يبدو غير سَويّ في وقفته، رغم كونه وسط جمهوره المنتقى بعناية وحرسه الأكثر ولاءً، يطل في ملابسه المدنية المهندمة، ووجه بالغ التقلب من الابتسام ومحاولة التظاهر بـ”الثقة” إلى الانطفاء والعبوس بل و”التجهم”، وفي كل الأحوال يظهر القلق العميق وافتقاد الأمان في عينيه.
في الحالة الأولى تجده يبسط من أي مشكلة مهما كانت كبيرة وكاشفة ودالة على فشله وفشل نظامه في الإبقاء على مصر التي تمرد من قبل عليها، وعلى (ولي نعمته) قبل أن يكون أول حاكم منتخب في تاريخ مصر والمصريين، وإن كان الحدث الذي يبسط منه ضخمًا لا يمكن تمريره، يساوي، مثلًا، غرق أكثر من مائتي روح من أهل بلده وجنسيات أخرى، في مركب اشتملتْ على أسرٍ كاملة في سابقة أولى، أجمعت أمرها وأسلمت قيادتها إلى البحر المتوسط، وكان مقرر أن تصل إلى إيطاليا لولا غرق المركب بعد ساعات قليلة من انطلاقه لتحمله أضعاف سعته.
قالت وكالة الأنباء الفرنسية إنه غرق على بعد 12 كيلومترًا من دينة رشيد، يوم الأربعاء 21 من سبتمبر/ أيلول الحالي؛ و90% ممن كانوا على ظهره شباب.
تجاه الحدث الأكثر من دال على تدهور أحوال المصريين بدأ الرئيس المدعى لمصر خطابه الأخير بالوقوف دقيقة حدادًا على أرواح الغرقى، هكذا بمنتهى البساطة بعدما رفض حرس الحدود التعاون مع مطالبيه بالتحرك لإنقاذ الذين يصارعون الغرق، وكذلك فعلت القوات المسلحة في تخلٍ له سوابق من قبل، بل قيل إن مجرد استخراج شهادات وفاة لشهداء محاولة الخروج من مصر رفضته الدولة ليظل أمر الاعتراف بوفاة الأخيرين معلقًا لمدة عشر سنوات كاملة وفق القانون المصري، قبل أن ينال أحد أقارب الغرقى حقًا حكوميًا من معاش أو ما شابه أو حتى تقسيم إرث إن كان لأحد هؤلاء (الغلابة) إرث يورث.
بلون “كرافت” أقرب إلى الأخضر أو قل شيئًا أقرب إلى (التركواز)، وفي الهواء الطلق بمشروع غيط العنب بالإسكندرية، كما يحلو للسيسي اللقاء بمريديه أغلب المرات، في الهواء الطلق، ربما لضمان أمن وسلامة نفسه بالتوجه إلى أماكن بعيدة عن العمران، صعبة عصية على الاستهداف، وربما ليحاول أن يثبت للعالم أنه ينجز مشروعات، وربما لإنه يكذب “الكذبة” ويفتري على بلد يكاد يحتضر في عهد نسب إليه بقوة المدفع والرصاص والطيران الحربي مع الاعتقال والقتل والإصابة لشرفاء مصر إلا قليلًا، يكذب الكذبة بأن في مصر “محاولة” نهضة، ثم يصدقها.
لكن النسخة الأولى من السيسي في خطاب “غيط العنب” الأخير الإثنين 26 من سبتمبر/ أيلول، النسخة المكررة المختصرة في الخطابات المختلفة بنفس التفاصيل الدقيقة والأجواء الحذرة القلقلة، تجد الشخص “المبرارتي” الذي لا يعدم حيلة ولا يفتقد دفاعًا عن “مصيبة” تسببت فيها شهوته تولي مقعد الرئاسة وتضامنها مع “إجرامه”، والمحصلة تسببه في استشهاد وقتل وحبس ومطاردة ملايين المصريين، ثم خداعه لملايين آخرين وتمنيتهم بمعسول الكلام (الفاجر) من مثل ما قاله في ثلة من الممثلين والممثلات مساء 6 أكتوبر/ تشرين الأول 2013م “وبكرة تشوفوا مصر”، وليتنا ما عشنا حتى اليوم ولا رأينا، وفي نفس اليوم كان قد استشهد قرابة 60 مصريًا فيما هو يتمايل ثملًا مخمورًا بالسلطة.
نسخة “سيسي/ غيط العنب” الأولى التي تدور حول ادعائه الطيبة، وهي محاولة لا تكاد تغادر مركبة التذلل والنفاق إلى بقايا أتباعه من المصريين، أولئك الذين لا يخلو شعب منهم، ولكن حين تغيب منظومة الوعي يزدادون.
وهو يقول إن حدودنا البحرية والنهرية تقارب 5 آلاف كيلومتر لا نستطيع حمايتها دون مساعدة المصريين، وهو يضيف فاقدًا للشعور مخاطبًا الراغبين في الهجرة وترك مصر بأي صورة وإن لم تكن شرعية: “ليه عاوزين تسيبونا وتزعلوا أهلنا”.
غني عن البيان أن هذه الحالة الماضية “مدعاة.. متكلفة” ليست الحالة الطبيعية للسيسي، بل إنه يحاول أن يتمم ملامح “الفرعون” على نسق الآية الكريمة: {فاسْتخف قوْمه فأطاعوه} 54 سورة الزخرف.
