تفاجأ كثير من المتابعين بالخطوات السريعة التي اتخذتها تركيا في الفترة الأخيرة في مجال السياسة الخارجية لها ومن اتجاهات هذه التحولات غير المتوقعة، وبدأت التحليلات والتوقعات والقراءات تصب في قراءة المشهد التركي الداخلي والمشهد الإقليمي على ضوء تلك التغيرات.
الحقيقة، أن السياسة التركية الخارجية قائمة على أسس ومرتكزات واضحة تمام الوضوح، وهي سياسات مصلحية تعتمدها تركيا لتحقيق مصالحها الذاتية في بناء العلاقات واستثمارها وتفعيلها، ولكن الإطار العام لتركيا في بناء هذه الأواصر على اختلاف أشكالها، يجعلها صالحة لأن تكون بداية لعلاقات يمكن لتركيا أن تقدم من خلالها خدمات حقيقية لشعوب عدة، تستفيد تلقائيًا من هذه التحالفات أو من تداعياتها.
لعلاقات تركيا بروسيا، نكهة خاصة، فقبل إسقاط الطائرة الروسية كانت العلاقات الثنائية روتينية محضة، وبعد إسقاط الطائرة الروسية فوق سوريا باتت أشبه بمرحلة التوتر الشديد بل وأوصلها البعض لمستويات الجاهزية للحرب، وبعد تطبيع العلاقات مع موسكو، باتت ملفات العراق وسوريا ولبنان وفلسطين وأوروبا قضايا تقع ضمن قائمة تطلعات الدولتين في بناء شراكات أكثر عمقًا وجدوى على الحلبة الدولية.
الأمر نفسه يمكن قوله عن العودة التدريجية للعلاقات بين أنقرة وتل أبيب، فملف مصر وحصار غزة والأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال والجنود الإسرائيليين الأسرى في قطاع غزة كلها باتت جزءًا من هوية هذه العلاقة شاء الطرفان ذلك أم أبوا، فهذه سمة السياسة، باب واحد لكثير من الغرف داخله، ومن يعرف قدرات الدبلوماسية التركية العريقة يعرف أن هناك فرصة حقيقية أمام تركيا لتقدم جديدًا في كثير من هذه الملفات برغم التحليلات السطحية التي قد تصدر من هنا أو من هناك.
لننظر من حيث الأثر الفعلي على تداعيات هذه العلاقات الجديدة وآثارها، علينا أن ندرك جيدًا مستويات التخطيط الذي كان يحاك ضد تركيا على المستوى الدولي لإسقاطها في أزمة حرب مع روسيا وحلفائها في المنطقة وهي في غنى عن هذه الأزمة، ويمكن لها تجاوزها باللعب الدبلوماسي الناضج، وإذا أضفنا مقدار الجهود التي بذلت بتفجيرات تركيا المتعددة في مدنها المختلفة، إضافة لمحاولة الانقلاب الفاشلة والدامية الأخيرة، نعرف ساعتها ما معنى أن تقلب تركيا الطاولة بشكل سريع على كل هذه المخططات وجنوحها نحو مخطط جديد هي جزء أساسي من تشكيله بدل أن تكون فيه حجر شطرنج لا حول له ولا قوة.
الكثير من المسائل تغيرت مؤخرًا، وعلينا أن ندرجها هنا في خانة معطيات التغيير الحاصل في أسباب التوجهات التركية الجديدة، فضعف الناتو في فرض نفسه إبان أزمة الطائرة الروسية إلى جانب تركيا، والموقف الألماني والفرنسي المخزي تجاه هذه الأزمة، ومعضلة التدخل الإيراني المتزايد في سوريا، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتراجع ملف الهجرة لأوروبا كعنصر ضاغط لصالح تركيا، كل ذلك جزء من المشهد السياسي.
ومخطئ من يظن أن القيادة السياسية التركية لم تدرسه بعمق ومسؤولية، وسواء نجحت تركيا في توجهاتها أو فشلت بها، فهذه هي السياسة، وتلك هي طبيعتها، والسياسة المتحركة دائمًا تعطي ثمارها، بينما السياسة الجامدة الروتينية لن تحظى بغير فتات الموائد.