سنن الله في الأنفس والآفاق، كما في عوامل نهوض الأمم وأسباب سقوطها لا تتبدل ولا تتغير ولا تحابي أحد! فمن تعامل معها بحكمة وأخذ بها نجا؛ وإلا سقط وهلك، قال ابن تيمية: “إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة”.
وكما ينتقل الإنسان بين حالات الضعف والقوة، وتعتريه الشيخوخة والفناء، تنتقل الأمم والجماعات بين حالات الضعف والقوة وتعتريها الشيخوخة أو الفناء، مالم تتدارك مواقفها، وتراجع حساباتها، وتفحص أخطاءها، وتدرس بعناية ماضيها وتجاربها.
ولقد مرت الدعوة الإسلامية نفسها بتلك المراحل، من ضعف طيلة ثلاث عشرة سنة في مكة، حتى قويت الشوكة بقيام الدولة في المدينة، وزادت رقعتها، وانتشر عدلها شرقًا وغربًا، ثم بدأت في الضعف والتقهقر والتحول من الخلافة الراشدة إلى ولاية العهد ووراثة الحكم.
يقول الشيخ الغزالي: “مما يثير الحسرة: رفض دراسة الأخطاء التي تورط فيها بعضنا، ولحقتنا منها خسائر جسيمة! إنني أسارع إلى القول بأن الأخطاء لا تخدش التقوى، وأن القيادات العظيمة ليست معصومة، ولا يهز مكانتها أن تجئ النتائج عكس تقديرها، إنما الذي يطيح بالمكانة تجاهل الغلط، ونقله من الأمس إلى اليوم وإلى الغد، وادعاء العصمة، والتعمية على الجماهير المسترسلة.. إن هذه الكبرياء لا تقل دمامة عن العوج الذي نحاربه في صفوف خصومنا، ونزدريهم من أجله”!
الشيخ محمدالغزالي من دعا إلى المراجعات
وقد يكون المطلوب اليوم أكثر من أي وقت مضى أن تقف جماعة الإخوان وقفة صادقة مع النفس، وبكل حيادية وشفافية، تراجع فيها مراجعة شاملة لكل مواقفها وتجاربها السابقة، وقراراتها التي يعتبرها البعض سببًا في محنتها، وبرامجها، ولوائحها، وقادتها وآلية اختيارهم، وموقفها من مؤسسات الدولة والجيش على رأسها، وموقفها من الحركات والأحزاب المعارضة لها والمتحالفة معها.
يقول الشيخ عمر عبيد حسنة: “العمل الإسلامي اليوم قد لا ينقصه الإخلاص – في كثير من الأحيان – وإنما الذي ينقصه ولا يزال يفتقد إليه هو الصواب كشرط فني لازم، وأحد طرفي المعادلة التي لا تتحصل النتيجة إلا بتحققه، والتحول من عقلية التبرير والتسويغ إلى منهج دراسة الخلل، وبيان أسباب ومواطن التقصير، وإغناء ساحة العمل الإسلامي بالدراسات النقدية التقويمية”.
ولعل السبب في التأخر أو التردد يرجع في الحقيقة لغياب منهج النقد والتقويم والمراجعة، عن واقع الحركة الإسلامية باستثناء حالة واحدة قامت بها جماعات العنف في مصر في تسعينات القرن الماضي، وبذلك تكرس الخطأ واستمر الخلل.
وأهم ما ينبغي للجماعة مراجعته:
أولًا: مفهوم الحكم والدولة والأسلمة.. الذي لم يتبلور موقفها منها بوضوح، ولم يسهب فيه فكرها بما يكفي، ومع هيمنة الدولة القومية والعلمانية، ما مدى إمكانية تطبيق هذه المفاهيم على الواقع السياسي المعقد؟!
ثانيًا: تجربة الحكم القصيرة.. بدراسة مقدماتها ومراجعة نتائجها، والظروف التي تسببت في المشاركة بعد وعود بعدم المشاركة، والوقوف على واقع التنظيم وكفاءة أفراده، ومدى استعداده لتحمل أعباء دولة كبيرة مثل مصر بمشاكلها المعقدة والمزمنة وخاصة بعد ثورة شعبية.
ثالثًا: فض التشابك والتداخل بين العمل الحزبي (وليس السياسي) والدعوي: وضرورة الفصل بينهما، فصلًا حقيقيًا – فصل وظيفي – يقوم فيه لكل منها رجالها، ومشروعها، ووسائلها، وإعادة النظر في الفصل بين التنظيمات الدولية وبين التنظيم الأم، لاختلاف وتباين وخصوصية هذه التنظيمات، وبلدانها كالخليج وأوروبا ودول الملكيات.
رابعًا: التنظيم .. من حيث أشكاله وهياكله المؤسسية وأقسامه ووسائله، وآلية الانتساب إليه والانتظام فيه، والخروج من ضيق السرية إلى سعة العمل المؤسسي العلني، وما يتبعه من نتائج على قادة التنظيم وأفراده، ووضوح الواجبات والحقوق أمام الجميع، ووضع آلية للمحاسبة، وحق الأفراد في شجاعة الطرح، والاطلاع علي القرارات والتقارير، التي كانت السرية تحول بينها وبينهم.
