القرارات الاقتصادية الحساسة التي تؤثر على المناخ الاقتصادي العام وعلى تعاملات المواطن العادي، دائمًا ما يكون لها أسباب جوهرية واضحة ومدروسة دراسة وافية وتخدم المصلحة الاقتصادية للبلاد، ولا شك أن قرارات السياسة النقدية في مصر في هذه الفترة الصعبة التي يمر بها الاقتصاد المصري، هي الأكثر حساسية من غيرها، وعلى رأس هذه القرارات “تعويم الجنيه”.
المقصود بتعويم أي عملة هو تركها لسوق العرض والطلب دون تدخل من البنك المركزي – المسؤول عن السياسة النقدية -، وتلجأ البنوك المركزية لهذا الإجراء في حال فشلت كل المحاولات في السيطرة على سوق الصرف، إذا الأمر بسيط ولا يستدعي القلق في الحالات الطبيعية، بل إن لهذا الإجراء مزايا اقتصادية معتبرة، ولكن الأمر يتوقف على الوضع الاقتصادي للدولة التي تقوم بالتعويم.
هل الوقت مناسب للتعويم؟
التعويم من الممكن أن يكون طبيعيًا في أي دولة لديها اقتصاد مستقر، ولديها توازن ولو قليلاً في الميزان التجاري وميزان المدفوعات، لكن الوضع في مصر مختلف بعض الشيء فهي تواجه مجموعة من المشاكل دفعت بجميع القطاعات الاقتصادية تقريبًا إلى حافة الانهيار، بالإضافة إلى طلب متفاقم على الدولار، في ظل نضوب المصادر، واعتماد شبه كامل على الاستيراد، ولكن ما الذي يدفع مصر للتعويم في ظل هذه الظروف غير المناسبة لمثل هذا الإجراء؟
في الحقيقة هذا السؤال في غاية الأهمية، ومن الضروري الإجابة عنه الآن، خاصة بعد التوقعات الصادرة عن بنك الاستثمار “بلتون” من أن البنك المركزي سيقدم على إجراء تعويم للجنيه المصري خلال ساعات، معتبرًا لقاء السيسي مع محافظ البنك المركزي طارق عامر، السبت، بمثابة “تأييد سياسي نهائي للقرار “التعويم”.
توقعات “بلتون فاينانشال” اعتمدت في الأساس على الجدول الزمني المتوقع لموافقة مجلس إدارة صندوق النقد الدولي على تقديم قرض قيمته 12 مليار دولار لمصر في الفترة بين 4 و9 أكتوبر وهو الأمر الذي قال البنك إنه سيكون بمثابة “الصدمة الأولى للمضاربين في العملة”.
توقعات بلتون ليست الوحيدة التي تكشف عن اقتراب موعد التعويم، حيث قال هاني جنينة – الذي توقع تحريك سعر الجنيه في آخر تحريك قام به المركزي -، إن تعويم الجنيه سيتم فى غضون 72 ساعة – هي أيام عمل البنوك بالأسبوع الحالي – وتابع: “قد يتم الأمر خلال الإثنين أو الثلاثاء أو الأربعاء، لكن الأكيد أن الأسبوع الحالي هو التوقيت الأمثل”، بحسب جنينة.
الهدف الحقيقي وراء تعويم الجنيه
قرار التعويم يأتي في الأساس لتحقيق عدة أهداف، أهمها القضاء على السوق السوداء، والحد من تأثيراتها، وكذلك محاولة إدخال مليارات الدولارات المتداولة في السوق غير الرسمي للبنوك، وطمأنة المستثمرين الأجانب، لضخ المزيد من الاستثمارات، الهدف الأهم من كل هذا هو تنفيذ أجندة صندوق النقد الدولي للموافقة على القرض، شخصيًا أرى أنه الهدف الوحيد جراء هذه الخطوة.
عمومًا حتى الآن يصعب وضع سيناريوهات حول توجه المركزي نحو التعويم الجزئي أم الكلي، لتحديد اتجاه سعر الدولار في الأيام القادمة، وذلك لعدم توفر معلومات حول السياسة التي سيتبعها المركزي، ولكن في الغالب ترك الجنيه أمام الدولار بدون سعر رسمي، من الطبيعي أن يرفع سعر الدولار لأعلى سعر يمكن أن يتقبله السوق، وربما يكون هذا السعر من 15: 16 جنيهًا للدولار في بداية القرار لكنه سيستقر عند سعر العادل أمام الجنيه الذي سيحدده السوق أيضًا، بعد فترة أتمنى ألا تطول.
هل يحل التعويم أزمة الدولار في مصر؟
في الحقيقة التعويم قد لا يكون له أي علاقة بأسباب تفاقم أزمة الدولار في مصر التي تتلخص في نضوب مصادر العملة الأجنبية، وأبرز هذه المصادر: (السياحة – إيرادات قناة السويس – تحويلات المصريين العاملين بالخارج – الصادرات)، والتي تعد المصادر الرئيسية للعملة الصعبة وبالتالي حدث نقص كبير في المعروض الدولاري مع قفزة كبيرة في الطلب على العملة، لأن مصر تعتمد في استيراد أغلب احتياجاتها من الخارج، والقاعدة الاقتصادية تقول كلما زاد الطلب وانخفض العرض ارتفع السعر، وهذا ما يحدث للدولار في مصر.
والتعويم لا يحل الأزمة بل إن مواجهة الأزمة تتمثل في تنشيط المصادر، هكذا الأمر بكل بساطة، ولكن ما تفعله الحكومة المصرية خلاف ذلك تمامًا، حيث إن الحكومة تلجأ إلى حل المشكلة عن طريق السياسة النقدية “البنك المركزي” ظننًا منها أنه الحل الأسرع أو الأسهل، وهذا خطأ كبير ويكلف البلاد فاتورة باهظة.