يعتبر الدين الإسلامي “بطوائفه” دين الأغلبية السكانية في لبنان بفارق بسيط عن الدين المسيحي “بطوائفه”، وينقسم المسلمون في لبنان إلى ثلاث طوائف، أهل السنة والجماعة، والشيعة والدروز، ويشكل السنة نسبة 39% من المسلمين اللبنانيين أي ما يعادل 28% من الشعب والشيعة 40% والدروز 21% ويشكل المسلون نسبة 60% من الشعب ويشكل المسيحيون حوالي 40% من الشعب، وفق التقديرات.
لذا تشكل هذه البيئة حاضنة لا بأس بها لحركات الإسلام السياسي، فضلًا عن غيرها أحيانًا من الحركات الجهادية، في وسط بيئة اضطراب سياسي واجتماعي واسعة، وبعامل حفاز من البيئة الإقليمية المحيطة، لا سيما الوضع السوري.
فبالتركيز على المكون السني في لبنان كأحد الروافد المكونة للحركات الإسلامية نجد أنه دائمًا يواجه عقابة الموقف من إيران وحلفائها من الإسلام السياسي الشيعي في لبنان، حيث إن الصعود الإيراني المذهبي يدفع المكون السني نحو إعادة تعريف علاقته بالمكون الشيعي ما يزيد من فرص “الاحتراب المذهبي” بينهما.
خاصة وأن فشل الحوار بين حزب الله وتيار المستقبل “تيار سني موالٍ للسعودية” قد يفتح الباب واسعًا أمام صراع جديد وربما نشهد فاعلين جددًا في المكون السني اللبناني.
الإسلاميون والثورة السورية
منذ اللحظة الأولى لاندلاع شرارة الثورة السورية بدا لبنان متأثرًا بشكل كبير بما يجري في سوريا، خاصة وأن البلدين متجاوران، وما يربط بينهما كبير، ففضلًا عن الجغرافيا والتاريخ هناك العلاقات الاجتماعية والمصاهرات، وهناك التداخل السكاني بين البلدين، وهناك الوجود السوري في لبنان، والذي امتد لحوالي 30 عامًا، والذي يحلو للبعض تسميته بـ”عهد الوصاية”.
أعلن الإسلاميون السنة في لبنان وقوفهم إلى جانب ثورة الشعب السوري، وكانت الجماعة الإسلامية “الإخوان المسلمين في لبنان” السباقة في إعلان ذلك، متقدمة على كافة القوى السياسية اللبنانية بما في ذلك قوى 14 آذار، التي تعلن خصومتها مع النظام السوري منذ وجوده في لبنان.
بالنسبة للقوى الإسلامية السنية الأخرى، فقد قام بعض السلفيين في شمال لبنان بتنظيم تظاهرات داعمة للشعب السوري، كما نظم حزب التحرير مسيرات وتظاهرات داعمة للشعب السوري أيضًا، فضلاً عن أن المزاج العام السني في لبنان كان إلى جانب كافة الأنشطة التي أعربت عن دعمها للشعب السوري.
على النقيض وقف حزب الله – المحسوب كمشروع إسلامي شيعي – إلى جانب النظام السوري، وجاهر بذلك معتبرًا ما يجري في سوريا مؤامرة تستهدف النظام ومحور “المقاومة والممانعة”، بل وامتد الأمر بعد ذلك إلى المشاركة في قمع الثورة السورية بإرسال مقاتلي الحزب للوقوف بجانب النظام.
الانقسام بين الإسلاميين اللبنانيين حيال الثورة السورية جعل الشقة تتسع بينهم أكثر من ذي قبل، وقد بدا ذلك واضحًا من خلال توقف اللقاءات المشتركة بين حزب الله والجماعة الإسلامية، وكذلك اللقاء الإسلامي الذي كان يعقد بحضور الفريقين وكل من حركة التوحيد الإسلامي، وحزب التحرير، وحركتي حماس والجهاد الفلسطينيتين، وكذلك في التحرج من القيام بأنشطة مشتركة كانت إلى الأمس القريب محل إجماع كما في القضية الفلسطينية على سبيل المثال.
الواقع الأوسع لهذه الحركات
تتمتع الحركات الإسلامية في لبنان بخصوصية بالغة في أشكال الاختلاف والصراع والعمل وظروف النشأة، فهي تكتسب لون المذهبية من جهة، ولون الطائفية من جهة ثانية، في بلد أنهكته الحرب الأهلية، نتيجة ظروف الصراع الأهلي الطائفي.
دراسة هذه الحركات بشكلها الحالي تواجه مشكلات معقدة من تداخل الأيديولوجيا بالسياسة بالتكوينات الاجتماعية وأزمات التنمية ومحاولات النهوض فضلًا عن الإكراهات الخارجية التي تتدخل في كل كبيرة وصغيرة في لبنان.
