ربما تتذكر هذا الشريط أو ذاك من تلك الشرائط التي كانت تعرضها قناة الجزيرة غالبًا، والذي كان يصور واحدة من فظائع تنظيم القاعدة، ربما فكرت أو قال لك أحد أقاربك أو أصدقائك المؤمنين بنظرية المؤامرة، أو حتى من غير المؤمنين بها، إن تنظيم القاعدة مؤامرة غربية، أو أن من يصورون هذه الفيديوهات وينشرونها يريدون الهجوم على بلادنا، أو تشويه صورة الإسلام والمسلمين أو إيجاد مبرر لهم للمزيد من التدخل أو أن أمريكا تقف وراء هؤلاء، شخصيًا تعرضت لذلك الموقف أكثر من مرة، ودومًا كنت أتجاوز الأمر، أو أرد باستخفاف، لكن تقريرًا أصدره موقع ديلي بيست اليوم أثبت أن المؤمنين بنظرية المؤامرة قد لا يكونون على خطأ تمامًا، في الحقيقة يبدو أنهم كانوا على صواب في الكثير مما يقولون!
فقد أورد موقع ذا ديلي بيست تقريرًا كتبه كروفتون بلاك وأبيغيل فيلدينغ سميث من مكتب الصحافة الاستقصائية يتناول فيه كيف قامت الولايات المتحدة الأمريكية عن طريق وزارة الدفاع (البنتاغون) بالتعاقد مع شركة دعاية بريطانية لتصميم وإدارة برنامج دعائي (بروباغندا) في العراق بهدف تصميم فيديوهات “مفبركة” تشبه ما تنتجه المجموعات العاملة مع تنظيم القاعدة، وذلك بهدف مراقبة من يشاهده وينشره.
وتابع الصحفيان من مكتب الصحافة الاستقصائية عمل الشركة بمتابعة العقود المنشورة للجيش الأمريكي، وتقارير وزارة الدفاع المختلفة، وحتى ملفات وكالة بيل بوتينغر وكذلك أوراق منشورة لمتخصصين في البروباغاندا العسكرية، كذلك قام الصحفيان بلقاء عدة أفراد من المتعاقدين السابقين والمسؤولين الذين عملوا في العمليات المتعلقة بالمعلومات والإعلام في العراق.
وخلص التحقيق إلى أن وكالة بيل بوتينغر Bell Pottinger الدعائية البريطانية قد قامت بإنتاج مقاطع فيديو مفبركة ومشاهد مزورة تشبه ما تنتجه قنوات القاعدة الإعلامية وحتى وسائل إعلام عربية وقامت بنشرها في أقراص مدمجة أو إسطوانات فيديو في أماكن متفرقة من العراق، بحسب ما قاله موظف سابق بالوكالة.
فقد قال مارتن ويلز، أول موظف من الوكالة يتحدث لوسائل الإعلام أنه عمل بجانب مسؤولين عسكريين أمريكيين رفيعي المستوى في مقرهم الرئيسي بمعسكر النصر (كامب فيكتوري) Camp Victory في بغداد بينما كانت المقاومة العراقية مستعرة.
كان اللورد تيم بيل، الرئيس السابق للوكالة قد أكد لصحيفة صنداي تايمز البريطانية، التي شاركت أيضًا في الإعداد لهذا التحقيق، بأن وكالته عملت بالفعل على عمليات عسكرية سرية، كما أكد بيل أن وكالته كانت تقدم تقاريرها لمسؤولي وزارة الدفاع الأمريكية ووكالة الاستخبارات المركزية CIA ومجلس الأمن القومي أثناء عملها في العراق.
وبحسب التقرير فإن الوكالة التي تتخذ من لندن مقرا لها بدأت العمل في العراق بُعيد الغزو الأمريكي، وفي مارس 2004 طلبت منها إدارة البلاد المؤقتة بتنسيق الدعايا للانتخابات الديموقراطية، وهي مهمة علنية اعتبرتها الوكالة شديدة الأهمية كما وصفتها في تقريرها السنوي.
