر من 90 دقيقة وضع النقاط على الحروف فيما يتعلق بخارطة العلاقات الروسية الصينية في الفترة المقبلة، بما يسمح لها بالتمدد الإقليمي والدولي في شتى القضايا، في الوقت الذي تعاني فيه أمريكا من بعض الملفات الداخلية والخارجية والتي أفقدتها جزءًا كبيرًا من بريقها وحضورها الدولي، وهو ما تجسد في الموقف في سوريا والعراق واليمن.
الورقة الأخيرة التي رفعها الرئيس بوتين إلى مجلس النواب الروسي “دوما” بشأن مشروع اتفاقية التعاون بين موسكو وبكين في محاربة الإرهاب والانفصالية والتطرف، للتصديق عليها، تعد حلقة جديدة ومتميزة في مسلسل التعاون بين البلدين، فهل ينجح الزعيمان الجديدان في تدشين تحالف دولي قادر على مناهضة أمريكا؟
تقارب روسي صيني غير مسبوق
في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ العلاقات بين موسكو وبكين، قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بزيارة الصين أربع مرات، في أقل من ثلاث سنوات، ليعكس حجم العلاقات بين البلدين، وما يمكن أن تعطيه من دلالات حول مستقبل التقارب بين البلدين.
العلاقات بين روسيا والصين لم تقتصر على التعاون الاقتصادي فحسب كما يظن البعض، في إطار النظرة الضيقة للمصالح الاقتصادية التي يرغب كل طرف في تحقيقها عند توقيع أي اتفاقية بين الجانبين، بل إن رقعة المصالح المشتركة تجاوزت فكرة البعد الاقتصادي بمراحل عدة.
سياسيًا.. فهناك تقارب كبير في الرؤية الروسية الصينية حول قضايا المنطقة في الشرق الأوسط، خاصة في الملف السوري والليبي، كما أن لكلتا الدولتين مواقف متشابهة فيما يتعلق بالملف الكوري الشمالي، والأزمة في أوكرانيا، وبحر الصين الجنوبي.
كما أن لكلتا الدولتين رؤية مشتركة تعتمد على فكرة عالم متعدد الأقطاب، لذلك هناك رغبة تجمعهما في تحجيم الدور الغربي في الساحة الدولية، لإحداث نوع من التوازن بين مختلف الأقطاب، وهو ما كشف عنه مدير مركز أبحاث “كونجي” في موسكو، المحلل الروسي المعروف ديميتري تارنين، بقوله أن روسيا والصين، من ناحية سياستهما العالمية، تعملان على تطبيق فكرة “العالم ثنائي الأقطاب” ضد السيادة الأمريكية، كما أنهما تدعم كل منهما الأخرى بصمت في محاولات حماية مناطق النفوذ.
يبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين، قرابة 90 مليار دولار، في 2015، مع الإعلان عن الرغبة في أن يصل إلى 200 مليار دولار بحلول 2020.
اقتصاديًا.. تتمتع بكين بعلاقات اقتصادية قوية مع موسكو لاسيما في الفترة الأخيرة، حيث تعد الصين أكبر شريك تجاري واقتصادي لروسيا، إذ بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين، قرابة 90 مليار دولار، في 2015، مع الإعلان عن الرغبة في أن يصل إلى 200 مليار دولار بحلول 2020.
كما احتلت روسيا مكان المملكة العربية السعودية في تصدير النفط للصين، إذ تعد الآن أكبر مصدر للنفط للصين، حيث ضاعفت التصدير لها منذ 2010، مع توقعات أن يزداد التعاون في مجال الطاقة أكثر فأكثر، وفي المقابل باتت الصين أكبر مستورد للنفط من روسيا بدلاً من ألمانيا.
عسكريًا.. تبلغ قيمة صفقات السلاح السنوية بين روسيا والصين ما يقارب المليار دولار، وبالرغم من تردد موسكو في تزويد عدوتها السابقة بأسلحة عسكرية متطورة، إلا أن بعض التقارير الصادرة من الخارجية الروسية تشير إلى أن موسكو ستزود الصين بصواريخ أرض-جو من نوع “إس 400″، الأمر الذي عزز العلاقات بينهما.
التعاون العسكري بين البلدين لم يقتصر على الصفقات العسكرية فحسب، فهناك تعاون من نوع آخر في مجال التدريب العسكري المشترك، فبحسب ما ورد من أخبار في مايو 2015 فقد عقدت مناورات عسكرية تدريبية مشتركة بين الجيش الروسي ونظيره الصيني في البحر الأبيض المتوسط، وحملت هذه التدريبات رسالة للولايات المتحدة مفادها أن روسيا يمكن أن تصبح حليفة عسكرية مهمة للصين.