على أن الانشغال الكامل بالرد على هذه التفاهات، طوال الوقت كما يحلو للبعض ربما بحسن نية، ليس مطلوبًا بحال من الأحوال، فضلًا عن التعرض إلى جزء من شعبنا، بالقول بغفلته وطاعته هذه “الخزعبلات”، وإلا فإنه من البديهي لدى العقلاء ممن يرتجى منهم فائدة، أن السيسي نفسه الذي يقول هذه الكلمات هو الذي يسرق وينهب خيرات الوطن لحسابه الشخصي أولًا ثم لحساب كبار الجيش والمقربين إليه مع الأجهزة الأمنية ودولاب الدولة المؤهل للسقوط من آسف شديد.
إن البسطاء من أهلنا يتحولون عمليًا عن مناصرة السفاح كلما ذاقوا من ويلات غلاء الأسعار والتضييق عليهم في حياتهم وأرزاقهم، وإن تذكيرهم بالأمر كل آن ليس غاية ولا وسيلة في حد ذاته، كما أن انتظار حراكٍ ينهي الانقلاب في مصر ولو جاء في صورة ثورة “جياع” كما يحلم البعض بـ”كوابيس مضنية” في حقيقة الأمر، سواء أكان الحالم من المهاجرين المطاردين أو غيرهم ليعود إلى مصر أو إلى السلطة، فإن الحقيقة تقول بأن سقوط مصر الكامل لن يعود بالفائدة على شريف، وربما تمناه السيسي والفسدة من أتباعه من باب إما أن “يحكموها أو يهلكوكها”، وهي ذات الفرية التي ينسبها إلى معارضيه!
بقي أن المخلصين منوط بهم بعد أكثر من 3 سنوات على الانقلاب البحث عن مخرج مما حل بمصر، وعدم الاحتفاء بكلمات السيسي والتندر بها والاستهزاء عليها، إذ يبدو أن الأمر مقصود من ناحية قائد الانقلاب لإشعارهم بالرضا عن النفس، فيما الانقلاب باقٍ مستمر على حاله، وهم باقون مستمرون في منفاهم وتشرذمهم أحيانًا واعتقالهم ومطاردتهم أحيانًا.
أما صورة السيسي الثانية فمختصرها في نفس الخطاب لما انقلبت ملامحه إلى التهجم محاولًا ادعاء “السيطرة” ليقول إن الجيش جاهز للانتشار في مصر خلال 6 ساعات، وكأنه يستشعر خطرًا سيحل بالبلاد كلها، ربما من نشر إشاعات تشيع الإحباط واليأس بين المصريين.
وللسيسي سوابق في التهديد في خطابات سابقة بناءً على ما “يحب التحذير منه” من مخاطر يراها، وتذكير بمذابح أراد الله أن تكون على يديه بخاصة للإخوان، والصراخ بأنه لا يجد ما يعطيه، ولا يستطيع بيع نفسه، وفي الحال يعمد معدو البرامج والمذيعون في قنوات تنسب إلى الشرعية وإعلاميون إلى تلقف الكلمات والتأكيد على أن السيسي ضعيف ويعاني وأن سقوطه وشيك.
في حالتيه، غني عن البيان أن السيسي غير صادق، وإنما يداعب مشاعر البسطاء محاولًا الإبقاء عليهم في صفه في الحالة الأولى، أو يتلاعب بمعارضيه لإشعارهم إما بقوته أو اهتزازه تحت نير ضرباتهم غير الموجودة أصلًا!
لا تصدقوا هزليات السيسي من “مشروع الفكة وتحويل دولاب العمل الحكومي المصري إلى الخامسة صباحًا وركوب الدراجات بدلًا من السيارات واللمبات الموفرة وسيارات الخضار لعمل خريجي الجامعة”.
ولا تصدقوه حينما يتهجم ويذكر أن “المصريين سبب خراب مصر وحروب 48 و56 و67 و1973م وأنه يجني حصادها”، ولا قوله “هتاكلوا مصر يعني”، و”ممكن نبني آلاف المساكن في سنة”، وخزعبلات العاصمة الإدارية الجديدة، ونتائج مشروع تفريعة القناة.. وهلم جرًا.
الحقيقة الواضحة أن شبيه البشر “ذلك” يتلاعب بالمصريين من جميع الفئات والأنواع ويبذر المسكنات في طريقهم، فيما هو ماضٍ في طريقه، وهو مدرب على جميع أنواع الكذب والخداع وطبقات التمثيل منذ كان يقول إلى الرئيس “محمد مرسي” إنه صائم يومي الخميس والجمعة، ويهاتف زوجته مدعيًا الصلاح أمامه وطالبًا منها أن تواصل تحفيظ “الولاد” القرآن الكريم.
إن قواعد التخطيط الصحيح للوصول إلى حل لمأزق مصر وشرفائها ومخلصيها لا يمر بحال من الأحوال عبر الاهتمام بأكاذيب واداعاءات وأعمال المخابرات التي يقوم السيسي بها أمام الكاميرات، بل لها طرقًا أخرى من نفض الصفوف عن المندسين والمنتفعين، أيًا من كانوا وكانت مواقعهم وإن تعددت مهنهم وصفاتهم، ثم انتقاء أفضل الخبرات من الشرفاء الصامتين المحتسبين وغيره، للتخطيط المناسب أولًا ثم الشروع في التنفيذ، وكفانا انتظارًا لسقوط المدعو الدعي السيسي، من تلقاء نفسه، فإنما هو حالة لا شخص، ومشروع هدام متجذر في التربة، وممتد في أفق الوطن لا مدعي رئاسة، وحتى إن ذهب فسيبقى مشروعه الانقلابي، فلا أقل من محاولة المخلصين بناء مشروع خير واضح جلي في مواجهته.
كفى ما مر من وقت.. وأعيدوا تنظيم قراءتكم للواقع، واعتمدوا خططًا واضحة، وليكن مرور الوقت المقبل في فائدة أو انتظارها.. يرحمكم الله!