في حلقة جديدة من مسلسل الصراع على النفوذ الإفريقي، وبسط الهيمنة العسكرية على جميع مفاصل القارة السمراء، نشرت بعض المواقع تسريبات ووثائق سرية بشأن إنشاء قاعدة طائرات أمريكية في مدينة أغاديس بالنيجر بكلفة 100 مليون دولار، ليضع العديد من علامات الاستفهام حول الهدف الرئيسي من وجود هذه القاعدة في هذا التوقيت بالذات، علمًا بأن هذه المنطقة من أفقر مدن القارة.
القاعدة العسكرية الأمريكية الجديدة المزمع إنشاؤها في دولة النيجر بالإضافة إلى ما يقرب من 12 قاعدة سرية أخرى غير معلن عنها، وبحسب آراء خبراء ومحللين، فإن هناك مخطط أمريكي لإعادة احتلال القارة من جديد بأسلوب حديث ومبتكر، وبموافقة شبه كاملة من قبل الحكومات والنظم السياسية الحاكمة لدول إفريقيا، فهل تنجح أمريكا في تنفيذ هذا المخطط؟
لماذا إفريقيا؟
تمتلك الولايات المتحدة علاقات عسكرية مع 49 دولة من دول إفريقيا الـ 54، بينما تتأرجح العلاقات مع الدول الأخرى، وفي الوقت الذي تعاني فيه إفريقيا من اضطرابات أمنية وسياسية، فضلاً عن التراجع الاقتصادي لدى قطاع عريض من سكانها، إلا أنها باتت في الفترة الأخيرة قبلة للباحثين عن الاستثمار والموارد البديلة، في ظل ما تمتلكه القارة الغائبة عن اهتمام العالم من مقومات جغرافية واقتصادية غير مسبوقة، قد لا تتوفر لدى نظيراتها من القارات الأخرى، وهو ما جعلها مطمعًا للكثير من القوى العالمية الكبرى، من بينها الولايات المتحدة وروسيا والصين والهند.
وفيما يتعلق باهتمام أمريكا بإفريقيا وتوجيه دفة الحضور العسكري والسياسي تجاهها، فيعود ذلك في المقام الأول إلى امتلاكها – إفريقيا – لأهم مضيقين لحركة التجارة العالمية، حيث يمر من خلال قناة السويس معظم البترول الخليجي الذي يصدر للولايات المتحدة وأوروبا (70% من النفط الخليجي)، علاوةً على ذلك يمر من خلال مضيق هرمز 40% من نفط العالم، والذي تسيطر عليه المنطقة الإفريقية من خلال مضيق باب المندب وخليج عدن على الطريق البحرية الموصلة إلى خليج هرمز.
تأمين واستقرار التنقيب عن النفط والمعادن في إفريقيا، يعد أحد أبرز دوافع الولايات المتحدة لإنشاء قاعدة عسكرية خاصة في إفريقيا
ومن ثم تسعى واشنطن إلى إحكام السيطرة على مقاليد الأمور في هذه الممرات الدولية، أو على الأقل ضمان تواجد عسكري قوي يمنح لأمريكا الأفضلية في مواجهة الأخطار المحدقة بها في إفريقيا، خصوصًا في مواجهة التوغل الصيني ثم الروسي والهندي في إفريقيا، والذي تجاوز حد البحث عن فرص استثمارية إلى التدخل في شؤون الدول عسكريًا وأمنيًا.
كما أن تأمين واستقرار التنقيب عن النفط والمعادن في إفريقيا، يعد أحد أبرز دوافع الولايات المتحدة لإنشاء قاعدة عسكرية خاصة في القارة، لا سيما بعد الاضطرابات التي تكررت في حقول النفط في منطقة دلتا النيجر خاصة في الحقول النيجيرية منذ عام 2003، والتي دقت ناقوس خطر لدولة تعتمد بشكل كبير على نفط هذا الإقليم، ويمكن تفهم ذلك في ضوء تقارير استراتيجية أمريكية تشير إلى تلبية القارة الإفريقية 25% من احتياجات الولايات المتحدة من النفط، إضافة إلى التصدي للجماعات الإرهابية، حيث يعد هذا السبب هو المبرر المعلن لتبرير التواجد العسكري الأمريكي في القارة.
وبحسب الإحصاءات يتراوح عدد الجنود الأمريكيين المتواجدين بإفريقيا بين خمسة آلاف وثمانية آلاف فرد، وإن كان هذا العدد يبدو قليلاً في ظاهره، لكنّ الملاحظ في الآونة الأخيرة تكثيف العمليات العسكرية التي تقوم بها القوات الأمريكية هناك والتي تقدر بمتوسط مهمة في اليوم الواحد، من خلال المشاركة في عمليات عسكرية مع كل الجيوش الإفريقية في كل البدلان الإفريقية.