وتيم بيل هو أحد أمهر رجال العلاقات العامة في المملكة المتحدة، ويُعزى له نجاحات مثل تعزيز صورة مارغرت ثاتشر كما ساعد في نجاح حزب المحافظين في الانتخابات لثلاث مرات، وتتعامل الشركة التي أسسها مع عدد كبير من العملاء، بما في ذلك أنظمة قمعية وأفراد مرتبطين بمجرمي حرب، مثل أسماء الأسد، زوجة الديكتاتور السوري، أو حتى تقديم خدمات لديكتاتور تشيلي أوغستو بينوشيه.
وبحسب مارت ويلز، الذي كان يعمل خبيرًا في إنتاج الفيديوهات، فإن الشرائط والمقاطع وإنتاج بيل بوتينغر بشكل عام كان يتم اعتماده أولا من الجنرال السابق ديفيد باتريوس، الذي خدم كقائد لقوات التحالف في العراق، أو حتى من البيت الأبيض في بعض الحالات، وصف ويلز الفترة التي عمل فيها في كامب فيكتوري بالصادمة وبأنها جعلته يرى العالم على حقيقته، كما أنها غيرت حياته!
ويقول التقرير إنه بعد الانتخابات العراقية، أُوكلت مهام أقل علنية من التسويق للانتخابات، فقد استطاع مكتب الصحافة الاستقصائية تتبع أكثر من 540 مليون دولار من العقود بين البنتاغون وبيل بوتينغر بعقود تتعلق بعمليات إعلامية ومعلوماتية بين مايو 2007 وديسمبر 2011، وتحدث التقرير عن أن هناك عقد سنوي بلغت تكلفته 120 مليون دولار في عام 2006.
كانت معظم هذه الأموال تتعلق بنفقات الإنتاج مثل التوزيع والنشر، بحسب اللورد بيل، لكن الوكالة أكدت أنها حصلت من هذه العقود على ما يقارب 15 مليون جنيه إسترليني من الأرباح.
صحيفة صنداي تايمز نقلت في نسختها عن اللورد بيل قوله أن “العمل شمل كتابة مسلسلات درامية باللغة العربية”، وتابع بتأكيده على أن “المسلسلات الدرامية التي أعدتها الشركة كانت تدور حول شاب يرفض الإرهاب”.
كذلك نقل التحقيق عن مارتن ويلز بأن الشركة أنتجت موادًا إعلامية للمحطات التليفزيونية المحلية، وبدت كما لو كانت عربية الأصل.
مارتن ويلز تحدث في مقطع فيديو نشره موقع ديلي بيست ونعيد نشره في نون بوست عن انضمامه إلى وكالة بيل بوتينغر، ويكمل بوتينغر بقوله أنه تم إبلاغه بقبوله للعمل قبل يومين فقط من انتقاله للعمل في العراق، إذ تم إخباره مساء الجمعة بأن عليه أن يتجهز للسفر صباح الإثنين ليعمل في وحدة إعلامية استخباراتية في بغداد، كما تحدث ويلز عن اعتقاده أنه كان على وشك العمل في المنطقة الخضراء في بغداد، حيث كان يعمل مسؤولو قوات التحالف الذين أداروا العراق فترة ما بعد الغزو، إلا أنه كان يعمل من مبنى داخل كامب فيكتوري، والذي كان يقع في محيط العديد من العمليات الانتحارية التي استهدفت القوات الأمريكية أو التي كانت ذات طبيعة طائفية.
وبحسب ويلز فإن العمليات كانت تتضمن ثلاث مهام رئيسية هي إنتاج مواد تلفزيونية تعكس صورة سلبية عن تنظيم القاعدة، والمهمة الثانية كانت إنتاج مواد تلفزيونية تظهر وكأنها مصنوعة للقنوات التلفزيونية العربية، أما المهمة الثالثة فكانت مهمة حساسة للغاية، وتشمل إنتاج أفلام مزورة منسوبة لتنظيم القاعدة.
كان يتم إعطاء مارتن ملاحظات دقيقة للغاية، وكان يستخدم الصور والمواد التي ينتجها تنظيم القاعدة بالفعل، كان عليه أن ينتج مقاطع مدتها 10 دقائق، وبشكل معين ومشفر وبصيغة ملف محددة.
