هل تعرف يا صديقي معنى أن تكون صفرًا على الشمال؟ هل جربت أن تكون محور شفقة جميع أهلك لعجزك عن اكتساب قوت يومك؟ الجميع يسير به قطار الحياة حتى من وصلوا إلى الحياة متأخرين عنك بسنين، وأنت لا تزال واقفًا مكانك، بل إن مجرد الوقوف في نفس مكانك أصبح حلمًا، فالسنوات تنساب من بين يديك ولا تملك لوقفها حلًا.
طالما وقعت هذه الوريقات بين يديك يا صديقي، فأنا أرقد الآن في قاع البحر المتوسط، أحببت أن أعرف العالم قصتي، حتى لا يسمع أحد لخبير استراتيجي وهو يحلل قصتي ويحولني من ضحية إلى مجرم يستحق العقاب ولا يكفي أنه مات غريقًا.
أنا شاب عشريني ولدت في قرية تقع بإحدى محافظات الدلتا بمصر، حصلت على دبلوم التجارة عام 2006، كان حلم معظم أصدقائي وزملائي في القرية السفر لأوروبا، وكانت القصص الأكثر تداولاً بيننا هي قصص نجاح لأشخاص كانوا مهملين في مجتمعنا لعدم حصولهم على أي قدر من التعليم ولم يلتحقوا بمن يعلمهم صنعة، أي أنهم كانوا أشخاصًا فاشلين بكل المقاييس إلا أنهم نجحوا في الهجرة إلى أوروبا وعادوا بعد عدة سنوات ليصبحوا من أثرياء قريتنا ومحل احترام صغيرها وكبيرها، ولم يقتصر الأمر على هذا بل تعداه إلى أن عائلات القرية المحترمة أصبحوا يتمنون أن يخطبوا إليهم إحدى بناتهم ولو حتى كانت طبيبة أو مهندسة.
وتكتمل القصة بأن يتزوج بطلها بطبيبة من أكبر عائلات القرية ويجهزها جهازًا لم تشهده القرية من قبل، بعد أن بالغ جدًا في مبلغ مهرها وشراء ذهب (الشبكة)، وكان الزفاف الذي أقيم لهما زفافًا أسطوريًا وبهذا تنتهي القصة.
كانت هذه القصص التي تكرر حدوثها على مشهد منا حافزًا للكثير منا نحن شباب القرية على التعلق بأهداب حلم السفر للبر الثاني من المتوسط، حيث يمكننا تحقيق كافة أحلامنا، وحيث نكون أيضًا أبطالاً لقصص ترويها الأجيال الناشئة عن إنجازات الهجرة.
دفعت هذه القصص معظمنا إلى ترك الدراسة في وقت مبكر لأننا علمنا أن تحقيق حلمنا ليس على هذه الأرض، وكيف لنا أن نعتقد بخلاف ذلك وقريتنا قد ضاقت بأهلها والمباني زحفت على الأراضي الزراعية ولم يعد هناك متسع لزرع ولا يوجد بالقرب منا أي نشاط صناعي يذكر، خطابات الوعود بالتنمية لا نفهمها وإن فهمناها أصبحنا لا نصدقها، قديمًا كان حلم أجدادنا النزوح إلى القاهرة، أما الآن فقد أصبحنا نشعر بالشفقة على سكانها.
خلافًا لأبناء جيلي لم أكن أفكر بالسفر، كان ركوب البحر يشكل بالنسبة لي الرعب الأكبر، لذلك كنت أحلم بالتوظف في الحكومة كابن عمتي الذي أكرمه الله وتوظف بشركة الكهرباء، مرت الأيام سريعًا، وسافر معظم أبناء جيلي إلى إيطاليا واليونان، منهم من غرق في البحر وعبرت الأغلبية إلى حيث حلمهم، وأنا لا أزال كما أنا بل إنني قد اضطررت للعمل عند عم عبدو البقال بأجر لا يكفي حق السجائر التي أدخنها، أصبحت على هامش حياة أسرتي وأصدقائي، اقتربت من الثلاثين ولم أحقق حلم التوظف بشركة الكهرباء ولا أي حلم آخر، فشلت في كل شيء والحل الوحيد أن أفر من هذا الفشل ولو إلى الموت، أصبح السفر خياري الوحيد ولا حل لدي سوى تخطي خوفي من البحر، وعندما خطر لدي خوفي هذا فكرت أن الموت وأنا أحاول أشرف لي من أن أعيش كل حياتي على الهامش.
اقترضت نفقات السفر من أخي الأكبر، واتفقت مع الرجل المسؤول عن تهريب شباب القرية إلى إيطاليا، وأخبرني أن القارب سيسافر بعد أسبوع، وفي فترة انتظار السفر، أخذت أتخيل نفسي بعدما عدت وأنا أسير في شوارع القرية الضيقة مزهوًا بنجاحي، وقد غدوت رقمًا في شباب القرية الناجح، بعدما كنت مجرد صفر على الشمال.
ودعت أمي وأبي وانطلقت إلى طريقي، خوفي من البحر كان يعكر عليّ شعوري بالفرحة، احتضنت عيناي شوارع القرية التي شهدت معظم أحداث حياتي، وصلت إلى المركب وهناك كانت المفاجأة.
كانت المركب تحمل أكثر من 600 مسافر منهم أسر بالكامل وأكثر ما لفت نظري أسرة مكونة من زوج وزوجة وبنت صغيرة لا يتجاوز عمرها العامان، أخذت أفكر وأتساءل ما الذي دفع هذه الأسرة إلى الخروج من البلد بهذه الطريقة.
الشعور الذي سيطر عليّ من مخالطة الناس على المركب أنهم في حالة فرار لا حالة سفر، حالة المركب كانت سيئة جدًا، سألت أحد أبناء قريتي كان معي على نفس المركب فأكد لي أن كل المراكب التى تعمل في هذا المجال تكون بحالة مشابهة لذلك المركب وطمأنني بأن المسافة ليست بعيدة.
سأنهي مذكراتي هنا وأرجوا ألا تكون تقرأ الآن يا صديقى لأن هذا معناه كما قلت لك أنني قد غرقت أثناء الفرار من الفشل.