خامسًا: المنهج والمقررات التربوية.. يحتاج المنهج لمفردات جديدة تعكس اهتمامًا كبيرًا بالواقع وتطور أحداثه ومتطلباته الفكرية والدعوية، وخاصة بعد وصول التنظيم إلى سدة الحكم بعد سنوات من العمل السري، والمتأمل في مناهج التنظيم ومقرراته التربوية، سيلاحظ أن المراجعات ضعيفة والمنهج دون المستوى المطلوب، وبينه وبين الواقع انفصام كبير.
سادسًا: اللوائح والقوانين الداخلية.. وإعادة النظر فيها كي تتناسب مع الواقع وتطوره، ومراجعة شروط الانتساب والانتظام، واعتماد الانتخاب كوسيلة ناجعة للاختيار، مع توضيح آليات الترشح وكيفية الاختيار من متعدد، نظرًا لكثرة الأعداد وقلة أعداد المترشحين للانتخاب.
كما يجب مراجعة بعض الأفكار الخاطئة المنتشرة داخل الجماعة، بأنه لا يجوز للفرد أن يترشح لأية منصب قيادي، واستحضار عدد من الأحاديث النبوية التي تزهد في الإمارة، لذا استمرت نفس الوجوه في القيادة لسنوات طويلة ثم جاءت بهم الانتخابات أيضًا، ليس لكفاءتهم، وإنما لعدم وجود البديل.
والحل في معالجة هذه الأفكار، والتفرقة بين الترشح لمنصب في تنظيم سياسي أو دعوي محدود بحدوده التنظيمية، وبين إمارة الدولة أو ولاية الإقليم، وشتان بين الاثنين! فكيف تتولد الكفاءات وتنمو في هذا الجو المغلق المنحاز، وهذه الأفكار المعطلة؟!
يجب فض الإشكالية وفتح الباب أمام الجميع بحرية للترشح على المستويات الإدارية الدنيا والعليا عبر برنامج انتخابي يتنافس من خلاله مع الآخرين، ويتم اختيار مشروع وبرنامج واختبار تنفيذه، ومن هنا تقضى الجماعة على الشللية وسوء الاختيار، وتطفو الكفاءات على السطح.
وتحديد عدد سنوات القادة بأربع سنوات، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لو كانت لي حياةٌ لما أقررت واليًا أكثر من أربع سنين إن كان عدلًا مَلّه الناسُ وإن كان جائرًا فيكفيهم من جوره أربع سنين”، وتكون لمدة واحدة للقيادات الدنيا، وفترتين للعليا في حال تم انتخابهم مرة ثانية، ولا يجوز لهم الترشح ثالثة، لإتاحة المجال لتجدد الدماء، وصناعة الكفاءات.
سابعًا: مراجعة الخطاب الدعوي والحركي.. خطاب خارجي موجه للدولة والأقباط والمرأة والأحزاب والشارع والجماهير، وقد ظهر الخطاب أحيانًا بأنه صادر من برج عاجي، هذا الخطاب أسميه خطاب الدعوة، وعنوانه الرحمة والتماس الأعذار والمشاركة، وليس خطاب الدولة وعنوانه المحاسبة والمساءلة والعقاب وعدم قبول العذر، والخطاب الثاني موجه للداخل، بتوضيح الرؤى والأهداف المرحلية ووسائل تحققها، ودور الأفراد في تحقيق هذه الأهداف.
يقول الشيخ عمر عبيد حسنة: “الصفوف التي لا تصمد للنقد والتقويم لا يوثق فيها ولا خير فيها أيضًا، وأن العدو – مع الأسف – هو أعرف بمشكلاتنا منا إن لم تكن بعض تلك المشكلات استوطنت واقعنا الواهن بسبب تسترنا، وأن الأخطر على أعدائنا أن نكتشف أخطاءنا ونعمل على إصلاحها.
إن التقويم يعيد البناء، ويسهم باكتشاف الطاقات وحسن توظيفها، ويسهم بهندسة الطاقات والإمكانات ووضع الخطط لتنميتها، ومحاصرة السلبيات، كما يسهم بتأصيل المؤسسات وحسن تقسيم العمل وبنائه على التكامل، وليس التآكل والتبعثر والشتات، إن صفوفنا وجماعاتنا، وجمعياتنا وتنظيماتنا ليست فوق النقد والمراجعة، وهي بكل الأحوال والأشخاص والظروف ليست أكرم من جيل خير القرون، جيل القدوة، الذي قال الله عنه في أعقاب هزيمة أحد، وحيث كان القائد هو الرسول: “قل هو من عند أنفسكم”، فالمراجعة لا تعني الرجوع والارتداد على الأعقاب، والتقويم لا يعني التحطيم، والتجديد لا يعني الإلغاء”.