ويشير الدكتور حسن جابر في هذا الصدد في أحد أبحثاه تحت عنوان (الحركات الإسلامية ومشكلات المنهج) إلى أنه يجب التفرقة بين حركات لا تنظر إلى السياسة إلا باعتبارها مرحلة متقدمة وبين حركات تعتبر التغيير السياسي مدخلًا للدعوة من دون العناية بالفكر والثقافة، حيث نرى الانقسام بين الحركات الإسلامية في مسألة (الإحياء) بين من يريد استحضار اللحظات الأولى في حياة المسلمين وبين من هم أكثر واقعية في ملامسة حقيقة الدين، ويصل هذا الاختلاف في لبنان إلى حدود يصعب معها الخروج بتقويم واحد.
مع تميز المجتمع اللبناني في فترة من الفترات، فضلاً عن التنوع الطائفي والمذهبي، ببعض من مناخ من الحريات السياسية والإعلامية والثقافية لم تنعم به أي من الحركات السياسية في العالم العربي من قبل.
هذه الخصائص مجتمعة تجعل من تجربة الأحزاب والحركات الإسلامية في لبنان تجربة نوعية وجديرة بالدراسة والتدقيق خاصة وأن هذه الحركات كانت ولا تزال تتعرض إلى قمع واضطهاد شديدين في غالبية الدول العربية.
وعند الحديث عن إسلاميي لبنان يأتي في مقدمتهم حزب الله، نظرًا إلى الدور التاريخي الذي لعبه الحزب في مقاومته للاحتلال الصهيوني منذ أواسط الثمانينات وصولًا إلى إنجاز التحرير عام 2000.
فضلًا عن نجاح الحزب في استقطاب الدعم والتأييد على المستوى الوطني، إلا أن بنية الحزب وانحباسه في البيئة الشيعية والتزامه بأيديولوجيا ولاية الفقية بمرجعيتها الإيرانية، جعل من إمكانية تحوله إلى حالة إسلامية جامعة أو وطنية عامة، أمرًا صعب التحقق في المجتمع اللبناني.
وهناك الحركات الإسلامية السنية التي يعود تاريخ تأسيس بعضها إلى ما قبل ولادة حزب الله بعشرات السنين، ويعود الاهتمام الأكبر بحزب الله نظرًا إلى طبيعة الظروف والأدوار التي اضطلع بها حزب الله مؤخرًا في السياسة اللبنانية.
وبالنظر إلى “الجماعة الإسلامية” وهي كبرى الحركات الإسلامية السنية في لبنان، نشأت في رحم جماعة أخرى هي”جماعة عباد الرحمن” التي أسسها محمد عمر الداعوق، وكانت تعتمد في دعوتها على التربية والتوعية والمحاضرات، وكانت تركز على الجانب الأخلاقي والروحي والإيماني.
انضم فتحي يكن ومجموعة من رفاقه إلى جماعة عباد الرحمن، ومن خلالها تعرفوا إلى مصطفى السباعي مراقب عام الإخوان المسلمين في سوريا الذي صار له تأثير متزايد على أفكار الشباب المسلم في كل من بيروت وطرابلس، تعززت العلاقة بين السباعي و”يكن”، الأمر الذي عزز، إن لم يكن قد شجع موضوعيًا، على الخروج من الجماعة الأم التي اكتفت بالعمل التربوي والكشفي والخيري.
خطا يكن ورفاقه طريقهم إلى الإخوان المسلمين، ويمكن القول أن النواة الأولى “للجماعة الإسلامية” بدأت عملها منذ عام 1957 إلا أن الترخيص الرسمي للجماعة لم يحصل إلا في 1964.
في ضوء الإعتبارات التاريخية اشتركت الجماعة الإسلامية في الانتخابات النيابية الأولى عام 1992 بعد اتفاق الطائف، وفي عام 1996 تقلصت كتلة الجماعة إلى نائب واحد انتخب عن عكار هو خالد ضاهر، بعدما فشل الأمين العام الجديد فيصل المولوي في الحصول على المقعد الذي كان يشغله سلفه فتحي يكن، وفشل أيضًا أسعد هرموش في تجديد نيابته رغم مشاركتهما في لوائح قوية.
وفي دورة عام 2000 لم تستطع الجماعة الإسلامية الوصول إلى المجلس النيابي بأي من مرشحيها وسجلت تراجعًا ملحوظًا على الرغم من الحلف الانتخابي القوي الذي دخلت فيه، وظهرت خلافات بين بعض قياداتها على الترشح في الشمال، والأمر نفسه تكرر في عام 2005.
وهنا لا يمكن إغفال دور عشرات الحركات والتنظيمات الأخرى الإسلامية (شيعية وسنية) ولكن كانت الأمثلة على أكبر فصائل الإسلامي السياسي في لبنان السنية والشيعية.