تدريبات عسكرية مشتركة بين روسيا والصين في البحر المتوسط
اتفاقية مكافحة الإرهاب
في خطوة جديدة نحو تكريس التقارب العسكري، رفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى مجلس النواب الروسي (الدوما) مشروع اتفاقية التعاون بين موسكو وبكين في محاربة الإرهاب والانفصالية والتطرف، وذلك للتصديق عليها، تمهيدًا لتفعيل بنودها، وتجدر الإشارة إلى أن هذه الوثيقة تم التوقيع عليها بالعاصمة الصينية بكين قبل ست سنوات.
الاتفاقية تهدف في المقام الأول إلى تقوية وتطوير سبل التعاون الثنائي في مجال محاربة الإرهاب والانفصالية والتطرف، حيث تضم بنودًا تتعلق باتخاذ روسيا والصين إجراءات مشتركة بغية الكشف والتصدي للأنشطة المرتبطة بالتخطيط لهجمات إرهابية وتنفيذها، إضافة إلى تبادل المعلومات بين البلدين، من أجل الحيلولة دون القيام بأنشطة إجرامية متطرفة، بما فيها إنتاج وتخزين وتوزيع المواد الدعائية والأسلحة والمتفجرات، وحصول المنظمات الإجرامية على المواد النووية والمشعة والكيمياوية، بغية تنفيذ اعتداءات إرهابية.
اتفاقية محاربة الإرهاب بين الصين وروسيا ليست الأولى في هذا المجال، ولن تكون الأخيرة، فقد سبقها حزمة مطولة من الاتفاقيات والتوصيات المتعلقة بالتعاون العسكري والأمني، في ظل تطابق الرؤى في كثير من الملفات السياسية في المنطقة
وبحسب الاتفاقية، تستطيع كل من روسيا والصين تبادل المعلومات بشأن موارد وقنوات التمويل للتنظيمات المتطرفة والأساليب المميزة التي تستخدمها، فضلًا عن المعطيات المتعلقة بالأشخاص المشتبه بهم، ومن ثم وضع الخطط والاستراتيجيات لمكافحة هذه الجرائم.
اتفاقية محاربة الإرهاب بين الصين وروسيا ليست الأولى في هذا المجال، ولن تكون الأخيرة، فقد سبقها حزمة مطولة من الاتفاقيات والتوصيات المتعلقة بالتعاون العسكري والأمني، في ظل تطابق الرؤى في كثير من الملفات السياسية في المنطقة، إلا أنها تمثل خطوة جديدة ومرحلة هامة نحو تدشين تحالف جديد، قادر على مناهضة القطبية الأمريكية، ومواجهة الكيانات الأوروأطلسية.
مجلس الدوما الروسي في انتظار التصديق على الاتفاقية
هل يقلق الغرب؟
العديد من الأسئلة فرضت نفسها على الساحة الدولية حول رد الفعل الأوروبي حول التحالفات التي تبنيها روسيا والصين في المنطقة، لاسيما “منظمة شنغهاي للتعاون”، والتي تمثل قلقًا كبيرًا لدى القادة الأوروبيين جراء التوسع الكبير في الدول المنضمة لهذه المنظمة والتي قد تمثل تهديدًا للتفوق الأوروبي والأمريكي مستقبلاً.
“منظمة شنغهاي للتعاون” تضم 6 دول أعضاء هم الصين وروسيا وكازاخستان وقرغيزيا وطاجيكستان وأوزبكستان، بالإضافة إلى 5 أعضاء مراقبين، هم أفغانستان والهند وإيران ومنغوليا وباكستان، مع الإشارة إلى مساعي تركيا والهند وباكستان وإيران للانضمام للمنظمة كأعضاء فاعلين، إضافة إلى تسلم المنظمة طلبات من أذربيجان وأرمينيا وبنغلاديش وبيلاروسيا وسريلانكا وسوريا وأوكرانيا وجمهورية المالديف وكمبوديا ومصر لمنحهم صفة مراقبين.
إن توسع منظمة شنغهاي للتعاون وانضمام دولتين نوويتين إليها – الهند وباكستان – يثير قلق الغرب
التوسع في الدول المنضمة للمنظمة يضعها في مصاف التحالفات الدولية الكبرى، وهو ما عبر رئيس أوزبكستان إسلام كريموف، خلال تعليقه على انضمام الهند وباكستان إلى المنظمة بأن هذا سيغير التوازن الجيوسياسي في العالم.
وفي أول رد فعل لوسائل الإعلام الغربية على اتساع رقعة منظومة شنغهاي، قالت مجلة “نيوزويك” إن توسع منظمة شنغهاي للتعاون وانضمام دولتين نوويتين إليها – الهند وباكستان – يثير قلق الغرب.