مضيق هرمز والذي يمر من خلاله 40% من نفط العالم
قاعدة واحدة معلنة و12 أخرى سرية
“إنّ جيشنا ينشر أكثر من نصف مليون جندي وجاسوس وتقني ومعلم وموظّفين ومتعاقدين مدنيّين في أمم (أو دول) أخرى، من أجل الهيمنة على محيطات العالم وبحارِه”، بهذه الكلمات استهل تشالمرز جونسون، أبرز مؤرخ عسكري أمريكي، حديثه عن القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة حول دول العالم.
وأضاف: فقد أنشأنا نحو ثلاث عشرة قوّة بحريّة على متن حاملات الطائرات التي تحمل أسماء تلخص إرثنا الحربي، ندير العديد من القواعد السرية خارج أراضينا لمراقبة ما تقوم به شعوب العالم، بمن فيهم مواطنونا، وما يقولونه وما يرسلونه بالفاكس أو البريد الإلكتروني إلى بعضهم البعض، الحرب على الإرهاب ليست أكثر من شعار، فالولايات المتحدة ترفعه كي تخفي طموحها الإمبريالي، لكن الحرب على الإرهاب هي في أفضل حالاتها جزء صغير من الأسباب التي تقف وراء كل تخطيطنا العسكري، فالسبب الحقيقي لبناء هذه الحلقة من القواعد الأمريكية على مدار خطّ الاستواء هو لتوسيع إمبراطوريّتنا وتعزيز هيمنتنا العسكريّة على العالم”.
ويذكر أن القوات الأميركية تمتلك نحو 750 قاعدة عسكرية في أكثر من 130 دولة من دول العالم، تتنوع مهامها المعلنة من القيام بالواجبات العسكرية المباشرة أو أعمال الدعم والإسناد اللوجستي أو القيام بعمليات “حفظ السلام” تحت مظلة الأمم المتحدة، وخلال العقدين الأخيرين، كسبت القوات الأمريكية قواعد عسكرية أكثر من أي وقت مضى في التاريخ.
القوات الأمريكية تمتلك نحو 750 قاعدة عسكرية في أكثر من 130 دولة من دول العالم
وفي إفريقيا تعد قاعدة “ليمونيه” في جيبوتي والتي أنشئت عام 2002 عقب أحداث 11 سبتمبر، بفرقة قوامها 900 جندي أمريكي فقط، هي القاعدة العسكرية الأمريكية الوحيدة التي تم الإعلان عنها بشكل رسمي، كما تعد مقر قوة العمل المشتركة Combined Joint Task Force CJTF “أفريكوم” حيث تقوم بمراقبة المجال الجوي والبحري والبري لست دول إفريقية هي: السودان وإريتريا الصومال وجيبوتي وكينيا، واليمن من آسيا ودول الشرق الأوسط، أي أنها أحد أهم القواعد الأمريكية في العالم تقريبًا.
وبالرغم من التعتيم الواضح على التحركات العسكرية الأمريكية الأخرى داخل القارة، إلا أن صحيفة “زون ميليتار – أوبكس 360” الفرنسية المتخصصة في القضايا العسكرية والاستراتيجية، نشرت تقريرًا مؤخرًا أشارت فيه إلى الانتشار الواسع للقواعد الأمريكية في إفريقيا ووجود ما لا يقل عن 12 قاعدة أمريكية “سرّية” في إفريقيا، تم إنشاؤها وسط تعتيم رسمي شبه كامل للولايات المتحدة الأمريكية حيال هذا الانتشار.
الجنود الأمريكيون أثناء تواجدهم بقاعدة ليمونيه بجيبوتي
قاعدة عسكرية بالنيجر
كشف تقرير نشره موقع “إنترسبت” الأمريكي عن وثائق عسكرية سرية أشارت إلى وجود قاعدة طائرات أمريكية بدون تحت الإنشاء حاليًّا على مشارف مدينة أغدايس بالنيجر، وأن الميزانية المخصصة لهذه القاعدة حوالي 100مليون دولار بما يعكس أهميته لدى القيادة الأمريكية، وهذا المشروع اعتبرته الولايات المتحدة الأكثر أهمية في إفريقيا، ومن المقرر أن يتكلف 100 مليون دولار.