أما عن كيفية توزيع هذه الشرائط، فقد كان يتم أخذها مع جنود البحرية الأمريكية، أثناء مداهماتهم وعملياتهم في القرى والبلدات العراقية، وهناك يرمون الأقراص المدمجة في الوقت الذي يثيرون الفوضى في المكان.
لاحقًا سيجدها أحد العراقيين، لكن ويلز يقول بأنه لم يكن يمكن مشاهدة هذه الأفلام إلا عبر برنامج “ريل بلير”، وأثناء ارتباطه بالإنترنت، وهو ما يؤدي إلى نقل المعلومات الخاصة بالشخص الذي قام بمشاهدتها إلى كامب فيكتوري، عن طريق حساب على Google Analytics وهي أداة من أدوات غوغل لتتبع مستخدمي المواقع على الشبكة ومعرفة أماكنهم وعناوين أجهزة الكومبيوتر خاصتهم IP addresses.
وبحسب ويلز، فإن حسابات التتبع تلك لم تكن متاحة إلا في نطاق محدود للغاية، إذ كانت تصل معلومات مشاهدي الأقراص إليه شخصيًا، وإلى عضو آخر في إدارة بيل بوتينغر، وأخيرًا إلى قيادات رفيعة المستوى في الجيش الأمريكي.
لكن ذلك لا يعني أن من عملوا في هذا البرنامج كانوا فريقًا محدودًا، إذ ينوه التحقيق إلى أنه في ذروة عمل الشركة كان لديها 60 موظفًا في بغداد، بالإضافة إلى 200 موظف محلي.
ويقول ويلز بأن الأماكن التي كانت يتم تتبع هذه الأقراص إليها، قد تكون إيران، أو بقية مناطق العراق بطبيعة الحال، وربما سوريا، لكن الأخطر على الإطلاق هو ما حدث مرة من أن واحدًا من تلك الأقراص تمت مشاهدته في الولايات المتحدة الأمريكية.
ويؤكد التقرير أن العمل في العراق كان مربحًا للعديد من الوكالات والشركات الشبيهة في طبيعتها ببيل بوتينغر، إذ رصد التحقيق أن هناك أكثر من 40 شركة تم التعاقد معها بين 2006 و2008 لمهام تتعلق بإنتاج الفيديو والمنتجات الدعائية والإعلانية للراديو وللتليفزيون أو حتى لتنظيم استطلاعات للرأي، لكن ذلك لا ينفي أن بيل وبوتينغر كانت أكثر شركة استفادت ماديًا من ذلك النوع من العمليات.
كما تحدث ويلز عن تأمين المكان، والذي كُتب عليه “هذه منطقة سرية، إذا لم يكن مصرحًا لك بالدخول، لا تقترب، بغض النظر عن رتبتك، لا تدخل حتى يصحبك شخص ما!”.
ويختم ويلز قوله بأنه كان يرى أن الهدف هو تسليط الضوء على الفظائع التي يرتكبها تنظيم القاعدة، وأنه ربما يكون ذلك شيئًا جيدًا، لكن في النهاية، يقول ويلز، “كان داخلي تساؤل مستمر بشأن ما نفعله، هل كان صوابًا؟!”.
الآن، لا يمكن التأكد مما إذا كانت الفيديوهات التي شاهدناها على الإنترنت، أو أعدنا نشرها على صفحاتنا في مواقع التواصل الاجتماعي تعود بالفعل لمن يدّعون أنهم أنتجوها، كذلك يبرز التحقيق العديد من الأسئلة حول أخلاقية العمل الإعلامي الذي قامت به الولايات المتحدة وبريطانيا في المنطقة لسنوات، نحّ جانبًا الانتهاكات التي ارتُكبت خلال أشهر الغزو وسنوات الاحتلال التي تلتها.
في المرة القادمة التي يتساءل فيها أحدهم أمامك بشأن مصداقية فيديو يقوم بإنتاجه تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أو القاعدة، سيكون عليك أن تفكر مليًا قبل أن تنظر إليه باستخفاف، فلربما كان على حق، فلن يكون غريبًا الآن أن نعرف أن العديد من المقاطع التي نصطدم بها يوميًا قد تكون جزءًا من منتج دعائي صممه بريطاني في مبنى تابع للبحرية الأمريكية في صحراء العراق.