وتحت مقال “الحلف الشرقي الجديد: الصين، روسيا، الهند توحد قواها” بالمجلة الأمريكية، أشار مراقبون إلى أن هذه المنظمة الدولية غير المعروفة في الغرب تقريبًا، سوف تضم نصف سكان العالم، وحسب قولهم أن توسع المنظمة يشير بوضوح إلى أن العالم يصبح متعدد الأقطاب، وإذا استمر الأمر في هذا الاتجاه فإن “قمة منظمة شنغهاي للتعاون في أوفا – مقر انعقاد المؤتمر الأخير – تعني بداية هذا الاتحاد، مما يتطلب إيلاءه اهتمامًا أكثر من جانب الغرب.
المجلة الأمريكية تشير إلى أنه بتوسع منظمة شنغهاي للتعاون بانضمام دول جنوب آسيا إليها، يمكنها أن تلعب دورًا موازنًا للمؤسسات الدولية التي تشكلت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، الواقعة حتى الآن تحت الإدارة الغربية، ومع أن هذا يشير إلى وجود تغيرات بطيئة في النظام العالمي، إلا أنه ليس نهائيًا.
وفي المقابل يرى خبراء أن الصين لها علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة، لذلك من الصعوبة أن تدخل في نزاع معها، وبلدان آسيا الوسطى عمليًا غير جاهزة عسكريًا، مقارنة ببلجيكا وبولندا مثلاً، أي أنه في حالة حصول مواجهة مباشرة ستضطر روسيا للاعتماد على جيشها وأسطولها، وهذا ما سيتم ذكره لاحقًا.
زعماء منظمة شنغهاي للتعاون خلال قمتهم الأخيرة
تحالف مشوب بالمخاطر
بالرغم من سقف التوقعات والطموحات المرتفع بشأن قدرة “منظمة شنغهاي للتعاون” و”بريكس” وغيرها من اتفاقيات التعاون الروسي الصيني والهندي على مواجهة القطبية الأمريكية، والهيمنة الأوروبية، إلا أن هناك عدد من التخوفات التي من الممكن أن تلعب دورًا سلبيًا في انخفاض هذا السقف من الطموحات المرتفعة.
فبالرغم من المكاسب التي تطمح إليها روسيا من وراء توطيد وتطوير علاقاتها مع الصين وباقي دول “شنغهاي للتعاون” و”بريكس” يتوجب عليها دفع الثمن، حيث إن جميع الحلفاء الحاليين لروسيا بدون استثناء يأملون – عبر موقف الحفاظ على العلاقات مع روسيا – تحقيق شروط مربحة لاستيراد مصادر الطاقة أو الأسلحة، ومن ثم فهناك ضريبة باهظة التكاليف لا بد وأن تتكبدها السياسة الخارجية الروسية الجديدة.
سيميل ميزان القوى لا شك لصالح الصين، وهو ما يضع القرار الروسي في خطر إذا ما تعارض مع القرار الصيني
معروف أن القوة الاقتصادية ستنعكس بشكل أو بآخر على صناعة القرار والموقف السياسي داخل “شنغهاي للتعاون” كما هو الحال في بقية التحالفات والتكتلات الاقتصادية الأخرى، هذا من جانب، أما من جانب آخر، فإن ميزان القوى لا شك وأنه سيميل لصالح الصين، وهو ما يضع القرار الروسي في خطر إذا ما تعارض مع القرار الصيني لا سيما وأن الأخيرة لها حساباتها الخاصة التي تجعلها حريصة كل الحرص على عدم إلحاق الضرر بعلاقاتها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وينطبق ذلك على الهند أيضًا التي تبدي حرصًا مماثلاً على علاقاتها مع الغرب، في الوقت الذي تسعى فيه موسكو إلى التصعيد مع الغرب وأمريكا على حد سواء، فماذا لو تعارض القرار الروسي مع نظيره الصيني؟
مما سبق وبالرغم مما يحمله التقارب الروسي الصيني من تحالف قوي، من الممكن أن يكون له كلمته في المستقبل، بما يعيد رسم خارطة القوى الدولية من جديد، إلا أنه من المبكر جدًا الحديث عن تحالف ثنائي روسي صيني، أو ثلاثي روسي صيني هندي، قادر على سحب البساط من تحت أقدام الهيمنة الأمريكية الأوروبية بصورة كاملة، لكنه بلا شك سيمثل عنصر ضغط قوي يعوض ولو بصورة تدريجية التوازن الدولي المفقود منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، ويعطي رسالة واضحة للأمريكيين والأوروبيين أن الساحة لم تعد لهم وحدهم.