ترجمة من الفرنسية وتحرير نون بوست
منذ نهاية خمسينات القرن الماضي، شهد هذا الموقع المقدس في السعودية تحولات غير مسبوقة، حيث تهدف الأشغال الكبرى إلى تطوير المدينة وتوسيعها حتى تستقبل أكبر عدد من أفواج الحجيج الوافدين لتأدية فريضة الحج.
صرح المصور الإيطالي، لوكا لوكاتلي رفقة زوجته التي تشاهد صورًا التقتطها خلال زيارتهما لمكة المكرمة قائلاً: “لا إنها ليست دبي بل هي مكة”، ثم واصل الإيطالي الكاثوليكي، المتزوج من إندونيسية مسلمة، وهو يتصفح صور شهر العسل في مكة قائلاً؛ “متى تأملت هذه الصور تجد ناطحات سحاب عملاقة وأناس يجلسون في المطاعم والمحلات الفخمة وقد أيقنت بأني لن أعود أبدًا لذلك المكان، وإنني قد أدركت، مثل كثير من الناس، صعوبة إدراك ما الذي تمثله مكة بالضبط”.
ما زال لوكا مندهشًا من المعمار فوق العصري لأكثر مكان مقدس لدى المسلمين، وبفضل علاقاته مع السفارة السعودية وزواجه من مسلمة، تحصل أخيرًا على رخصة للعمل لإنجاز تحقيق صحفي حول مكة المكرمة، وقد علق لوكا أنه “في البداية كنت خائفًا قليلاً لأن رؤية ناطحات السحاب والفنادق الفخمة مع محلات الأطعمة السريعة قد يستفز المسلمين، ولكنني كنت مخطئًا، وقد اعتبرت أنه من الممكن أن تحاول السعودية إخفاء هذا المجتمع الاستهلاكي عن هذه المدينة العقائدية، لكنني كنت مخطئًا أيضًا لأنني تحصلت مباشرة على الرخصة مع تسهيلات لباقي الإجراءات”.
إن الأشغال بمكة لا تتوقف حيث تتطلع شركة تتبع ولي ولي العهد محمد بن سلمان لإنهاء المرحلة الأخيرة من أشغال بناء 78 بابًا للجامع الكبير.
ومنذ 1400 سنة، تعتبر مكة، التي تبعد قرابة 90 كيلومترًا عن جدة ثاني أكبر مدن السعودية الواقعة قرب البحر الأحمر، القلب النابض للعقيدة الإسلامية، ويزورها سنويًا ملايين الحجاج.
كانت مكة، أو بيت الله الحرام، إلى حدود خمسينات القرن الماضي محاطة بمنازل قديمة وبجبال وهضاب مقدسة.
في هذا المكان أيضًا يوجد المسجد الحرام، أكبر مسجد في العالم يحيط بالكعبة، كذلك يمكن أن نلاحظ الطابع المعماري العثماني الذي يعود إلى القرن السادس والسابع عشر مع أعمدة من القرن الثامن، خلال هذه العصور، كان الحجيج يتوافدون من إسطنبول، أصفهان ودلهي إما سيرًا على الأقدام لمدة أشهر أو على عربات وإبل، أما الآن، فإنهم ينزلون في مطار جدة أين لم تعد ترى أثرًا للمباني القديمة، حيث أصبحت الجبال والهضاب في نفس مستوى الارتفاع.
في سنة 2014، أكدت جامعة بريطانية أن السعودية دمرت قرابة 98% من مواقعها التاريخية والدينية، وفي سنة 2012، وقع تدمير قلعة “أجياد” الأثرية التي تعود للقرن الثامن عشر من أجل تشييد مركب يتكون من سبعة ناطحات سحاب، تبلغ طول الواحدة منها 601 مترًا مع تركيز ساعة ضخمة في القمة أكبر من ساعة “بيغ بين” اللندنية.
ولكن من هي أكثر الشركات الراعية لهذه المشاريع في مكة؟ إنها مجموعة بن لادن وهي مجموعة بناء عقاري تابعة لعائلة أسامة بن لادن.
كما وقع، سنة 2008، تشييد فندق فخم تابع لسلسلة فنادق “هيلتون” على حساب منزل أبو بكر الصديق أحد الصحابة وأول خليفة في الإسلام، وقد واصلت مؤسسة بن لادن، التابعة لعائلة العقل المدبر لتفجيرات 11 سبتمبر/ أيلول سنة 2001 أسامة بن لادن، في إنشاء خطوط للمترو تربط مكة بباقي المدن المعنية بالحج مثل منى ومزدلفة وعرفات، بالإضافة إلى ذلك، وقع توسيع الجامع الكبير مع إنشاء سلالم متحركة وحمامات.