المد السلفي في لبنان
لا قاعدة واحدة تجمع سلفيي الشمال، وبالتأكيد ليس هناك قائدًا واحدًا لهم، الجغرافيا وحدها لم تكف لوضع تصور شامل حول أداء هذه المجموعات، ينقسمون في عوالم مختلفة وتجمعهم عصبية واحدة، رغم أن تمويلهم متباين، سعودي وقطري وكويتي، في المبدأ، إلا أن هذا التمويل التقليدي صار قديمًا، بات تمويلهم متعددًا من تنظيمات وسفارات دول.
الحركات السلفية شهدت نشاطًا بارزًا من خلال عشرات الجمعيات والمؤسسات الدعوية والتعليمية بدءًا من طرابلس ووصولًا إلى صيدا والبقاع الغربي.
علمًا بأن السلفيين في لبنان هم تيار وليسوا تنظيمًا، إلا أن التطور الخطير الذي حدث كان في تبلور الفكر السلفي الجهادي الذي نشأ بتأثير من التقاء التيار “القطبي” الأكثر تسيسًا والأفقر تمويلا مع تيار “الولاء والبراء” السلفي الوهابي الأقل تسيسًا والأكثر تمويلاً على أرض الجهاد الأفغاني.
ووفقًا لبحث الحركات والجماعات الدينية في لبنان المنشور على موقع السكينة فإن أولى الحركات السلفية تأسست عام 1964 على يد الشيخ سالم الشهال، بدأت حالة دينية خالصة وانتهت إلى مدارس واتجاهات وجمعيات تتجاذبها أطراف سياسية ومراكز قوى.
أطلق الشهال حركة سماها (شباب محمد) واعتنقت السلفية، واتخذت العمل الخيري وسيلة للدعوة، وبايعه أتباعه ولقبوه أمير الجماعة ثم تغير أسمها إلى (الجماعة – مسلمون) وانتشرت في مناطق عكار والمنية والضنية.
وفي عام 1976 وسعت الحركة نشاطها عبر إنشائها تنظيمًا عسكريًا تحت اسم (الجيش الإسلامي) ولم يقتصر دوره على القتال فقط بل كان جسمًا عسكريًا يتعاطى الشأن الدعوي والتربوي والسياسي.
ثم بعد ذلك انتقلت الحركة إلى بيروت وانصرف الشهال الابن (داعي الإسلام) لتأسيس (جمعية الهداية والإحسان) التي شكلت الإطار الرسمي للحركة السلفية في عام 1988، وكان عملها يشمل الجوانب الدعوية والتربوية من جهة والعمل الاجتماعي من جهة أخرى، وفي عام 1996 أصدرت الحكومة قرارًا بحلها بسبب ما ادعته (إثارة النعرات الطائفية في بعض الكتب التي تعتمدها الجمعية في معاهدها الشرعية).
ثم بعد ذلك توالت ظهور التيارات السلفية الجهادية وغيرها على فترات متابينة من الحالة اللبنانية السائلة دائمًا.
هشاشة الإسلاميين السنة في لبنان
وكما تقول لينا الخطيب في مقالها التحليلي على موقع مركز كارنيجي عقب معركة عرسال إنه ظهر بعد ذلك هشاشة البنية القيادية للطائفة السنية نتيجة عدم وجود قيادات سنية معتدلة فعالة في لبنان، فالغياب المطول لزعيم أكبر كتلة سياسية سنية في لبنان، الرئيس سعد الحريري، والانقسامات حول اختيار مفت للجمهورية، والشحن المذهبي بين السنة والعلويين في طرابلس كما بين الشيعة والسنة نتيجة تدخل “حزب الله” في سوريا، كلها ساهمت بإفساح المجال أمام التنظيمات المتطرفة لمحاولة استمالة أبناء الطائفة بعيدًا عن مؤسسات الدولة والإسلاميين الآخرين.
أصبح سنة لبنان هدفًا لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، الذي حاول في عرسال تقديم نفسه كقوة دفاع عن السنة في مواجهة الجيش اللبناني وحزب الله.
وكانت هناك بوادر مقلقة في هذا الشأن، ففي طرابلس، حاول البعض استغلال معركة عرسال، خاصة أن عرسال بلدة سنية، لإثارة النعرات الطائفية والدعوة لمبايعة تنظيم “الدولة الإسلامية” في حال انتصاره على الجيش.
ربح الجيش المعركة ولكنه لم يربح الحرب، فعناصر داعش لا زالوا موجودين في جرود عرسال في الداخل اللبناني، مما يشكل قنبلة موقوتة للوضع الأمني في البلد، كما يستمر حزب الله في انخراطه العسكري في مؤازرة النظام السوري ضد المعارضة بالرغم من سياسة النأي بالنفس الرسمية التي أعلنتها الدولة اللبنانية، مما يعطي الحركات السلفية الجهادية المنبعثة من سوريا ذريعة للاستمرار في محاربة الحزب على الأرض اللبنانية.