التقرير تطرق إلى أهمية منطقة أغاديس، وهي إحدى سبع مناطق في دولة النيجر، حيث الطبيعة الخلابة، والأشجار الكثيفة، والموارد الاقتصادية الجيدة، كما أنها محطة هامة على طرق اللاجئين والمهاجرين العازمين على الوصول إلى شواطئ أوروبا، ومع ذلك يراها الأفارقة من أفقر مناطق الدولة، كونها من أكثر أماكن تهريب البشر، بينما يراها الأجانب عكس ذلك، فهم يشقون طريقهم إلى هذه المدينة في وسط النيجر، ويرون فيها مستقبلهم.
اختيار الولايات المتحدة للنيجر ليس اختيارًا عشوائيًا، إذ تعد الدولة الإفريقية الوحيدة في المنطقة التي سمحت لأمريكا ببناء قواعد عسكرية بها، لذلك وحسب الموقع الأمريكي، تستعد الولايات المتحدة لإقامة أكبر نموذج يحتمل أن يكون أكثر فتكًا لأحدث الطائرات بدون طيار في النيجر، التي أصبحت مركزًا إقليميًّا رئيسيًّا للعمليات العسكرية الأمريكية، في أغاديس التي ستكون بمثابة البؤرة الاستيطانية لإطلاق الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع للولايات المتحدة.
اختيار الولايات المتحدة للنيجر ليس اختيارًا عشوائيًا، إذ تعد الدولة الإفريقية الوحيدة في المنطقة التي سمحت لأمريكا ببناء قواعد عسكرية بها
التقارير المنشورة قدمت بعض التفاصيل والمعلومات الخاصة بالقاعدة الجديدة، حيث هناك 1830 مترًا معبدًا لمدرج طائرة الشحن والضوء المتنوعة وطائرات الحمولة المتوسطة، فضلًا عن البنية التحتية القياسية للقوات، بما في ذلك التدابير “لحماية القوة”، مثل الحواجز والأسوار، ونقطة مراقبة الدخول، وتقول الوثائق الأمريكية السرية إن النيجر أصبحت الآن بعد جيبوتي ثاني أهم دولة في عمليات مكافحة الإرهاب الأمريكية العسكرية في القارة.
وقال الموقع: مع بدايات 2014 قال النقيب ريك كوك، رئيس قسم المهندسين الأمريكيين في إفريقيا، إن هناك احتمالًا لوجود قاعدة جديدة شبه دائمة في النيجر، وذلك بعد سنوات عديدة ظلت الولايات المتحدة تعتمد على القاعدة الجوية في العاصمة النيجرية نيامي، وأن واشنطن عرضت على النيجر خطط الطائرات بدون طيار في أغاديس، حيث أعلنت السفارة الأمريكية في نيامي أن “أفريكوم” كانت بؤرة الاستخبارات والمراقبة المؤقتة، وأن أغاديس هي الخيار الجذاب الذي اختارته الولايات المتحدة ليكون بؤرتها الاستيطانية الدائمة، لقربها من التهديدات في المنطقة ولموقعها الجغرافي الممتاز في إفريقيا.
وثيقة سرية تكشف عن قاعدة الطائرات الأمريكية الجديدة في أغاديس بالنيجر
وبحسب وثائق قدمت للكونجرس في 2015، فإن هناك مفاوضات بين أمريكا والنيجر بشأن اتفاق يسمح لواشنطن ببناء مدرج جديد للطائرات وجميع الأرصفة المرتبطة، وكذلك البنية التحتية المجاورة للقاعدة المسلحة جنوب مدينة أغاديس، بالإضافة إلى مخيم مطار وقاعدة لدعم العمليات في غرب إفريقيا، وعندما وقع الرئيس أوباما على مشروع قانون الدفاع، صدق على دفع المبلغ المتفق عليه.
وتقول التقارير السرية إن الكونجرس اعترض على التكلفة الحقيقة لهذا الاتفاق، والتي كانت ضعف المبلغ، بالإضافة إلى 50 مليون دولار، كان من المقرر دفعها لبناء القاعدة الجوية 201، والتي ستحتاج مبلغًا إضافيًّا بقيمة 38 مليون دولار؛ للتشغيل والصيانة ولدعم القوات والمعدات الملحقة بها.
الآن وبعد أن باتت أنباء معلومات إنشاء قاعدة طائرات أمريكية في أغاديس بالنيجر شبه مؤكدة حسبما أشارت الوثائق المسربة، فضلاً عن الكشف عن القواعد العسكرية “السرّية” والتي تبلغ 12 قاعدة موزعة على عدد من دول القارة، هل يمكن القول أن المخطط الأمريكي للسيطرة على إفريقيا وبسط نفوذه الكامل عليها في مواجهة التحركات الروسية الصينية بات معلنًا للجميع؟ وما هي سيناريوهات رد فعل القوى الدولية الفاعلة داخل القارة حيال هذه التحركات التي قد تهدد نفوذهم الإفريقي مستقبلاً؟