بدأت سنة 1960، هذه التغييرات تتكيف مع عدد الحجيج الذي يتزايد كل سنة، ففي سنة 2015، بلغ عدد الحجاج الوافدين إلى مكة قرابة 14 مليون حاج وتشير التوقعات إلى زيادة عددهم إلى 17 مليون حاج خلال سنة 2025، وقع الإعلان عن المرحلة الأخيرة من الأشغال سنة 2011 بتكلفة قدرت بين 21 و26 مليار دولار حسب إدارة الإحصاء السعودية.
وقد بلغ عدد الحجيج 57 ألف حاج خلال سنة 1921، ووصل إلى مليوني حاج السنة الماضية، وعلى الرغم من أن أيام الحج تبقى بين خمسة وستة أيام، إلا أن بعض الحجيج أطالوا البقاء بعد نهاية المناسك.
أكد وزير الحج أن مكة تستقبل كل سنة قرابة 3 مليون حاج و5 ملايين معتمر على طول السنة، وقد أجبر هذا التدفق الكبير المملكة على العناية بالبنية التحتية لضمان سلامة الحجيج، كإنشاء مظلة كبيرة للوقاية من موجة الحر الشديد، لكن هذه المرافق لا تمنع وقوع حوادث، ففي السنة الماضية سقط حوالي 2431 شخصًا على خلفية تدافع أعداد الحجيج الغفيرة.
تحتوي مكة على المركز التجاري “أبراج البيت” أين يتسوق الحجيج، وتشير التوقعات إلى أن الحج والعمرة يدران على الاقتصاد السعودي قرابة 18 مليار دولار سنويًا.
أصبحت مكة، بعد هذه الأشغال الكبرى، مركزًا تجاريًا، حيث نجد محلات للأطعمة والأناقة مثل “روليكس” وفروع تابعة لباريس هيلتون التي تبتعد كثيرًا عن الكعبة المشرفة.
تحول موسم الحج ومدينة مكة المكرمة إلى أقطاب تجارية مما جعل الحصول على تأشيرة للسعودية خلال الحج أمرًا صعبًا حيث تبلغ تكلفة الحج بين 4 و6 آلاف يورو، حيث تختلف هذه النسبة حسب كل دولة، وقد أجبرت هذه التكلفة العالية بعض الحجيج على اتباع سياسة التقشف لسنين طويلة من أجل جمع تكاليف الحج، والجدير بالذكر أن قضاء ليلة واحدة في أحد النزل المطلة على الكعبة المشرفة قد يكلفك بين 1700 و2500 دولار.
مع العلم أن المملكة تقدر مداخليها من النفط في سنة 2014 بحوالي 213 مليار دولار مع 18 مليار دولار متأتية من مداخيل الحج والعمرة، حيث اعتبرت الحكومة الأمريكية أن النفط والحج يمثلان ورقة رابحة للاقتصاد السعودي، معتبرة أن النفط سيزول يومًا ما أما الحج، فسيبقى دائمًا في مكة المكرمة.
رغم ذلك، يعتبر البعض أن هذا التغيير المعماري أضر بالجانب الروحاني والديني خلال موسم الحج أين يتحد كل المسلمين رغم اختلافاتهم (غني وفقير، متعلم وأمّي…) لعبادة الله الواحد، ويشترك المسلمون في لباس الإحرام الأبيض، حيث يلبس الرجال قطعتين اثنين من القماش لتغطية الجسم، أما النساء فيلبسن سترة طويلة تكشف عن الوجه واليدين فقط.
في حالة انتهاء الشعائر مثل الطواف بالكعبة المشرفة، يواصل الحجيج تنقلهم داخل منى ومزدلفة وإذا أنجزت حجك على أكمل وجه، فبإمكانك تمضية باقي الإقامة كما تريد وليس بشرط أن تأكل في أيام الحج فقط الخبز وتنام على الأرض.
بالنسبة لمسلمي العالم أفضل مناسك الحج التي لا تمحى من الذاكرة هي أن تقف مباشرة أمام الكعبة المشرفة وتلتقط صورة سيلفي!
هذا التقدم المعماري والعصري الذي شهدته مكة المكرم يترجم سياسة المملكة السعودية التي أتبعت منهج الرأسمالية منذ تصديرها للنفط مما يجعلها دولة تغري الأغنياء للتمتع بفنادق ومحلات تجارية فخمة تنافس كلاً من أبو ظبي ودبي.
في حين أن السعوديين لا يرفضون هذا الازدهار حتى لو جاء على حساب المعالم الإسلامية.
وختم لوكا لوكاتلي قائلاً “إن هذا جزء قليل مما أردت أن أبيّنه، لأن الحج أو السياحة في مكان مقدس يعتبران نفس الشيء، سوف تصلي ثم ستذهب إلى المطعم وستشتري بعد ذلك هدايا للعائلة والأقارب وستختم هذه الزيارة بصورة سيلفي، وهو نفس الشيء الذي يحدث في سان بيير في مدينة بيناريس”.
المصدر: صحيفة لوموند